مأزق مبدأ حق التحرك للأفراد: الأمن قبل الديمقراطية

بين الإجراءات الأوروبية للحدّ من تدفق الهجرة ومساعي إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لتلافي عراقيل إنفاذ قرار حظر دخول بعض مواطني دول عربية وإسلامية، يواجه حق التحرك أو التنقل للأفراد بحرية مأزقا غير مسبوق في العالم، حيث ترى منظمات حقوقية أن تلك الخطوات تعدّ انتهاكا لأحد أبرز حقوق الإنسان التي كفلتها المواثيق والاتفاقيات الدولية، بينما تبرّرها بعض الحكومات الغربية بحماية أمنها من التهديدات.
تجلّى ذلك المأزق أيضا مع تصاعد أزمة السفن الإغاثية التابعة لمنظمات غير حكومية والتي تعمل في إنقاذ المهاجرين من خطر الموت أثناء فرارهم إلى أوروبا، إذ سعت السلطات الليبية والإيطالية لتحجيم تلك السفن عبر فرض قيود على نطاق عمليات البحث والإنقاذ من قبل خفر السواحل أمام طرابلس ومحاولة روما فرض مدوّنة سلوكية تشترط وجود رجال شرطة تابعين لها على متن السفن، وتنظر لأنشطة تلك المنظمات على أنها تسهّل عبور المهاجرين للسواحل الإيطالية.
بينما واجهت المنظمات غير الحكومية، منها أطباء بلا حدود، هذه القيود بتعليق عملياتها الإغاثية في المتوسط واعتبرتها مخالفة للقانون الدولي الذي يمنع إعادة اللاجئين قسرا إلى بلدانهم.
في المقابل رحبت الحكومة الإيطالية بجهود خفر السواحل الليبي، في ظل تقارير تشير إلى انخفاض أعداد المهاجرين إلى سواحلها خلال الشهر الماضي بنسبة تصل إلـ50 بالمئة، بما قد يخفف حدة تلك الأزمة بعد أن بلغت تدفقات الهجرة واللجوء على سواحل إيطاليا قرابة الـ600 ألف شخص خلال السنوات الأربع الماضية.
تسييج الحدود
تمدّد مأزق حركة الأفراد إلى دول شرق أوسطية وصار ينحو أكثر باتجاه التسييج الحدودي فيما بينها خشية ما يرافق تحركات الأفراد من تهديدات أمنية باتت متصاعدة في المنطقة بعد الثورات العربية. وأدى انتشار تهديدات المعضلة الأمنية الليبية في شمال أفريقيا إلى شروع كل من الجزائر وتونس في بناء أسوار حدودية منذ العام الماضي للحد من تسرب أفراد تابعين لتنظيمات إرهابية.
|
غير أن نظرة أكثر عمقا لمأزق حق التحرك الذي تعرّفه المادة 13 من الميثاق العالمي لحقوق الإنسان بأنه تمتّع الفرد بالتنقل دون قيود داخل الدولة أو عند خروجه منها أو عودته إليها أو لدى دخوله لدول أخرى أو عند عودته تكشف عن جدال محتدم على صعيد الفكر والممارسة بين واجب الدول في حماية مجتمعاتها وأمنها وهوياتها، إذا شكل حق تحرك الأفراد خطرا عليها ومدى الالتزام الأخلاقي والإنساني بفتح حدودها إنفاذا لذاك الحق الإنساني.
يرجع الجدل إلى ارتباط حق التنقل في الفكر الليبرالي الغربي بمسوّغين رئيسيين، الأول أخلاقي إنساني ويذهب إلى أن انتشار الحريات والمساواة وحقوق الإنسان والعدالة والديمقراطية يؤدي إلى التخلص من الصراع بين الدول، أما الاتجاه الآخر فهو نفعي براغماتي ينظر لتحرك الأفراد كمصدر لنقل العقول والخبرات البشرية بين الدول، كما في حالتي أوروبا والولايات المتحدة حيث لا يمكن لهما إنكار إسهامات المهاجرين واللاجئين في بناء قوّتهما في النظام العالمي.
تكرّس ذلك الاتجاه البراغماتي في المنظور الغربي مع ربط حق التحرك بحريات أخرى للتجارة والأسواق في سياق العولمة، وما رافقها من دعم لحريات الانتقال العابر للحدود للأفراد والسلع والأفكار بمقتضى نظرة رأسمالية ترى في إزالة الحواجز التجارية بين الدول مدخلا لرفع معدلات التفاعل بين المجتمعات وزيادة قوة القطاعات المنتجة. وشكل الأمر الأساس الفكري الذي بنيت عليه تجارب التكامل الإقليمي وخاصة الاتحاد الأوروبي الذي سهّل الحركة بين مواطني الدول التابعة له عبر فيزا الشينغن.
تعرض هذا التوجه الرأسمالي المهيمن في العقدين الأخيرين والداعم لحق التنقل إلى انتكاسة مضادة بفعل تغير السياقات الدولية في الآونة الأخيرة، ومع انتشار النزاعات المسلحة والإرهاب العابر للحدود والجريمة المنظمة وتدفقات الهجرة واللجوء من الشرق الأوسط إلى أوروبا تصاعدت معضلة الأمن وتمسّكت الدول أكثر بسيادتها خوفا من أيّ تأثيرات سلبية على مجتمعاتها قد يفرزها انتقال الأفراد بحرية عبر الحدود.
وتعززت مخاوف الغرب مع تحول حركة الأفراد من الجنوب إلى الشمال إلى ذهاب دون عودة في ظل أن مناطق الصراع والفقر الدافعة لتلك التحركات باتت تحتاج إلى أوقات طويلة إما لتسوية نزاعاتها سلميا أو تحسين أوضاعها التنموية، كما حال صراعات مثل ليبيا وسوريا واليمن تمددت زمنيا دون استعادة السلام والاستقرار.
وفرض ذلك عبئا أمنيا واقتصاديا وهوياتيا على الدول ودفعها لانتهاج سياسات تقييدية على تحركات الأفراد خاصة القادمين من مناطق الصراعات، مثل التعاطي الأردني واللبناني الذي فرض قيودا على تدفقات اللجوء من الصراع السوري، خشية تأثيره على بنيتهما الاقتصادية والسكانية والمجتمعية، بل وطبيعة التوازنات السياسية داخل البلدين.
مأزق حركة الأفراد يتمدد إلى دول شرق أوسطية وصار ينحو أكثر باتجاه التسييج الحدودي فيما بينها خشية ما يرافق تحركات الأفراد من تهديدات أمنية باتت متصاعدة في المنطقة
انعزالية مضادة
شهد العالم اتجاهات انعزالية مضادة لفكرة العولمة حتى أن الولايات المتحدة -القوة الليبرالية الكبرى في العالم- باتت أكثر انكفاء وحمائية مع تبنّي الرئيس ترامب شعار “أميركا أولا”، بل إن الديمقراطية الأوروبية تعاملت هي الأخرى مع حق التنقل للأفراد وخاصة اللاجئين والمهاجرين على أنه تهديد ينبغي إبعاده إلى دول أخرى تتحمل مسؤوليته مقابل تعهدات أمنية ومالية.
مثلا وقّعت إيطاليا وحكومة الوفاق الليبية في فبراير 2017 اتفاقا كان مضمونه تمويل مخيمات المهاجرين في ليبيا، مقابل دعم تنموي وتعاون أمني مع حكومة الوفاق الليبية لتدريب خفر السواحل لمواجهة تهريب البشر، وكذلك يبرز الاتفاق التركي-الأوروبي في مارس 2016 والذي تعلق بالحدّ من تدفق المهاجرين واللاجئين مقابل ميزات سياسية ومساعدات مالية لأنقرة.
أخذت فكرة إبعاد حق التنقل والتنصل الأوروبي من أيّ التزامات أخلاقية وإنسانية عالمية زخما أكبر مع صعود اليمين المتطرف المؤيد للقيود على دخول الأفراد إلى المجتمعات الأوربية تخوفا من التغيير الهوياتي والقيمي وفي ظل انتشار ظاهرة الإسلاموفوبيا والحوادث الإرهابية في فرنسا وبريطانيا وألمانيا ومؤخرا إسبانيا، بخلاف تعرض التجارب الإقليمية فوق القومية -التي عززت حرية التنقل عالميا- للإضعاف، كما الحال بعد الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي (البريكسيت).
وتكمن المعضلة الغربية في التعاطي مع حق التنقل للأفراد في تركيز دولها على آثار ذلك الحق أكثر من محفزاته، فمثلا، نجد أن الحكومات الأوروبية تبذل جهودا مكلفة لبناء أنظمة لمراقبة الحدود للحد من اللجوء والهجرة، بينما لا تتعامل بذات الفعالية مع العوامل الدافعة لهذا الظواهر مثل الصراعات المسلحة في الشرق الأوسط، والتي لا يمكن إغفال إسهام القوى الغربية في مدّ أمدها، بما أسهم في خلق بيئة أمنية فوضوية طاردة للأفراد.
هنا، تطرح حالة ليبيا سؤالا منطقيا حول: ألم يكن من الحصافة على الأوروبيين توفير نفقات العملية صوفيا التي أطلقت عام 2015 للحدّ من هجرة اللاجئين والمهاجرين عبر المتوسط، لو كانت لديهم سياسات جادة لتكريس الاستقرار وبناء المؤسسات بعد سقوط القذافي بدلا من ترك هذا البلد نهبا للميليشيات والجريمة المنظمة التي وفرت معبرا غير شرعي لتحرك الأفراد إلى أوروبا.
|
السؤال ذاته مطروح في سوريا التي خلفت أكبر أزمة لاجئين في العالم وإن اختلف السياقات، فبعدما استفادت دول غربية، كألمانيا ببراغماتية بأكثر من مليون لاجئ لتعديل هيكلها السكاني الذي أصابته الشيخوخة عادت لتغلق أبوابها وتوظف تركيا كـ”شرطي متقدم” لوقف تدفقات اللجوء الأخرى.
المشكلة أن الخطأ الغربي يتكرّر ثانية بعد أكثر من ست سنوات من الصراع الليبي عندما تتهم تقارير غربية إيطاليا بتمويل جماعات مسلحة في غرب ليبيا تحت غطاء حكومة الوفاق لمنع الهجرة عبر المتوسط، دون إيلاء أهمية للانتهاكات الإنسانية وتعذيب المهاجرين في مراكز الاعتقال الليبية التي حذرت منها منظمات حقوقية دولية، الأمر الذي جعل حرية حق التحرك للأفراد نوعا من العقاب لهم إذا أقدموا عليها.
أخيرا، فإن مأزق حق حرية التنقل الراهن في العالم يعكس الانتقائية الغربية في التعامل معه مقارنة بحقوق وحريات أخرى، حيث يبدو أن هناك عدم اتساق أخلاقي في سياسات الرأسمالية الغربية التي تدعم حرية انتقال السلع والخدمات كي تستطيع الولوج التجاري غير المقيد لأسواق الدول النامية، بينما تتنكر بالمقابل لحرية الأفراد خاصة القادمين من الجنوب الفقير عندما باتوا يشكّلون تهديدا لها.
ويمكن القول إن ثمة مسؤولية للدول الغربية عن تزايد تدفقات الهجرة لها من الدول الفقيرة، لا سيما وأن النماذج الرأسمالية للنمو والإصلاح الاقتصادي التي فرضتها هذه الدول على نظيرتها في الجنوب فشلت في توفير بيئات تنموية وسياسية تحدّ من تحرّك الأفراد للهجرة بحثا عن حياة معيشية أفضل.