لندن مهددة بفقدان مكانتها كعاصمة تاريخية لقطاع المال الأوروبي

دبلن وباريس وفرانكفورت تتنافس على جذب رأس المال الأجنبي المنسحب من المملكة المتحدة.
السبت 2018/10/20
هل تنحسر الأضواء عن عاصمة المال الأوروبي

قبل أقل من ستة أشهر على حلول موعد انسحاب بريطانيا من التكتل في أكبر تحول في سياستها منذ أكثر من 40 عاما، تسود خلافات بين الجانبين بشأن كيفية التعامل مع حدودهما البرية الوحيدة، بين إقليم أيرلندا الشمالية البريطاني وجمهورية أيرلندا، العضو بالاتحاد، الأمر الذي يضاعف من قلق سوق الأعمال في المملكة المتحدة ويفتح الباب أمام عواصم أوروبية تسعى لاستقطاب الشركات الدولية التي تفكر في الانسحاب من المملكة المتحدة بسبب حالة عدم اليقين الاقتصادي المنتشرة، خاصة دبلن وباريس وفرانكفورت.

لندن - توصل المفاوضون من الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة في 14 أكتوبر إلى اتفاق مؤقت حول الانسحاب يحدد الشروط القانونية لانسحاب بريطانيا من الاتحاد. ولكن بعد بضع ساعات فقط، تم إلغاء الاتفاق الأولي عندما أعلن دومينيك راب، سكرتير حكومة بريطانيا للبريكست، أن هذا الاتفاق لا يناسب الكثير من السياسيين في لندن.

ومن ثم ألغى المفاوضون اجتماعات المتابعة، تاركين المرحلة التالية من المحادثات في أيدي رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي ونظرائها في الاتحاد الأوروبي، الذين سيجتمعون في 17 و18 أكتوبر في محاولة لإعادة المفاوضات إلى مسارها. في الأثناء تشهد المداولات مدا وجزرا، يرى الكاتب في مجلة فورين أفيرز ستيفن بودانو، أنه يصب في صالح الاتحاد الأوروبي.

وبين تصريحات أوروبية تزداد تشددا ومساع بريطانية للخروج بأقل الخسائر، يقول ستيفن بودانو “بينما تخسر بريطانيا بانفصالها عن الاتحاد الأوروبي، تستفيد بقية دول أوروبا من هذه الصفقة”، مركزا أساسا على المظاهر الاقتصادية وتداعيات البريكست على سوق الأعمال في المملكة المتحدة.

اتفاق ولكن

أحرز المفاوضون تقدما ضئيلا بشأن الاتفاق الذي يحدد العلاقة المستقبلية بين الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة. مؤخرا، قال الاتحاد الأوروبي إنه مستعد لمناقشة اتفاق شامل يشمل العلاقات التجارية والأمنية والعسكرية.

لكن بروكسل تعتقد أن هذه المفاوضات يجب أن تتم فقط بعد التوصل إلى اتفاق الانسحاب الأولي. من جانبها، تجادل لندن بأنها لا تستطيع توقيع مثل هذا الاتفاق إلى أن تعرف كيف ستبدو روابط العلاقة المستقبلية بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي.

وفي الأسبوع الماضي أعلن ميشيل بارنييه، كبير مفاوضي البريكست في الاتحاد الأوروبي، عن التوصل إلى اتفاق “يمكن تنفيذه”، ويبدو أن 30 من أعضاء حزب العمال في البرلمان سيقدمون الآن دعمهم لتيريزا ماي لتمرير بعض الاقتراحات النهائية، في الأثناء تعمل بعض العواصم الأوروبية على استغلال الفرصة لتنافس لندن في سوق الأعمال الدولية.

وقامت العديد من المصارف والبنوك الاستثمارية بقيادة عمليات نقل الوظائف والنقود من لندن، والتي من المتوقع أن ترسل حوالي 10 آلاف وظيفة ومليارات الدولارات من عائدات الضرائب السنوية إلى الخارج. ولم يكن قطاع الصناعات بعيدا أبدا عن قطاع الخدمات المالية، حيث أظهر أحد التقارير الأخيرة مدى انخفاض أعداد الموظفين في المصانع في جميع أنحاء بريطانيا.

كما تأثرت صناعة التكنولوجيا أيضا بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، حيث يغادر المؤسسون بريطانيا التي فقدت إحكام قبضتها على المواهب ورأس المال الأجنبي. ويلفت بودانو إلى أن أكثر ما يقلق لندن هو الضرر المحتمل الذي قد يلحق بصناعة الخدمات الغذائية، وهي في الغالب منتجات الألبان والبيض والأسماك والحبوب، التي تعتمد مزارعها ومصانعها على 40 بالمئة من القوة العاملة في الاتحاد الأوروبي.

أي تقدم في المفاوضات
أي تقدم في المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي

ويقول ستيفن بودانو “بذل أكبر المستفيدين من خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وهم دبلن، وفرانكفورت، وباريس، على الأقل جهدا غير مسبوق في جذب الأعمال التجارية، في الوقت الذي كان فيه مؤيدو البريكست يضغطون من أجل طرد الأعمال والمؤسسات خارج بريطانيا”. ومع إعلان بنك بلاك روك وبنك جي.بي مورجان تشيس الانضمام إلى بنك بانك أوف أميركا وسيتي غروب في إعادة توجيه الآلاف من الموظفين إلى القارة الأميركية، يتضح استمرار فقدان بريطانيا لمجموعة من الأعمال والمشاريع المختلفة.

ويرى بودانو أن إيرلندا كانت من أكثر الدول التي بذلت مثل ذلك الجهد. فمنذ التسعينات، عندما قيام حركة الإصلاحات التجارية ما أدى إلى نمو الاقتصاد الإيرلندي بشكل ملحوظ على مدار عقد من الزمان، قدمت إيرلندا عروضا لا يمكن لأصحاب العمل والمستثمرين الأجانب رفضها: مثل الضرائب المنخفضة واللوائح والقوانين السلسة وإمكانية الوصول بسهولة إلى السوق الموحدة.

ومما أثار الكثير من الاهتمام معدل ضريبة الشركات. حيث أصبحت إيرلندا من أكثر الدول الجاذبة لمجال الأعمال والاستثمار في أوروبا بنسبة ضرائب قدرها 12.5 بالمئة، أي أكثر بقليل من الثلث في فرنسا (بنسبة 33.33 بالمئة) وأقل من نصف نسبة الثلاثين بالمئة في ألمانيا، وأيضا أقل من نسبة 20 بالمئة في بريطانيا.

إلى جانب لوائحها وقوانينها السلسة، بعد أن تجنبت القضايا المثيرة للجدل لكل من أبل وفيسبوك، أصبحت إيرلندا وجهة جاذبة أيضا من ناحية اللوائح والقوانين. ومع اقتراب موعد البريكست الرسمي، فإن دخول إيرلندا إلى السوق الموحدة يجذب الشركات البريطانية.

وأعلن البنك المركزي الإيرلندي أنه تلقى أكثر من 100 إشعار انتقال من المؤسسات المالية في لندن. وبعد أسبوع واحد من تلقي هذه الإشعارات، أعلن البنك المركزي أن نمو الناتج المحلي الإجمالي المتوقع لهذا العام بنسبة 4.7 بالمئة سيرتفع ليصل إلى قيمة قدرها 6.7 بالمئة.

دبلن تنافس بقوة

Thumbnail

يؤكد بودانو أنه من الصعب أيضا تجاهل التقدم الذي تتوصل إليه دبلن، حيث تستلم كل يوم طلبات لجوازات السفر، ويظهر فيها دائما أشخاص جدد، وحانات جديدة بشكل يومي. ويقول “ربما يكون نهج صحيفة آيرش تايمز لفهم هذه الظاهرة هو الأفضل. فخلال السنتين ونصف السنة الماضية، ظلت الصحيفة تراقب أعداد رافعات البناء التي ظلت تزداد في دبلن حتى سجلت في شهر سبتمبر الماضي رقما قياسيا قدر بنحو 93 رافعة بناء“.

وفي ألمانيا، كما هو الحال في إيرلندا، يبدو أن معظم الأعمال التي يتم الحصول عليها من بريطانيا هي شيء أشبه بتخطيط لسياسات طويلة الأجل من كونه نتيجة حادثة مفاجئة. فإلى جانب الحملات الإعلانية المبهجة في ألمانيا والحملة التي تجريها هيئة التنمية الصناعية في إيرلندا، لم تقم أي من الدولتين بعمل الكثير من الجهد في طريق الإصلاح الجاد للسياسة على حساب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

وكما قال روبرت هيرمان، الرئيس التنفيذي لمؤسسة جيرماني تريد آند إنفيست، عن استراتيجية الوظائف في ألمانيا، “لا توجد لدينا فلسفة محددة للاستفادة من خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، إنه مجرد عمل طبيعي ولكن بظروف جديدة“.

كما استهدفت عملية صيد الشركات الدولية في لندن قطاع التكنولوجيا، حيث ظهرت في صيف عام 2016 شاحنة تجوب شوارع لندن برسالة مكتوبة عليها عبارة “عزيزاتي الشركات، سنسعد بانتقالكن إلى برلين”. ومنذ ذلك الحين، انتعشت منطقة “سيليكون ألي” في ألمانيا بعدما تدفقت إليها شركات التكنولوجيا المالية، والتكنولوجيا الصحية، وشركات وسائل التواصل الاجتماعي.

دبلن وفرانكفورت وباريس، أكبر المستفيدين من خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وهي تبذل جهدا غير مسبوق في جذب الأعمال التجارية، في الوقت الذي كان فيه مؤيدو البريكست يضغطون من أجل طرد الأعمال والمؤسسات خارج بريطانيا

لكن، في بعض النواحي الأخرى، لا تستطيع فرانكفورت أن تتنافس مع دبلن بقوة، لا سيما أن فرانكفورت لا تعرض معدلات ضرائب منخفضة ولا تتبع لوائح وقوانين سلسة، والأهم من ذلك أن شعبها لا يتحدث الإنكليزية. ولكن ما تملكه ألمانيا -أكبر اقتصاد في أوروبا، وذات نمو اقتصادي قوي وثابت، ولها قطاع صناعي صحي ومتوسع- كان كافيا لجذب العديد من الشركات التي تتخذ من بريطانيا مقرا لها، وأيضا جذب عدد كبير من البريطانيين الراغبين في الحصول على الجنسية الألمانية.

فقد شهدت طلبات الحصول على الجنسية الألمانية في بريطانيا ارتفاعا ملحوظا منذ تصويت البريطانيين لصالح خروج بلادهم من الاتحاد الأوروبي. وذكرت صحف مجموعة “فونكه” الألمانية الإعلامية أن عدد هذه الطلبات كان يبلغ 59 طلبا عام 2015، ثم ارتفع إلى 3731 طلبا منذ عام 2016.

وسجل تقرير حديث صدر عن مؤسسة جيرماني تريد آند انفست -وهي مؤسسة فكرية اقتصادية تابعة للحكومة الألمانية- قفزة بنسبة 21 بالمئة في الاستثمار الأجنبي المباشر في ألمانيا والقادم من المملكة المتحدة، مع توجيه شركات بارزة مثل مورغان ستانلي وغولدمان ساكس وستاندرد تشارترد للآلاف من فرص العمل إلى فرانكفورت، حيث سينشئ مؤسسوها مقراتهم الأوروبية الجديدة.

كما توقع مركز بروغل للأبحاث الاقتصادية أن تخسر المملكة المتحدة حوالي 30 ألف وظيفة في الخدمات المالية بسبب البريكست وتوقع أن تكون فرانكفورت هي المستفيد الأكبر الذي سيلي بريطانيا.

ويعتبر بودانو أنه في الوقت الذي تجد فيه لندن -العاصمة التاريخية لقطاع المال الأوروبي- نفسها خارج السوق الموحدة في عام 2019، تشير معظم المؤشرات إلى أن فرانكفورت، التي تستفيد من وجود الصناعة المالية القوية في ألمانيا، والبورصة الألمانية، والبنك المركزي الأوروبي، ستحتل المكانة العظيمة التي كانت تحظى بها لندن ذات يوم.

ويختم قائلا “وبالنسبة إلى المصرفيين البريطانيين الذين لم يعتادوا التعامل مع العاصمة التاريخية للقطاع المالي الألماني، فإن اللوبي المالي في فرانكفورت قد تواصل أيضا معهم من خلال نشر إعلان باللغة الإنكليزية بعنوان: الوقوع في حب فرانكفورت، نسعد بلقائكم”.

7