لماذا يؤجل النظام الجزائري فتح ملف ضباط فرنسا

ملف الحركي بقي مغلقا لمدة طويلة جراء حساسيته المفرطة، إضافة إلى أن تاريخ حركة التحرر الوطني الجزائري كتب وفق منظور رسمي وليس وفق رؤية شعبية.
الخميس 2018/09/27
الطيب زيتوني: تكريم ماكرون للخونة المنحدرين من أصل جزائري هو شأن فرنسي داخلي

من جديد عاد ملف الذاكرة التاريخية الجزائرية في العهد الاستعماري الفرنسي إلى الواجهة بكثير من الحدة، خاصة بعد قيام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مؤخرا بتكريم عدد من الجزائريين الذين يقال إنهم حملوا السلاح أثناء الحرب الجزائرية – الفرنسية ضد الشعب الجزائري. ولكن ملف هؤلاء يخلط بشكل متعسف من طرف السلطات الفرنسية والجزائرية معا، حيث لا يميز الطرفان بين هؤلاء المذنبين وبين أبنائهم الأبرياء، وهو الأمر الذي يعقد هذا الملف، ويؤدي بالتالي إلى تغريب هويات الجيل الجديد من أفراد الجالية الجزائرية في فرنسا.

لا شك أن قيام الرئيس ماكرون بهذه الحركة في الوقت الذي يطالب فيه الجزائريون بتقديم الاعتذار الرسمي عن جرائم الاستعمار الفرنسي في الجزائر هو تكريس نمطي للذهنية الاستعمارية التي لا تزال قائمة في جزء كبير من المجتمع الفرنسي، خاصة وأنه لم يعتذر إلى يومنا هذا عن جرائم بلاده في الجزائر.

ورغم أن الرئيس ماكرون قام في الأيام القليلة الماضية برد الاعتبار رسميا للمناضل الشيوعي الفرنسي موريس أودان (1932 – 1957) الذي تحالف مع المجاهدين الجزائريين، وتعرض جراء ذلك للموت تحت تعذيب المظليين العسكريين الفرنسيين، غير أن الملاحظين السياسيين الجزائريين المحايدين يرون أن رد الاعتبار لموريس أودان لا يتضمن أي اعتذار رمزي أو مادي للشعب الجزائري، وإنما يدخل في إطار ترتيب البيت الفرنسي من الداخل من جهة، وقطع الطريق أمام اليمين الفرنسي المتطرف الذي يعادي الجالية الجزائرية المقيمة في فرنسا من جهة ثانية.

ومن الغريب أن وزير المجاهدين الجزائريين، الطيب زيتوني، صرح هذا الأسبوع قائلا بأن تكريم الرئيس الفرنسي ماكرون للخونة المنحدرين من أصل جزائري هو شأن فرنسي داخلي، ولكن هناك في الجزائر من استنكر مثل هذا النمط من التصريح الذي لا يحترم مشاعر المجاهدين الجزائريين الأحياء، وكذلك أرواح أولئك الذين استشهدوا على أيدي هؤلاء الخونة أثناء الحرب مع الجيش الفرنسي.

إلى جانب هذا فإن قطاعا واسعا من الشعب الجزائري يرفض تصريح الطيب زيتوني على أساس أن البطش بذاكرة التاريخ الوطني ليس شأنا فرنسيا داخليا بل هو شأن الضمير الوطني الجزائري، ومن الملاحظ أن قضية الحركي /الخونة الجزائريين لا تطرح فقط على صعيد العلاقات الجزائرية – الفرنسية وإنما تطرح أيضا على الصعيد الجزائري الداخلي، وفي هذا الإطار بالذات تجرأ هذا الأسبوع القائد التاريخي للولاية الرابعة لخضر بورقعة حيث انتقد وزير الداخلية السابق دحو ولد قابلية على تستره على جزائريين قاموا فعلا بخيانة وطنهم وعملوا ضمن صفوف جيش فرنسا الاستعمارية. وأكد أنه يملك وثائق تبين أن هناك الكثير من المسؤولين العاملين منذ الاستقلال إلى اليوم في مختلف أجهزة الدولة الجزائرية لهم سجلات مشبوهة، حيث كان بعضهم من الخونة وبعضهم هم أبناء ينتمون إلى عائلات الحركي.

وفي الواقع فإن لخضر بورقعة يشير ضمنيا إلى قضية معقدة وخلافية لم يعالجها النظام الجزائري على مدى 55 سنة من عمر الاستقلال. كما طمستها سياسات كبح المؤرخين الجزائريين، وتتعلق بما يسمى في الأدبيات التاريخية الجزائرية المعاصرة بضباط فرنسا من أصل جزائري، والذين كانوا جزءا من الجيش الفرنسي في وقت من الأوقات ومن ثم التحق عدد منهم بصفوف حركة التحرر الوطني الجزائري في السنوات الأخيرة من الحرب الجزائرية – الفرنسية، ثم عين بعض من هؤلاء في مناصب عليا مفصلية في الحكومة وأجهزة الجيش والأمن في فترة الاستقلال.

وفي الحقيقة فإن ملف هؤلاء الحركي بقي مغلقا لمدة طويلة جراء حساسيته المفرطة وبسبب تسلل بعض ضباط فرنسا الخونة إلى سدة الحكم، ولكن ثمة بعض العلل الأخرى التي يتم تجاهلها عمدا لأن تاريخ حركة التحرر الوطني الجزائري المكتوب من فوق هو في الأغلب مكتوب وفق منظور رسمي وليس وفق رؤية شعبية.

وفي هذا الخصوص ينبغي الإشارة إلى حقائق لا تذكر غالبا، ومنها أن هناك فئة من الجزائريين أجبروا على الالتحاق بالجيش الفرنسي بسبب تجنيد السلطات الفرنسية لهم بالقوة، وهناك من احتمى بفرنسا وانضم إلى جيشها لأنه تعرض لمعاملات سلبية، منها الابتزاز المالي من طرف جهات معينة ضمن حركة التحرر الوطني. لا شك أن كتابة التاريخ الشعبي لأحداث وتعرجات مرحلة الاحتلال الفرنسي للجزائر منذ عام 1830 إلى عام 1962 سوف ترفع النقاب عن حقائق متباينة لا تزال طي التهميش والإنكار.

من الواضح أن لجوء النظام الجزائري إلى تبرير تكريم الرئيس ماكرون للحركى الجزائريين على أساس أنه إجراء فرنسي داخلي، هو في الحقيقة جزء عضوي من سياسات التبعية الجزائرية لباريس بشكل خاص، ولمراكز صنع القرار في الغرب بشكل عام. وفي ضوء هذا يدرك المراقب السياسي أن التناقضات الحادة التي تبرز هذه الأيام بين قيادات حركة التحرر الوطني الجزائري بخصوص ملف الذاكرة التاريخية لحركة التحرر الوطني هي مجرد صيحات في صحراء النظام الجزائري الذي يكتفي بالتنزه على هذه الذاكرة التي تتعرض للتشويه والطمس.

9