ليبيا تشهد تراجعا كبيرا في أبعاد التنمية المستدامة

رغم تحقيق البلاد بعض التقدم في ما يخص القضاء على الفقر والجوع فإن ما عدا ذلك لا ينبئ بالخير.
الاثنين 2023/03/13
أجندات تنموية تعترضها عقبات أمنية وسياسية

طرابلس - مع المشاكل السياسية والوضع الأمني السيء في ليبيا، باتت التنمية إحدى أوجه الترف، فما بالك بالمستدام منها. وتتراجع ليبيا كثيراً في أبعاد التنمية المستدامة على مستوياتها المجتمعية والاقتصادية والبيئية، وعلى الرغم من تحقيق بعض التقدم في ما يخص القضاء على الفقر والجوع، فإن ما عدا ذلك لا ينبئ بالخير.

وتُعنى بملف التنمية المستدامة في ليبيا لجنة خاصة تتبع وزارة التخطيط. وكُلّفت بمواءمة وإدماج أهداف التنمية المستدامة في الإستراتيجيات وخطط التنمية الوطنية. وأَعَدَّت الوزارة مجموعة إستراتيجيات، مثل الإستراتيجية الوطنية للطاقات المتجددة وكفاءة الطاقة (2030)، وخطّة النهوض بِقطاع الموارد المائية (2020 – 2022)، وخطّة للإحصائيات الوطنية، هذا بالإضافة إلى تبنّي 3 خطط ثلاثية لكافة قطاعات الدولة للأعوام 2020 – 2021 – 2022 تتضمّن إدماج أهداف التنمية المستدامة 2030 في مقترح الخطّة الوطنية.

الطّاهر أبوالحسن: نحاول أن نعزز أهدافنا أكثر في تقرير 2024 الذي يجري إعداده وتحديث بياناته
الطّاهر أبوالحسن: سنعزز أهدافنا في تقرير 2024 الذي يجري إعداده وتحديث بياناته

وفي يوليو 2020 أصدرت اللجنة تقريرها الاستعراضي الوطني الطوعي الأول. ومن أهداف التنمية المستدامة الـ17، استثنت اللجنة 6 جوانب هي: القضاء على الفقر والجوع، والصناعة والابتكار والهياكل الأساسية، والحدّ من أوجه عدم المساواة، والحياة تحت الماء وفي البر.

واختارت اللجنة 10 أهداف بناء على ضرورات المرحلة وهي: الصحة والرفاه، والتعليم الجيد، والمساواة بين الجنسين، والمياه النظيفة والنظافة الصحية، والطاقة النظيفة، والعمل اللائق ونموّ الاقتصاد، والمدن والمجتمعات المحلية المستدامة، والإنتاج والاستهلاك المستدام، والعمل المناخي، والسلام والعدل والمؤسسات القوية، وعقد الشراكات. ويُرجع رئيس لجنة التنمية المستدامة الطّاهر أبوالحسن اختيار 10 أهداف فقط إلى ضيق الوقت المتاح في تلك الفترة، مؤكدا أنهم سيتفادون ذلك في تقرير 2024 الذي يجري إعداده وتحديث بياناته.

وفي مقدّمة التقرير يتطرق مستشار لجنة التنمية، ووزير التخطيط السابق، ومحافظ البنك المركزي الأسبق، الطّاهر الجهيمي إلى عدة تحدّيات استثنائية تجابه أهداف الاستدامة في ليبيا منها: عدم الاستقرار السياسي، وهشاشة الوضع الأمني، والهجرة غير الشرعية، وازدياد أعداد النازحين والمهجرين، بالإضافة إلى شح المعلومات والبيانات والمؤشرات المطلوبة للقياس والتقييم.

ويستعرض التقرير عوائق أخرى أساسية، أبرزها: حالة شبه الانقسام التي تعيشها الدولة، وغياب التداول السلمي للسلطة، والتنافس غير الشريف، وكذلك الاقتصاد النفطي الرّيعي، والمركزية الإدارية، وقِدَم نُظُم المعلومات، وضعف الأداء والتنسيق المؤسسي.

وفي مقدّمة المعرقلات، يأتي الوضع الأمني وما يصاحبه من صراع وعنف واضطرابات تؤثر على كل برامج التنمية، بشكل يبرز الحاجة إلى بناء السلام المستدام وضمان الاستقرار الأمني. ومع كل ذلك، يُثني الوزير السابق على التزام ليبيا بأجندة التنمية الألفية، ويؤكّد "تحقيق نتائج جيّدة في: تعميم التعليم الابتدائي، وتحسين الصحة الإنجابية، وخفض وفيات الأطفال، ومكافحة الأمراض، وتعزيز المساواة والإنصاف بين الجنسين، وتمكين المرأة".

وجاء التقرير في 190 ورقة، وضم بيانات وأرقاما تفصيلية عمّا حُقِّق من أهداف الاستدامة، يشير بعضها لانخفاض ملحوظ في معدل الوفيات، وتقدّم نسبي للرعاية الصحية الشاملة التي نالت معدل 64 في المئة وفق تقدير منظمة الصحة العالمية، فضلا عن تغطية للتطعيمات بنسبة 89 في المئة، شملت الوقاية من 15 مرضا.

وفي التعليم، ارتفع معدل الالتحاق بالمدارس إلى 98 في المئة بالمرحلة الإلزامية، وحقّقت النساء نسبة 52.70 في المئة من الطلبة، و88 في المئة من المعلّمين، فيما لا يزال معدل الأمية عند 5 في المئة منذ سنة 2015. ويحصل 99 في المئة من الليبيين على الكهرباء، إلا أنها تنقطع مطوّلا في الصيف بسبب تزايد الطلب، وفي السّنوات الأخيرة تم تبنّي سياسة أقل انبعاثاً عندما تمّت زيادة مساهمة الغاز الطبيعي في إنتاج الطاقة من 36 في المئة سنة 2008 إلى 65 في المئة مع حلول 2018.

ويبرز رئيس لجنة التّنمية مدى الحاجة إلى خلق وعي مجتمعي بأهمية الاستدامة، خاصة مع "الإفراط في إهدار الموارد" حسب قوله. ومن أوجه ذلك "الإسراف غير المسبوق في استهلاك الكهرباء" الأمر الذي تحذر منه الشركة العامة للكهرباء باستمرار عبر مكتبها الإعلامي. وعلى ما يبدو، يرجع ذلك في المقام الأول لضعف رقابة الدولة، وبالتالي غياب الجباية، فضلا عن أن سياسة دعم الكهرباء والمحروقات التي تنتهجها ليبيا تدفع للمزيد من الاستهلاك.

من جهة أخرى، ساهم غياب المواصلات العامة ورخص البنزين (3 سنتات للتر الواحد) في اعتماد الليبيين على السيارات. وتشير تصريحات سابقة لرئيس المرور والتراخيص في العاصمة العميد محمد هدية إلى أن عدد السيارات في طرابلس مقارب لعدد السكان. وأنفقت ليبيا في العام الماضي 20 مليار دينار على الدعم، وهو أكثر من نفقات التنمية التي بلغت 17.5 مليار، في حين وصل الإنفاق على المرتبات 47.1 مليار، وفق بيانات البنك المركزي.

◙ رئيس اللجنة يحذر من معضلة تتعلق بالاستنزاف الحاصل للغابات والمزارع وتنامي البناء غير القانوني وحفر الآبار غير المرخصة

ويعتبر رئيس لجنة الاستدامة هذه السياسة "معكوسة"، موضحاً أن قانون التخطيط في ليبيا "يفترض توجيه 70 في المئة من الإيرادات إلى التنمية". ودفعت هذه السياسة لجنة التنمية إلى التفكير "خارج الصندوق"، حيث يشير رئيسها إلى استعدادهم لتنظيم "المنتدى الليبي الدولي للاستثمار والتنمية المستدامة". ويهدِفون من خلاله إلى دعوة الشركات الدولية وصناديق التمويل والمصارف الكبرى للاستثمار والمساهمة في مشروعات التنمية.

ويعلّق قائلا "علينا الآن توفير معلومات وبيانات عن الفرص المتاحة، ولدينا اتفاقية في ذلك وعمل مشترك مع هيئة الاستثمار وشؤون الخصخصة بوزارة الاقتصاد". ويحذر رئيس اللجنة من معضلة أخرى تتعلق بالاستنزاف الحاصل للغابات والمحميات والمزارع، وتنامي البناء غير القانوني، وحفر الآبار غير المرخصة، الأمر الذي يرجعه تقرير اللجنة لـ"تأخر تنفيذ مخططات المدن والتنمية المكانية".

ويوجد في ليبيا نظام مركزي للشرب والري ينبع من مخزون المياه "غير المتجدد" بجنوب البلاد، عبر شبكة عملاقة (منظومة النهر الصناعي). وبسبب المشاكل السياسة والأمنية؛ تكرر في السنوات الأخيرة إغلاق صمامات المنظومة على يد مجموعات مسلحة، وخاصة عن الشمال الغربي الأكثر اكتظاظا، ما أدّى إلى محاولة الناس الاكتفاء من المياه عبر حفر آبار غير مرخصة، ولا مضمونة صحة المصدر، في غياب تام للرقابة.

ومع ذلك، يشير تقرير الاستدامة إلى أن "85 في المئة من الليبيين يستفيدون من خدمات مياه الشرب المدارة بأمان. ومن جهة أخرى يستفيد 44 في المئة من الليبيين من خدمات الصرف الصحّي، بحسب التقرير. ويُضطر البقية لدفن مياه الصرف في حفر مجاري تساهم في تلويث المياه الجوفية.

وفي مفارقة أخرى، تشير بيانات التقرير إلى أن "3 في المئة فقط من مياه الصرف الصحي تتم معالجتها"، فيما تتجه البقية مباشرة إلى البحر، ما أدى إلى إحجام الكثيرين عن السباحة في شواطئ المدن المكتظة مثل طرابلس وبنغازي.

وفوق كل ذلك، يشكل التصحّر الذي بات زحفه يتسارع مشكلة أخرى، وبناء على التقرير، تمثل الصحراء حاليا 90 في المئة من مساحة البلاد، الأمر الذي يهدد الزراعة والصحة، ويثير مخاوف حول المستقبل المائي لليبيا ، خاصة مع حقيقة أن "السحب السنوي للمياه يزيد بـ6 أضعاف عن الكميات المتجددة".

ومن هنا، يطلق رئيس لجنة التنمية إنذاراً بضرورة تعزيز فكرة الاستدامة وتحويلها إلى ثقافة ينشأ عليها الفرد، لتبعده عن نمط الاستهلاك الحالي، وإلا سيكون تسليم ليبيا للأجيال القادمة كما هي الآن "أمر صعب".

 

6