لماذا تدفع مصر وحدها فاتورة اللاجئين العرب

وجود خمسة ملايين سوداني لا يلغي تقنين أوضاع القادمين الجدد.
الاثنين 2023/06/12
لا تساهل مصريا بعد الآن

أثار إعلان الحكومة المصرية عن تقنين دخول النازحين السودانيين إلى ترابها الكثير من الجدل؛ حيث اعتبره بعضهم تعسفا في ظل المعاناة التي يعيشونها، في حين يرجعه المصريون إلى دوافع أمنية بالأساس.

القاهرة - قامت الدنيا ولم تقعد عندما أعلنت الحكومة المصرية فرض تأشيرات دخول على السودانيين أخيرا، وأخذت الخطوة أبعادا إنسانية وعاطفية وسياسية في ظل الصراع الدامي بالخرطوم، وتجاهل هؤلاء حق كل دولة في تقنين أوضاع الدخول والخروج منها وإليها، فقد استقبلت مصر على مدار السنوات الماضية نحو خمسة ملايين سوداني يقيمون على أراضيها، ووصل إليها منذ اندلاع الحرب الأخيرة حوالي ربع مليون آخرين حتى الآن.

ركزت تصريحات وتلميحات بعض السودانيين على تفسيرات سلبية لقرار مصر وكأن قدرها أن تدفع وحدها فاتورة الأزمات والنزاعات والصراعات التي تنشب في أي بلد عربي، فهناك نحو 12 مليون شخص من فلسطين وسوريا والعراق واليمن وليبيا والسودان وجنسيات أخرى يقيمون على أراضيها منذ سنوات، ولم يتم وضع الفقراء منهم في معسكرات لاجئين ومخيمات نازحين، كما هو الحال في دول عديدة.

تصاعد حديث اللاجئين مع زيادة نزوح الكثير من السودانيين وقيام القاهرة بوضع ضوابط قانونية، ليس كرها في دخولهم، لكن لأن الأوضاع الأمنية في مصر لا تتحمل تسرب المئات أو العشرات من المتطرفين والإرهابيين يمكنهم توظيف مسألة تسهيل إجراءات الدخول عبر المنافذ الحدودية لصالحهم، لأن هناك معلومات لدى أجهزة الأمن بحصول كثير من الأشخاص على جنسية السودان في عهد الرئيس السابق عمر البشير قد يتسربون داخل مصر، وبينهم من ينتمون إلى عناصر إخوانية خطرة.

السودانيون وغيرهم من العرب يأتون لأنهم لا يشعرون بالتمييز ويقدرون على التعايش مع بيئة محلية متسامحة

تجاهل هذه النقطة مقابل تسهيلات قدمتها الحكومة المصرية ينطوي على تعسف سياسي، وينسف التضحيات التي قدمت سابقا للسودانيين أنفسهم، وبعضهم لعنوا مصر سرا وعلنا وعندما حلت الأزمة ببلدهم كانت أول ملاذ آمن يفكرون في اللجوء إليه.

تؤكد أعداد اللاجئين والمقيمين العرب الضخمة في مصر أن هؤلاء يجدون ارتياحا ومرونة في التعامل معهم، فلا يُزجّون في معسكرات لاجئين، ولا يتم التمييز بينهم وبين المصريين في غالبية مناحي الحياة، وهناك شهادات لمواطنين عرب من جنسيات مختلفة على مواقع التواصل الاجتماعي تبرز هذا الجانب.

عندما فكرت القاهرة في تقنين أوضاع اللاجئين وزيادة الرسوم المادية عليهم، تعالت الصرخات بأنها غيرت سياستها، وتريد الاستثمار في معاناتهم، وغاب الانتباه إلى التكلفة المادية التي تتحملها الدولة بسبب الكثافة المتزايدة لهم، والأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تعاني منها البلاد، ووجود أكثر من مئة مليون مصري مطلوب من الدولة توفير احتياجاتهم الأساسية بصورة مناسبة.

يطفو ملف اللاجئين والمقيمين العرب كلما اندلعت أزمة أو نشب صراع في أي دولة عربية، وتبدو مصر الوجهة الرئيسية لعدد كبير منهم، في مقدمتهم السودانيون، حدث هذا مع الكويت عندما غزا الرئيس العراقي الراحل صدام حسين البلاد، وتكرر مع العراق نفسه عندما اجتاحت القوات الأميركية بغداد، وتكررت الفصول بأشكال متباينة مع كل من سوريا واليمن وليبيا والصومال، وبالطبع فلسطين.

في كل مرة يعلو سؤال لماذا تتعنت مصر في استقبال الأشقاء العرب، وكأنه مكتوب عليها أن تدفع وحدها فاتورة الأزمات العربية المتتالية، وهي المحملة بالأعباء الاقتصادية والمثقلة بمطالب عشرات الملايين من المصريين.

هل يريد من يطرحون هذه النوعية من الأسئلة الضغط على الإدارة المصرية لاستقبال المزيد من الأشقاء العرب، أم إحراجها انطلاقا من مسؤوليتها التاريخية والأخلاقية، أم لفت الأنظار بعيدا عن دول الثروة والوفرة المادية والندرة السكانية؟

yy

تستقبل مصر منذ عقود طويلة العرب ولم تضج منهم، وحصل تزاوج ثقافي واجتماعي وسياسي بين الجانبين في مرات كثيرة، مع ذلك يشهر البعض سيوفهم وربما مقاصلهم لمجرد أن تئن وترفع صوتها بالشكوى من تداعيات زيادة اللجوء إليها.

لم يوجه هؤلاء الأسئلة إلى بعض الدول العربية الغنية، والتي استقبلت بضعة آلاف من السودانيين وغيرهم، ولم يطرحوا استفساراتهم عن أوجاع الأشقاء العرب عندما تتم إعادتهم إلى دول جاءوا منها لأنهم لم يستوفوا الشروط القانونية المطلوبة.

والأهم لماذا يصر الملايين من العرب على الذهاب إلى مصر وهي دولة محملة بالمشكلات، ويترددون كثيرا في الذهاب إلى دول الثروة والوفرة والندرة السكانية؟

تعلم الدولة المصرية الواجب القومي حيال استضافة العرب من جنسيات متباينة، لكن من حقها أن تكون المسألة أكثر تنظيما، فعملية التقنين التي تقوم بها الحكومة حاليا ليس المقصود منها تضييق الخناق على السودانيين تحديدا.

فسّرت وزارة الخارجية المصرية الدوافع ومعظمها لها جوانب قانونية وأمنية ولوجستية، ولم تذكر مبررات أو تفسيرات سياسية بالمرة لخطوة التقنين الجديدة، ولم يعلن مسؤول مصري واحد أن البلاد قررت الامتناع عن استقبال الوافدين العرب.

يمثل وجود الملايين من العرب قوة معنوية لمصر، وهو استكمال لدورها التاريخي كمحطة جاذبة وهي تواجه تحديات اقتصادية، ولا تمثل المساعدات الرمزية التي تقدمها مفوضية اللاجئين بالقاهرة لعدد منهم قيمة لحل المشاكل المصرية، ولم تظهر عملية ابتزاز للدول الأوروبية بعد تزايد الهجرة غير الشرعية من مواطنين عرب وأفارقة.

يحتمل ملف اللاجئين والنازحين والمقيمين العرب في مصر دراسات سياسية وأمنية واقتصادية واجتماعية، لكن الظاهر أن هناك معاناة معنوية يمكن أن يتسع نطاقها مع إصرار مئات الآلاف من السودانيين على دخول مصر أكثر من غيرها من دول الجوار الأفريقية، أو غيرها من الدول العربية المعروف عنها استقرارها اقتصاديا.

pp

يأتي السودانيون وغيرهم من العرب لأنهم يشعرون بالمساواة وعدم التمييز بينهم وبين المصريين، وامتلاكهم قدرة على التعايش مع بيئة محلية متسامحة إلى حد كبير، فضلا عن سهولة الإجراءات في عملية الدخول، ولذلك تعد القاهرة وجهة مهمة لكثير منهم ولو اختلفوا مع نظامها الحاكم أو امتعضوا من أزماتها الاقتصادية المتراكمة، فهناك جاذبية تشدهم إليها، وصورة إيجابية متوارثة لا تزال مرسومة في أذهانهم.

تعتبر الجاذبية التقليدية واحدة من العوامل التي تفسر تعلق الكثير من اللاجئين والمهاجرين والنازحين العرب، فعلى مدار أزمنة طويلة استقطبت الآلاف منهم في حالات العسر واليسر، ولم تضج منهم، فقراء وأغنياء، وانصهرت مصر في وجدان العديد منهم وانصهروا داخل مجتمعها بطبقاته المتفاوتة.

يسهم استقبال مصر لجنسيات عربية مختلفة في تأكيد ما عرف عنها من ثقافة كوزموبوليتانية، والتي اختفت الآن تقريبا، غير أن آثارها باقية في المخزون الحضاري لدى المصريين، وهو الذي يسهم بدور فعال في عدم الممانعة الكبيرة لدخول المواطنين العرب، بصرف النظر عن مستواهم الاقتصادي والاجتماعي.

عندما تضع مصر ضوابط لتقنين أوضاعهم فهي لحماية أمنها القومي أولا، وحماية وجود الملايين منهم لعيشوا في استقرار من دون أن يعكر صفوهم قلة من المشبوهين يمكنهم أن يندسوا مع تدفقات غزيرة للسودانيين مؤخرا، والذين حافظت أسر العديد منهم والتي هاجرت منذ سنوات إلى مصر على البقاء فيها وبلدهم كان مستقرا سياسيا، ولم يقطعوا حبال الود والتواصل مع المصريين وهم في الخرطوم أو القاهرة.

6