لماذا تقبل مصر بالمسكنات السياسية في الأزمات الخارجية

لئن نجح النظام المصري في حسم قضايا الداخل بصرامة، فإن أسلوبه في إدارة الأزمات الخارجية يميل إلى اللين ويتجنب المغامرة، ولا يريد الجري وراء التصعيد، بالرغم من أنه لم يحقق من وراء الدبلوماسية نتائج تذكر على الأرض في العلاقة مع دول مثل أثيوبيا وتركيا وقطر. وعلى العكس، فإن هذه الدول وجدت في الموقف المصري داعما لها في مسعاها لعدم تفكيك القضايا الخلافية.
تبدو التوجهات المصرية في التعامل مع الأزمات متفاوتة بين الداخلية والخارجية، فهناك انحياز إلى الصرامة والحسم والقوة في الأولى وظهرت تجليات ذلك في التعامل مع ملف الإرهاب وتقويض الإخوان، والإصلاحات الاقتصادية المؤجلة منذ سنوات، ولم تقبل أنصاف الحلول معها، بينما تميل في التعاطي مع الأزمات الخارجية إلى القبول بالتسكين ولو مرحليا، وهو ما يظهر في التهدئة مع كل من تركيا وإثيوبيا، والتقارب مع قطر، والتعامل مع ليبيا ولاعبيها الكثيرين.
تعبر هذه السياسة عن مفارقة في فلسفة النظام المصري، حيث يعتقد البعض أن التباين في الآليات والأدوات يعكس ازدواجية، ويرى آخرون أنها مسألة طبيعية فما يدور في الداخل تستطيع أجهزة الدولة التحكم بمفاصله المتعددة، ولا يتوافر ذلك مع الأزمات الخارجية المليئة بالتحديات والتي تتشابك فيها القوى وتملك عناصر مختلفة للتأثير.
لم يتردّد النظام المصري الحالي في التصدي لعديد من القضايا الداخلية المتراكمة، وحدد أولوياته بالصورة التي تمكنه من ضبط الأمور بالطريقة التي يريدها بعدما كانت البلاد “شبه دولة” عقب عزل الإخوان عن الحكم منذ نحو ثمانية أعوام، وفي المقابل لجأ إلى التهدئة ورفض الانسياق وراء دعوات التحرش بخصومه في المشكلات التي نشبت معه وتحلى بأعلى درجات الصبر الاستراتيجي.
يحتاج التعامل مع الأزمات الخارجية الساخنة ونتائجها إلى قدر من الشروح والتفسيرات، لأنها ظاهرة لافتة في التصورات المصرية، فقد انتقل الموقف من تركيا من الشد والعداوة إلى الجذب، وتحولت العلاقة مع قطر من التوتر إلى الوئام، ودخلت التهديدات التي طغت على الخطاب السياسي مع إثيوبيا طورا من السكينة، وفي الحالات الثلاث حدثت تطورات بدت إيجابية من دون حل المشكلات الخلافية.
يحمل التفسير السياسي لما وصلت إليه العلاقات مع الدول الثلاث عوامل متباعدة، لكنها تشترك معا في مجموعة من المحددات، أبرزها أن القاهرة لا تريد الجري وراء التصعيد، وهو ضمن الأطر الرئيسية التي تلعب دورا في الدولة المصرية حيث تميل لحل خلافاتها بالطرق الدبلوماسية وتقتصر الخشونة على التلويح بها كعنصر ردع، لأنها تمتلك الكثير من مكونات القوة الباطشة التي يمكن استخدامها عند الضرورة.
الخشونة للردع
لدى القاهرة يقين بأن هناك قوى تعمل على وضع العراقيل أمامها ولا تريد لها أن تتقدم وتتفوق وتحصل على درجة مرتفعة من الأمن والاستقرار، وهو أحد المخاوف التي كبحت جماح أيّ توجه في حل الأزمات بالقوة العسكرية، ففكرة الفخ المنصوب لم تبارح رؤيتها في المسار الذي تتبعه مع أيّ من التحديات الإقليمية، ما يجعلها تميل إلى التفاهم على الصدام طالما أنها قادرة على تحقيق أهدافها بالطريق الأول.
يطرح البعض من المراقبين سؤالا مركزيا هنا حول ما حققته مصر من أهداف حقيقية مع الدول الثلاث، تركيا وقطر وإثيوبيا، فالتهدئة وجدت دون إزالة الأسباب التي أدت إلى التصعيد، وتغيرت العلاقة مع أنقرة ودخلت مجالا ساكنا مع أن الأسباب التي قادت إلى الأزمة معها لم تتغير، فلا هي توقفت عن سياساتها العدائية في شرق البحر المتوسط، ولم تسحب قواتها ومرتزقتها من ليبيا وتصر على توظيفهما سياسيا، ولم تقم بطرد عناصر الإخوان المدانين بأحكام قضائية في مصر أو تسليمهم.
كل ما قامت به تركيا ينحصر في عدم التصعيد المباشر ضد النظام المصري، ولذلك فعدم إقدامها على تفكيك القضايا الخلافية يعني أن عوامل الصراع كامنة ومستمرة ويمكن أن تتفجر في أيّ لحظة، فالتفاهمات الضمنية والقبول بالحد الأدنى وتجنب التصعيد لن يقود إلى علاقات طبيعية ويوحي بإمكانية العودة إلى المربع الأول.
كذلك تحسنت علاقات مصر مع قطر وعيّن كلاهما سفيرا في البلد الآخر، وهدأ التصعيد الإعلامي، وربما يتلاشى تدريجيا، ولم تتم تصفية العوامل التي قادت إلى الأزمة وتتعلق بدعم الدوحة للتيارات الإسلامية، كل ما حصل أنها أوقفت توظيف هذه الأداة ضد النظام المصري بعدما فقدت الثقة في تغييره، وإجمالا لا تزال الكثير من أسباب المقاطعة لم تختف كأن قطر لا تريد التفريط في أوراقها أو تدّخرها ليوم معلوم.
دخلت العلاقة مع أديس أبابا طورا قريبا مما وصلت إليه القاهرة مع أنقرة، فلا سلام ولا صدام، ما حصل أن كل طرف حقق أهدافه نسبيا، فإثيوبيا نفّذت الملء الأول ثم الثاني، بصرف النظر عن كمية المياه التي جرى احتجازها في خزان سد النهضة، ومصر لم تنقص منها قطرة مياه واحدة تستدعي خشونة عاجلة، ورغم الهدوء الطاغي في الوقت الراهن بين البلدين فإن الأزمة باقية على حالها.
يعكس قبول القاهرة بالتسكين أو التهدئة ملامح رغبة في أولوية الحلول التفاوضية، وغموضا في التصورات يفرض التقليل من حجم المشكلات، فالهدنة غير المعلنة تمثل خيارا جيدا، وتعتقد أنها تمنحها برهة من الوقت لالتقاط الأنفاس وإعادة ترتيب الأوراق، غير أن الحصيلة التي يمكن أن تصل إليها هذه التوجهات تجعل الأزمات مفتوحة دائما بما يمثل إرهاقا لأجهزة الدولة ويشتت جهودها.
أزمات مفتوحة
لا تقتصر التهدئة على مصر أو تعد خصوصية مقتصرة عليها، فخصومها أيضا يجدون فيها متنفسا لهم، لأنها لم تصطحب معها تحولات في أصل الأزمة – الأزمات، ونتيجتها مرضية ولا تحمل أعباء أو تنازلات أو تقود إلى إشكاليات داخلية، وعندما تصبح تكلفة الصراع عالية تعد التهدئة مكسبا للبعض طالما أنها لا تنطوي على خسائر.
يتعزز هذا الاتجاه في الأزمات التي تتداخل فيها قوى كثيرة، وتتزايد فيها التحديات أمام الدولة، وتضم الحالة المصرية الشقين معا، أي التداخل والكثافة، ما يضاعف من صعوبة فك الشفرات وتصبح التهدئة ضرورية، فلا توجد دولة وطنية ترتاح للقتال على أكثر من جبهة إلا إذا كان خيارا مقصودا وتملك مفاتيح الحل والعقد في أي وقت.
قد تكون مفاتيح العقد متاحة للكثيرين، فمن السهولة تفجير الأزمات مع تنامي الميليشيات والعصابات المسلحة، بينما مفاتيح الحل لا يملكها إلا أصحاب الإرادة والرغبة والقوة، إلى جانب المغامرة، والذين على استعداد لتحمل كافة التداعيات.
تكمن المشكلة أن المغامرة مرفوضة وليست من بين أبجديات النظام المصري، لأن الخطأ فيها سوف يكون مكلفا، وقد جربت القاهرة العديد من المغامرات في تاريخها المعاصر وكانت عواقبها وخيمة وكبدت الدولة خسائر آثارها باقية حتى اليوم.
تحتاج المغامرة إلى حسابات دقيقة ورؤية استراتيجية عميقة تضمن نجاح المهمة، وقدرة على التعامل مع ردود الأفعال الدولية، وهي مكونات لا يتوافر بعضها في مصر، ما يفرض على نظامها اللجوء إلى التريث لأقصى مدى ممكن، الأمر الذي يبدو في نظر البعض كأنه يعكس ترددا أو ارتباكا أو ضبابية في صناعة القرار، وهو ما يدعم القبول بالمسكنات السياسية مع الخصوم والأصدقاء حتى إشعار آخر.