ليبيا بعيدة عن طريق "السورنة"

منذ دخول تركيا على خط الأزمة الليبية ودعمها لحكومة الوفاق في مواجهة الجيش الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر المتمسك بتحرير البلد من براثن الإرهاب والميليشيات، توقع متابعون تكرار السيناريو السوري في ليبيا عبر مساعي أنقرة للاستحواذ على الملف الليبي، فيما استبعد البعض الآخر هذه الفرضية، وحسب رأي هؤلاء فإن الأهداف الاقتصادية تتقدم على الأمنية بالنسبة إلى تركيا، كما أن حسابات القوى الدولية التي استوعبت دروس الحرب السورية تجعل ليبيا بعيدة عن طريق “السورنة”.
تزايد الحديث حول تكرار النموذج السوري في ليبيا، وأخذت الاجتهادات والتكهنات منحى تصاعديا بشأن ما يعرف “السورنة”، ربما لأن البعض مغرم بهذا النوع من الإسقاطات، حيث راجت خلال عقود سابقة مفردات من قبيل “العرقنة”، نسبة إلى النموذج العراقي الذي ظهر بعد الغزو الأميركي للعراق، وقبله طبعا “اللبننة”، نسبة إلى الحرب الأهلية في لبنان، وما أعقبها من تداعيات على مستويات مختلفة، جعلت الآذان تطرب لها.
هذا لا يعني عدم وجود قواسم مشتركة بين الأزمات العربية، فهناك تصورات وممارسات وتفاعلات تتكرر، ولذلك فأصحاب نظرية “السورنة” والمروجين لها لم يكونوا مخطئين تماما، فالتطورات الظاهرة في ليبيا تدعم هذا التوجه، حيث الوجود التركي المتزايد، والتنظيمات الإرهابية التي تتوغل، والميليشيات المسلحة التي تحترف القتل على الهوية السياسية والجهوية والدينية، والمرتزقة الذين يقاتلون مع من يدفع لهم أكثر، والتشابكات الإقليمية المعقدة، وشبكة المصالح الدولية المركبة، وكلها كفيلة باستدعاء مصطلحات مستوردة.
ناهيك عن الكلام المتواتر حول الوجود العسكري الروسي من خلال ما يتردد عن دعم الجيش الوطني الليبي، وحضور لافت لشركة “فاغنر” للأمن، وتدخلات بعض القوى الكبرى من خلال ضربات جوية موجهة وخاطفة، أو مراكز عسكرية تابعة لها، وتتخذ أشكالا متنوعة، تضاف إلى حرب وعرة بالوكالة توظف الخليط الواسع من الألوان السياسية والعسكرية لصالحها.
يبدو أن هناك مسارات كثيرة تقود إلى نقل النموذج السوري إلى ليبيا، واستند أصحاب هذا التقدير على ما يمكن وصفه بـ”توزيع الأدوار العكسي” بين روسيا وتركيا، على غرار ما حدث من قيام الأولى بدعم النظام السوري في دمشق، وانخراط الثانية في دعم طيف واسع من المعارضة، في مقدمته جبهة النصرة أو هيئة تحرير الشام حاليا، والجيش السوري الحر، بينما في ليبيا دعمت أنقرة حكومة الوفاق الوطني في طرابلس، ومعها قائمة طويلة من الميليشيات والإرهابيين والمتطرفين والمرتزقة، في المقابل وقفت موسكو إلى جوار قائد الجيش الليبي، المشير خليفة حفتر، ولم تتقاطع سلبا مع حكومة الوفاق.
معلومات واستنتاجات
ساعدت هذه الأجواء على تمكين التصورات الخاصة بـ”السورنة”، وجرى تدعيمها بحزمة من المعلومات والاستنتاجات المنطقية، حتى رسخ في أذهان البعض أننا على موعد مع ليبيا على الطريقة السورية، بكل ما تواكبه من تدخلات وحروب وضغوط وخرائط، واستندت الأحاديث المتناثرة على تحليلات غربية مغرمة بالمقارنات الشيقة، والتي لا تخلو من أهداف وتحذيرات، جعلت بعض الكتابات العربية تدور في فلكها، وتروج لها، عن قصد أو دون قصد.
يؤدي التوقف عند تفاصيل ما يجري في ليبيا وربطه بسوريا إلى تفكيك فكرة “السورنة”، وأن من جذبتهم وقعوا في بعض الأخطاء التي تثبت أن الأزمات لا تتكرر، فلكل أزمة خصوصية، والأطراف المشتركة لا تعيد تبني السياسات ذاتها كي لا تصبح مكشوفة. كما أن مراعاة الجغرافيا، والتباين الواضح في الحسابات، واختلاف اللاعبين الرئيسيين، تفضي كلها إلى نتيجة مغايرة. وإذا أنزلنا هذا التنظير إلى أرض الواقع سنجد أن ثمة محددات تجعل “السورنة” لا تزال بعيدة عن ليبيا، ويلزمها وقفة للمزيد من التفكيك السياسي.
الجغرافيا السياسية أسهمت في تسهيل مهمة تركيا بسوريا، بينما هي بعيدة كل البعد في ليبيا
لمعت الفكرة من التدخل التركي هنا وهنا، وتجاهلت حجم الفروق على الجانبين، ففي سوريا أحضرت أنقرة جزءا كبيرا من عتادها العسكري والمعدات الثقيلة والخفيفة والعناصر اللازمة لذلك، لأنها مسرح عمليات رئيسي لها، على الأقل في العقدين الماضيين، كانت تتدخل فيه بشكل متقطع ثم تحوّل مؤخرا إلى دائم، ولها طموحات أمنية غير خافية، من إقامة منطقة عازلة على الحدود، إلى منع تسرب قوات حزب العمال الكردستاني، ومنعه من استخدام الأراضي السورية كنقطة انطلاق لهجماته على القوات التركية.
هذه المسألة بعيدة عن ليبيا، والتي تتقدم الأهداف الاقتصادية فيها على الأمنية، فلدى أنقرة طموحات في الاستحواذ على جزء من الثروة الليبية، ولها تعاملات استثمارية كبيرة خلال عهد العقيد الراحل معمر القذافي، بلغت 25 مليارا، علاوة على الأموال الليبية في البنوك التركية حاليا، وتقدر بنحو ثلاثين مليار دولار، وتريد زيادة حصتها في الأولى، وتمنع عودة الثانية بأي وسيلة، إذا صعدت سلطة غير حليفة لها، ووجدت في الانحياز لحكومة الوفاق الوطني بقيادة فايز السراج طريقا يساعدها على تحقيق غرضها.
التحفت تركيا بغطاء عقائدي، يتمثل في دعم واحتضان تيار الإسلام السياسي لأسباب انتهازية، فلن يسمح لها أحد بهذا التدخل السافر إلا أصحاب الرؤى الضيقة، ومن تلعب العواطف دورا في تحريك مواقفهم، وهم الذين عزفت على وترهم طويلا، وحققت من خلالهم ما لم تكن تحلم به، وجعلها تتبنى رعاية عملية التضخيم المعنوي الذي أصابهم في سوريا وليبيا وغيرهما.
أسهمت الجغرافيا السياسية في تسهيل مهمة تركيا في سوريا، بينما هي بعيدة كل البعد في ليبيا، دعك من المسافة الطويلة بين البلدين وتتجاوز مئات الأميال، وانظر إلى ما أحدثه التدخل من انعكاسات على مصالح بعض القوى الغربية التي تعتبر ليبيا منطقة نفوذ تقليدية.
لم تفلح الاتفاقيات التي عقدها رجب طيب أردوغان مع السراج في إطفاء نيران بعض الدول الأوروبية أو حضها على ذلك، بل زادها اشتعالا، ما اضطرها إلى اتخاذ خطوات كانت تهملها من قبل، مثل توقيع اتفاق لترسيم الحدود بين إيطاليا واليونان، واعتزام الأخيرة توقيع اتفاق مماثل مع مصر خلال أيام، وهي خطوات خرجت من رحم التدخل التركي في ليبيا، وما تلاه من ترتيبات، تشي بضرورة القراءة الصحيحة لتحركات أنقرة.
خرائط يصعب تغييرها
لا يزال عدد القوى النظامية الخارجية الفاعلة على الأرض محدودا، فتركيا نفسها لم تجرؤ على إرسال أرتالها العسكرية إلا في حدود دنيا، وتقتصر على معدات ومرتزقة وخبراء للتدريب وإدارة العمليات، وهذا يعني أنها تدرك تضاريس المسرح الجغرافي جيدا، ولم تجازف بإرسال عناصر كثيرة على الأرض، لأن رسالتها الرئيسية ذات صبغة اقتصادية وليست أمنية، وقدرتها على تغيير الخرائط التقليدية محدودة.
تعلم أن أي جنوح اقتصادي لن يمر بسهولة بالنسبة إلى بعض الدول الغربية، وإذا اصطحبت معه حضورا أمنيا كثيفا سوف تواجه فخا، لأنه لن يتم السماح لها بالهيمنة، في ظل شكوك حول تفاهمات خفية تربطها بموسكو، وكان تسريب وجود طيران روسي (14 طائرة) إلى جانب “فاغنر” مقصود به لفت الانتباه إلى عدم استبعاد وجود تحالف غير معلن لإعادة تقسيم الثروة الليبية بينهما، ما يستوجب التعامل معه قبل أن يصبح واقعا.
في حين ذهبت آراء أخرى، إلى أن ما بدا أنه تساهل روسي أو توزيع أدوار مع تركيا له علاقة بسوريا، من زاوية تشتيت انتباه أنقرة، وإجبارها على تقديم تنازلات كلما انغمست أكثر في ليبيا، لأن موسكو تعي أن تمركز قواتها صراحة على غرار سوريا لن يمر على الدول الغربية، ففي المرة الأولى كانت الظروف مواتية، والآن باتت العبر والدروس والنتائج تفرض منع تكرار هذا السيناريو في ليبيا.
تشير مكونات القوى الإقليمية والدولية في ليبيا إلى عدم وجود لاعبين مستمرين ومؤثرين في الموازين حتى وقت قريب على الأرض أو في الجو، بخلاف تركيا، وبعكس سوريا التي تتواجد فيها تركيا ومعها إيران وبينهما إسرائيل، علاوة على القواعد الروسية العملاقة في “حميميم” و”طرطوس”، ومعها قوات من الولايات المتحدة، والتحالف الدولي لدعم الإرهاب.
ثمة تواجد عسكري فاعل في سوريا، وهو ما لا يتناسب مع الوفرة نفسها في حالة ليبيا، فدول الجوار تقريبا غائبة عن المسرح العسكري، وإن وجدت في أوقات معينة، مثل مصر، تنحصر أهدافها المعلنة في سياق محاربة الإرهاب لاعتبارات كثيرة، لكن ذلك قد يتغير إذا ضاعفت أنقرة من تواجدها العسكري أو انحرفت أهدافها الاقتصادية إلى ما هو أبعد من الغرب الليبي.
ترتبط أهداف أنقرة في سوريا بمنطقة جغرافية محددة، بينما في ليبيا غامضة، في ظاهرها تركيز على الغرب، وهو ما يثير أسئلة كبيرة لدى ذوي المصالح، ويجعل من تمترس تركيا في ليبيا عملية صعبة، ومن المرجح مواجهتها، لأن التساهل معها سيعرض بعض الدول الأوروبية للمزيد من الابتزاز عبر استخدام سلاح الهجرة غير الشرعية والإرهاب وتهديد المصالح الاقتصادية، وبالتالي من الصعوبة أن تصبح ليبيا سوريا أخرى.