لماذا لا نتحول إلى أمة من البستانيين

خلال الحرب العالمية الأولى والثانية، وعندما بلغ نقص الغذاء مستويات حرجة، اتجه الأوروبيون والأميركيون إلى حدائق منازلهم وإلى المساحات المهجورة في الجوار لزراعتها بالخضار والفواكه، في ظاهرة سميت حينها “حدائق النصر” و”حدائق الحرب”.
لم يكن هذا التوجه نتيجة جهد فردي فقط، على الأقل في بريطانيا، حيث أطلقت وزارة الزراعة في المملكة المتحدة عام 1939 حملة تحت شعار “احفر من أجل النصر”. وخلال ثلاث سنوات فقط بلغ عدد قطع الأرضي المخصصة للزراعة من قبل المواطنين 1.7 مليون قطعة.
البريطانيون الذين أطلق عليهم نابليون ساخرا “أمة من البقالين”، تحولوا في مواجهة جائحة كورونا إلى أمة من البستانيين، ليكرر التاريخ نفسه بعد ثمانين عاما تقريبا، حيث تسببت جائحة كورونا خلال الأسابيع الأولى من تفشيها بحالة من الارتباك في سلسلة إمداد المواد الغذائية على المستوى العالمي، وانتشرت ظاهرة الاحتكار ولجأ كثيرون لتخزين السلع الغذائية بكميات كبيرة.
ووفقا لمجلة “تايم” الأميركية، أعربت دول عدة في العالم عن مخاوف إزاء قلة عدد الأيدي العاملة اللازمة للتعامل مع السلع السريعة التلف، مثل الخضروات الطازجة. وكما يحدث مع كل أزمة، سارع الناس لتولي مهمة التعامل مع هذه المشكلة بأنفسهم، كما تبيّن من القفزة الكبيرة التي شهدها الإقبال على شراء بذور الخضار.
أكثر من أربعين في المئة من البريطانيين لجأوا إلى ممارسة البستنة في حدائق منازلهم، أو في مساحات تخصصها البلديات لممارسة هواية البستنة وتعرف باسم “لوتمان”، لمواجهة نقص المواد الغذائية وإجراءات الإغلاق، وذلك وفقا لتقرير صادر عن مكتب الإحصاء الوطني البريطاني.
إذا كان هناك سبب واحد دفع البريطانيين إلى التحول لممارسة البستنة، فإن هناك أكثر من سبب لدفع التونسي للتشمير عن ساعده وعزق الأرض. بالتأكيد الجائحة والحرب في أوكرانيا هما من بين الأسباب، ولكنهما ليسا السببين الوحيدين في تونس وفي عموم المنطقة العربية.
جولة في الأسواق الشعبية التونسية تكفي للاطلاع على حجم المعاناة التي يعيشها المواطن التونسي لملء، كما يقولون هنا “القفة”، وهذا لا يقتصر على “الزوالي” (محدود الدخل)، بل يطال حتى الطبقة الوسطى وشريحة من الأثرياء.
لن يحتاج الأمر دائما إلى قطعة أرض لممارسة البستنة، بقليل من الدراية والاستفادة من التقنيات الحديثة، يمكن أن تحول أسطح البنايات وشرفات المنازل إلى حدائق تنتج الخضار وترطب الأجواء
الأسعار نار، والحديث ليس فقط عن أسعار اللحوم والأسماك التي اقتنع نصف التونسيون على الأقل بحذفها من قائمة الطعام، بل يطال أيضا أصنافا من الخضار التي طالما ضرب المثل برخص ثمنها إلى وقت قريب؛ كيلوغرام الثوم بلغ اليوم 20 دينارا (7 دولارات تقريبا) في بلد متوسط الدخل الفردي فيه عام 2020، لا يتجاوز 3319 دولارا سنويا. أما عشبة الجرجير والخبيزة التي ارتبطت تاريخيا بالفقراء، فأصبحت ترفا ولم تعد في متناول غالبية التونسيين، وبات إعداد طبق سلطة تونسية خضراء، مغامرة تجبر التونسي على التفكير ألف مرة قبل الشروع في خوضها.
الغريب أن يتجه مواطنو بلد مصنف صناعيا مثل بريطانيا إلى البستنة لحل مشكلاتهم الغذائية، بينما بلد زراعي وصف يوما بأنه “مطمورة روما” الغذائية يبحث مواطنوه عن حلول لأزماتهم خلف البحار.
التقاعس هنا عن ممارسة البستنة لا يقتصر على سكان المدن، بل يمتد ليشمل أطراف المدن وسكان الأرياف.
هوس البريطانيون بالبستنة يتجاوز كونها حاجة فرضتها الضرورة، سواء الحرب أو الجائحة. وهي ظاهرة لم يفرضها حتما ارتفاع الأسعار. البستنة في بريطانيا نشاط إبداعي مثل الكتابة والسينما والمسرح والرسم والنحت. الحديقة بالنسبة للبريطاني مساحة تتيح له فرصة للتعبير عن قدراته الإبداعية والتفاخر والتباهي.
ومن محاسن البستنة أيضا أنها، مثل أي فعل إبداعي، تعزز الروح الجماعية وتقوي التواصل بين الأفراد. ومن خلال ممارستها يتم تبادل الأفكار والمعلومات ونقل الخبرات.
إذا كانت الحاجة كما يقولون أم الاختراع، فإن للتونسيين أكثر من سبب وأكثر من حاجة لتبني ثقافة البستنة، حتى لو تطلب الأمر من السلطات الحكومية الإعلان عن إنشاء وزارة للبستنة أسوة بوزارة الثقافة، أو إلحاق البستنة بوزارة الشؤون الاجتماعية باعتبارها نشاطا اجتماعيا إبداعيا.
لن يحتاج الأمر دائما إلى قطعة أرض لممارسة البستنة، بقليل من الدراية والاستفادة من التقنيات الحديثة، يمكن أن تحول أسطح البنايات وشرفات المنازل إلى حدائق تنتج الخضار وترطب الأجواء وتنقيها حتى بغياب التربة.
وما يصح على تونس يصح على لبنان والأردن وسوريا ومصر والمغرب وليبيا.. وغيرها من دول المنطقة.
أسعار المواد الغذائية، ومن ضمنها الخضار والفاكهة، ستستمر في الارتفاع، وهذا وحده يكفي ليكون حافزا لنتحول كما تحول البريطانيون من أمة بقالين إلى أمة من البستانيين.