ليبيا.. رهان حذر على الخيار الانتخابي في ذكرى الصخيرات

لم تكن مفارقة أن تتواكب الذكرى الثانية لاتفاق الصخيرات المتعثر منذ توقيع الفرقاء الليبيين عليه في 17 ديسمبر 2015، مع تصاعد الاتجاهات الداخلية والخارجية الداعمة للجوء إلى الخيار الانتخابي في ليبيا خلال العام 2018.
ويراهن البعض على أن تعيد الانتخابات فرز موازين القوى الداخلية في ليبيا، بما قد يسمح بظهور تيار عام يمتلك شرعية فرض مسار السلام بدلا من متاهات الانقسام التي طالت خطة المبعوث الأممي غسان سلامة، كما برز في جولات التفاوض حول تعديل الاتفاق في تونس.
في المقابل، فإن آخرين يخشون من أن تؤدي الانتخابات إلى إعادة إنتاج دورة الصراع الليبي مجددا، ما لم تتأسس على التوافق على تعديلات الصخيرات وإقرار الدستور والمصالحة الوطنية، كما تقضي مراحل خطة المبعوث الأممي ما قبل عقد هذه الانتخابات.
ويستدعي ذلك الرأي شواهد الانقسام في السلطة والاقتتال الداخلي التي أعقبت ثلاثة استحقاقات مرت بها ليبيا، سواء إبان انتخابات المؤتمر العام في 2012 أو انتخابات كل من هيئة صياغة الدستور ومجلس النواب في 2014.
مؤشرات متصاعدة
يصعب عمليا إجراء الانتخابات في الظرف الليبي الراهن، خاصة وأن التهيئة لعقدها (فنيا وتشريعيا وسياسيا وأمنيا) قد تستغرق عدة أشهر، لكن اللافت أن المؤشرات حولها تأخذ زخما متصاعدا بين قوى الداخل والخارج في ذكرى الصخيرات.
وخرجت مواقف لقوى غربية داعمة للمسار الانتخابي خلال شهر ديسمبر الجاري، كما الحال مع تصريح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، إبان زيارته للجزائر مؤخرا، والذي عبر من خلاله عن أمله في تنظيم انتخابات ليبية في الأسابيع المقبلة، وكذلك وزير الخارجية الإيطالي أنجيلينو ألفانو إبان لقائه مع المشير خليفة حفتر الذي زار روما قبل أيام للمرة الثانية خلال هذا العام.
وتلقفت القوى الداخلية الخيار الانتخابي لتبرز تصريحات متواترة ترفق عادة بمشروطيات نجاحه، كما الحال مع فائز السراج، رئيس حكومة الوفاق الوطني، وعقيلة صالح، رئيس مجلس النواب، بل إن الأخير التقى بالفعل قبل أيام رئيس المفوضية العليا للانتخابات عماد السايح لمناقشة مدى استعداد المفوضية للإشراف على تنظيم ذلك الاستحقاق.
وقبل ذلك، ذهب عبدالرحمن السويحلي، رئيس مجلس الدولة، إلى أن الانتخابات تشكل حلا إذا فشل الاتفاق على تعديلات الصخيرات، ولكنه أظهر ترددا في تصريحات أخرى يوم 12 ديسمبر قال فيها “إن الظروف الراهنة لا تساعد على إجراء الانتخابات”.
|
والواضح أن الزخم حول الخيار الانتخابي تصاعد قبل أيام من حلول ذكرى مرور عامين على توقيع اتفاق الصخيرات، في ضوء أمرين لافتين في المشهد الليبي:
◄ لا يوجد بالأساس خلاف بين الفرقاء الليبيين على آلية عقد الانتخابات في العام القادم من عدمه، فسبق لكل من السراج وحفتر أثناء لقائهما في باريس الاتفاق حول ذلك الأمر. ونظمت ليبيا من قبل انتخابات ما يعني أنها قادرة حتى في الظروف الراهنة على عقد أخرى من الناحية الفنية والتشريعية.
لكن المشكلة تكمن بالأساس في البيئة السياسية التي ستتم فيها تلك الانتخابات، والتي تتعلق معضلتها في التباين حول تعديلات الصخيرات والتي حالت دون منح الثقة لحكومة الوفاق، كما برز مثلا حول آلية اختيار المجلس الرئاسي بعد تعديله ليضم رئيسا ونائبين.
◄ أن غسان سلامة، الذي أعلن نهاية الشهر الماضي إبان وجوده في مصراتة، إمكانية إجراء الانتخابات، حتى لو لم يتم التوصل إلى اتفاق حول السلطة التنفيذية كان قد وضع شروطا تقنية وتشريعية وسياسية، كي تؤتي الانتخابات أكلها في دعم الاستقرار، ثم عاد مرة أخرى، إبان زيارته لغريان قبل أيام للقاء ممثلين عن البلديات ومجلسي النواب والأعلى للدولة، ليقول إنه لم يدع إلى إجراء الانتخابات، وإنما بدء العمل على توفير الشروط اللازمة لعقدها، لأنها تتطلب شهورا طويلة من العمل.
ويمكن تفسير تصاعد الزخم حول الخيار الانتخابي في ليبيا بعدة عوامل أساسية من أبرزها، وجود مخاوف داخلية وخارجية من انهيار مرجعية اتفاق الصخيرات مع حلول الذكرى الثانية له دون إنفاذه، ما يعني العودة إلى مربع الصفر، وكان لافتا تزامن ذلك مع جولات للسراج في الولايات المتحدة ومصر.
واستطاع الرجل الحصول على دعمهما لتمديد صلاحية الاتفاق والمجلس الرئاسي إلى حين عقد انتخابات وبناء سلطة تشريعية وتنفيذية جديدة، وهو أمر قد يشكل مخرجا خارجيا لمواجهة الجدل حول انتهاء ولاية حكومة الوفاق ذاتها من عدمه، والتي لم تحظ أساسا بثقة مجلس النواب، منذ أن دخلت طرابلس في مارس 2016 واعتمدت على الدعم الميليشياوي لتكريس سلطتها الهشة.
ويبدو أن سلامة كوسيط دولي لديه خبرة تفاوضية في الصراعات، استشعر أن بعض الأطراف الليبية تجرّه إلى خانة المراوحة التفاوضية دون الخروج بنتيجة تمضي بخطته إلى الأمام في ليبيا، وربما ناور بالضغط بالخيار الانتخابي الذي يدرك هو نفسه أنه يصعب عقده دون توافر شروطه وأهمها، قبول الفرقاء لنتائجه.
وبدا لجوء سلامة إلى ذلك الضغط، إثر تعثر التوافق على الصيغة التي اقترحها لتعديل الصخيرات، وبينما أخذت موافقة من مجلس النواب في الشهر الماضي، فقد رفضها المجلس الأعلى للدولة والذي دخل بدوره في مواقف متضاربة ومنقسمة مع قوى سياسية في الغرب الليبي حول تعديلات الاتفاق، خاصة مع العدالة والبناء الإخواني، والذي يجد في الخيار الانتخابي ملاذا لاستعادة قوته بعد حالة الإضعاف التي عانى منها في العامين الماضيين بفعل انقسام تحالفات الغرب.
خيار كاشف
ترتبط الدوافع السابقة بإبقاء صلاحية اتفاق الصخيرات لغياب بديل له سوى الحل العسكري أو الضغط على الفرقاء لتعديل مواقفهم حول تعديلات الاتفاق، والتي لا تمنع من القول إن الخيار الانتخابي في ليبيا قد يمثل أهمية قصوى الليبي في حال التوافق على مشروطياته.
|
وقد يمثل ذلك الخيار حالة كاشفة لمدى انعكاس تغييرات موازين القوى العسكرية على ترتيب وأوزان القوى السياسية بعد عامين من اتفاق الصخيرات لأن الانتخابات التشريعية في عامي 2012 (المؤتمر الوطني العام) و2014 (مجلس النواب) تمت في سياقات من اللاحسم الميداني بين قوى الشرق والغرب.
بينما الانتخابات القادمة سوف تجري في سياق موازين قوى عسكرية مختلفة نسبيا، فالجيش الليبي يسيطر على ثلثي البلاد تقريبا (الشرق، والنفط في الوسط، ومناطق إستراتيجية في الجنوب)، وهو ما يقدره البعض جغرافيا بنصف سكان ليبيا تقريبا.
وبالتالي، تشكل انتخابات 2018 المتوقعة تغييرا في المشهد الليبي عن حالتي 2012 و2014 من زاويتين، الأولى: أنها تصب في صالح القوى السياسية للشرق المتحالفة مع الجيش الوطني، بما يحولها إلى تيار سياسي عام مهيمن يفرض قواعد السلام ما لم تتدخل عوامل أخرى في صيغة القانون الانتخابي لتحجم ذلك أو تراعي طبيعة الانقسامات على أسس مناطقية وقبلية وسياسية وحزبية.
وعرفت نتائج الانتخابات الماضية في ليبيا تراتبية مستقرة تتعلق بتصدر قوى مدنية (تحالف القوى الوطنية) على حساب نظيرتها الإسلامية (العدالة والبناء) والمستقلة، وإن تكررت مثل تلك التراتيبة في الانتخابات القادمة فربما تأخذ وضعية أكثر تأثيرا في الواقع الليبي، لأنها ستكون مدعومة عسكريا عندئذ بسيطرة لحفتر وحلفائه في الشرق، ما يعيق خطف نتائج الانتخابات على أيدي الميليشيات المسلحة، كما حدث في 2012، عندما أصدر بعدها المؤتمر الوطني العام قانون العزل السياسي في 2013 لإقصاء قيادات في تحالف القوى الوطنية ارتبطت بنظام القذافي، وهو ما جعل مجلس النواب يلغي هذا القانون لاحقا في 2015.
بينما أعقب انتخابات مجلس النواب في 2014 اندلاع حرب أهلية في صيف هذا العام بين تحالفات الشرق والغرب كرست الانقسام بين حكومتين وبرلمانين لكل منهما ظهير عسكري، وزاد ذلك بحكومة ثالثة (الوفاق الوطني) تعثرت أيضا في تكريس سلطتها.
أما الزاوية الثانية، فتتعلق بأن عقد انتخابات في ليبيا خلال العام القادم قد يمثل مدخلا لتثبيت موازين القوى العسكرية ذاتها تحت المظلة السياسية المدنية التي تفرزها الانتخابات، وهو أمر لا يخلو من رغبة أوروبية وأميركية تتجلى في رفض أي سيناريو لحفتر لاقتحام طرابلس.
وبدا ذلك الرفض للخيار العسكري وتفضيل نظيره السياسي عندما وصف وزير الخارجية الإيطالي أنجيلينو الفانو إبان لقائه مع حفتر قبل أيام “الانتخابات بقطار تم تحديد وجهته” وأن السؤال يبقى فقط “حول سرعته”، أي موعد عقدها.
وتلقى ذلك الاتجاه دعما من توافق بين الضباط الليبيين الذين يتفاوضون منذ أشهر في القاهرة على إخضاع القيادة العسكرية إلى قيادة مدنية (رئيس المجلس الرئاسي سيكون قائدا عاما للجيش).
عوائق مطروحة
مع أهمية التسليم بالخيار الانتخابي، فإن العوائق لا تتعلق فقط بمدى توافر مشروطياته من عدمه، لكن بأمور أخرى تنصرف أكثر للمخاوف من نتائجها المتوقعة على المشهد الليبي.
ومن ناحية، فإن هشاشة تحالفات الغرب مقارنة بالشرق الليبي قد تجعل الخيار الانتخابي محفوفا بالخطر، ما يجعل السويحلي مثلا مترددا في مدى ملائمة الظروف لعقد انتخابات من عدمه. ومن ناحية أخرى، يظهر تحدي أنصار القذافي الذين ينتظرون الانتخابات كي تكون فرصة لاستعادة دورهم السياسي ولو جزئيا، وهو ما يتوقع أن يسهم في تحريك موازين القوى السياسية في نتائج انتخابات 2018 على خلاف انتخابات 2012 و2014، لأن سيف الإسلام القذافي خرج من معتقله في الزنتان في يونيو الماضي، كما أن خطة غسان سلامة تسعى لاستيعابهم كمدخل لاستقرار هذا البلد.
صحيح أن ملاحقة المحكمة الجنائية الدولية لسيف الإسلام القذافي قد تعرقل من استعادة دوره السياسي شخصيا، لكن على الأقل فإن أنصاره يحشدون للحظة عودتهم كفصيل سياسي مؤثر، لأن البيئة العدائية تراجعت نسبيا إزاءهم، سواء لأن ثورة 17 فبراير لم تحقق الاستقرار المأمول الذي يطمح إليه الليبيون، أو لأنه برزت مصالحات قبلية خلال العام الجاري هدأت من التوترات، كتلك التي جرت بين مصراتة وتاورغاء في يونيو الماضي.
ويمثل الخيار الانتخابي مصدرا لقلق القوى الإقليمية والدولية، التي ترتبط بتحالفات مع أطراف النزاع الداخلي، ومحتمل أن يصب الخيار الانتخابي في صالح الدور المصري في ليبيا أكثر من نظيره الجزائري، بحكم ما تملكه القاهرة من علاقات وثيقة مزدوجة سواء مع القوى المدنية في الشرق الأكثر حظا في الانتخابات القادمة أو القوى العسكرية.
ويخشى الجزائريون من أن حلفاءهم في الغرب الليبي يعانون انقسامات سياسية وضعفا عسكريا بما قد يؤثر على فرصهم في الخيارات الانتخابية القادمة.
|
وبالمثل أيضا، فإن بعض القوى الدولية التي تظهر كداعمة للخيار الانتخابي تنتابها هواجس مماثلة من أن تؤدي نتائج ذلك الخيار إلى تهميش مصالحها والتي تنامت في انقسام قوى الشرق والغرب على اتفاق الصخيرات ذاته.
ومع وجود سلطة تشريعية جديدة تفرزها الانتخابات، فقد يؤدي ذلك إلى إعادة النظر في اتفاقات حكومة الوفاق مع الإيطاليين مثلا حول الهجرة، والاتفاقات الاقتصادية مع ألمانيا حول استثمارات الغاز والكهرباء، بخلاف بريطانيا التي تمثل إحدى القوى الداعمة للإسلاميين في طرابلس وتخشى من تهميشهم في الانتخابات القادمة.
ومع قبول القوى الغربية للخيار الانتخابي في ليبيا، فإنها تتحسّب كي لا تؤدي نتائجه إلى خسارة ما جنته من دعم لحكومة الوفاق في الغرب، ولعل ذلك مثلا جعل الايطاليين يذهبون لتخفيف التوتر مع حفتر كونه قوة أساسية تتيح لهم منفذا في الشرق بعد تحركاتهم الحثيثة غربا وجنوبا.
وتنظر روسيا للبيئة الليبية الراهنة على أنها غير مواتية للانتخابات وعقدها يستلزم موافقة موثقة على نتائجها من القوى السياسية، كما عبر مؤخرا رئيس فريق الاتصال الروسي في الأزمة الليبية ليف دينغوف.
وتخشى موسكو التي تتمدد جيوسياسيا في الشرق الأوسط، من أن تضعف نتائج الانتخابات حليفها حفتر كرهان عسكري تراه مطروحا، إذا تعذر الاتفاق كليا أو توسع الانقسام المناطقي، بما يسمح للقوى الأوربية بتكريس مصالحها وخاصة في الغرب الليبي.
ولعل ذلك ما يجعل روسيا تطرح نفسها كوسيط وطرف في آن واحد وتتراوح مواقفها بين الأطراف الليبية المختلفة، فتارة تلوح بإمكانية رفع حظر السلاح عن حكومة الوفاق على لسان نائب وزير الخارجية جينادي جاتيلوف، وتارة أخرى يدعو رئيس فريق الاتصال الروسي للحذر في هذه المسألة، وتارة ثالثة يدعم وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف إبان استقباله لوزير الخارجية في حكومة الوفاق محمد سيالة لخيار مؤتمر المصالحة الوطني لحل أزمة الانقسام في هذا البلد.
ويظل في الأخير أن البيئة الليبية الراهنة تختلف في موازينها السياسية والعسكرية داخليا وخارجيا عن لحظة توقيع الصخيرات قبل عامين، ما يجعل الخيار الانتخابي كمسار محتمل في 2018 يسهم نظريا في الدفع باتجاه إنفاذ الاتفاق السياسي، لكن إن توفرت له مشروطيات القبول الداخلي وتوافق النتائج المتوقعة لذلك الخيار مع مصالح القوى الإقليمية والدولية، بما يجعلها حريصة على تثبيت السلام في مرحلة ما بعد الانتخابات.
ويحاول البعض البحث عن ثغرة لحل العقدة القانونية، وربما يكون تلميح غسان سلامة إلى أن هناك تقديرا يقول إن مدة الاتفاق تحسب منذ إقراره من قبل مجلس النواب، في إشارة إلى أن الاتفاق لم يتم تطبيقه بعد، لأنه لم يحصل على اعتراف رسمي من مجلس النواب حتى الآن.
باحث في الشؤون الأفريقية