لماذا تدعم مصر حكومة باشاغا على حساب الدبيبة

التوافق النسبي بين الشرق والغرب وبين الداخل والخارج يدعم حظوظ رئيس الحكومة الجديد.
الأحد 2022/02/13
باشاغا يحظى بدعم داخلي وخارجي قوي

سارعت القاهرة إلى تأكيد دعمها لفتحي باشاغا رئيس الحكومة الجديدة المنتخبة من البرلمان. وترى أنه شخصية براغماتية يمكن الرهان عليها حتى وإن كانت له ميول نحو أنقرة، على عكس الانحياز التام لها الذي أبداه قبله كل من فايز السراح وعبدالحميد الدبيبة. لكن هل ستضمن القاهرة صداقة باشاغا الرجل القوي والنافذ في الغرب الليبي؟

بدت مصر في مقدمة القوى الإقليمية والدولية التي ثمنّت قرار مجلس النواب الليبي اختيار فتحي باشاغا لمنصب رئيس الحكومة الجديدة، وأوحى موقفها السريع أنها لم تكن مرتاحة لحكومة الوحدة الوطنية التي قادها لنحو عام عبدالحميد الدبيبة، وأنها مطمئنة لعبور باشاغا للكثير من المطبات الداخلية والخارجية التي تعتري حكومته.

وتستخدم مصر الكثير من الأدوات الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية لحل الأزمة الليبية وعملت، ولا تزال، على تقويض تداعياتها المتعددة على أمنها القومي، وضاعفت من انفتاحها على غالبية القوى ولم تحصره في منطقة أو قبيلة أو جماعة سياسية أو عسكرية معينة، حيث تيقنت أن حضورها يتعزز أكثر بقدرتها على تطوير العلاقات مع القوى الليبية الوطنية الداعمة لوحدة البلاد ومنع انفراطها.

وينطوي رد الفعل المصري المؤيد لاختيار البرلمان الليبي لفتحي باشاغا على مجموعة من الدلالات السياسية، أبرزها الحفاظ على حالة التقارب اللافتة داخل مجلس النواب، فقد كان الانقسام بين شرق وغرب أو بين طبرق وطرابلس، عائقا أمام الكثير من التحركات المصرية في السنوات الماضية، واختياره بالأغلبية المطلقة يمهد الطريق أمام تسهيل مهمته وينهي إشكالية حصول رئيس الحكومة على دعم محدود، فالبرلمان الحالي هو الجسم الوحيد المنتخب من الشعب مباشرة في ليبيا.

شرعية الملتقى وتوابعه

ستيفاني وليامز من أكثر الشخصيات الداعمة لفكرة ترشيح فتحي باشاغا مبكرا

تسقط خطوة مجلس النواب باختيار رئيس حكومة من جانب أعضائه الشرعية الدولية التي اكتسبتها خارطة الطريق المنبثقة عن الملتقى السياسي كجسم مصطنع جرى اختلاقه من قبل بعثة الأمم المتحدة في ليبيا للحد من صلاحيات البرلمان وقام باختيار رئيس حكومة الوحدة عبدالحميد الدبيبة ورئيس المجلس الرئاسي وأعضائه، ولم تكن القاهرة مرتاحة له بسبب هيمنة التيار الإسلامي على الملتقى.

وينهي توافق مجلسي النواب والدولة على باشاغا أزمة حادة في ليبيا، حيث أدت رغبة جماعة الإخوان في السيطرة على مفاتيح القرار في ليبيا إلى تخريب الكثير من المبادرات التي سعت نحو تسوية الأزمة وإجراء انتخابات نزيهة، وعانت القاهرة من إصرار المتطرفين على التحكم في السلطة داخل ليبيا ومن روافد ذلك عليها.

ويفسر الهدوء الظاهر على الإسلاميين ودعمهم ترشيح باشاغا على أنه محاولة لمنع تآكل الهياكل الرئيسية لهم في ليبيا وتخطي شبح أقرانهم في دول أخرى صمّموا على معاداة الدولة والمجتمع، وتحجيم الصدام مع مصر الذي بدأته راعيتهم تركيا مؤخرا.

ربما تأتي ليونة مجلس الدولة ورئيسه الإخواني خالد المشري استجابة لنصائح قوى دولية رأت أن الأزمة الليبية في طريقها إلى تفكيك عدد من مفاصلها وبات تدشين الانتخابات قريبا ومن الضروري أن يدخلها الإسلاميون في ليبيا ككتلة أكثر تماسكا ليتمكنوا من التأثير في العملية السياسية لاحقا.

قد تثير هذه الخطوة ارتياحا لدى القاهرة، غير أنها لن تكون مطمئنة لتداعياتها في المستقبل، وتعتقد أن وجود باشاغا القوي والمعروف بارتفاع منسوب البراغماتية في توجهاته ولا يملك قواعد أيديولوجية صارمة يمكن أن يكون حلا جيدا في هذه المرحلة.

كما أن مصر لم تؤيد خطوة البرلمان إلا بعد أن تلقت تطمينات وإشارات إيجابية من بعض القوى الفاعلة، في مقدمتها الولايات المتحدة وفرنسا، خاصة أن باشاغا تمكّن خلال الفترة الماضية من تطوير علاقاته مع العديد من الدوائر الإقليمية والدولية وهو ما جعله الرقم الوحيد تقريبا البارع في ملفي الحرب والسلام، ناهيك عن تحركاته الداخلية مؤخرا والتي وفرت له شبكة أمان في الغرب والشرق.

~ اختيار مجلس النواب رئيس حكومة يسقط الشرعية الدولية التي اكتسبتها خارطة الطريق المنبثقة عن الملتقى السياسي

وعلمت “العرب” أن المستشارة السياسية للأمين العام للأمم المتحدة ستيفاني وليامز من أكثر الشخصيات الداعمة لفكرة ترشيح فتحي باشاغا مبكرا وتربطهما علاقة خاصة نمت في أثناء عملها كسفيرة للولايات المتحدة في طرابلس ثم نائبة لرئيس بعثة الدعم السياسي في ليبيا وحتى توليها رئاسة البعثة الأممية بالإنابة.

وكانت ستيفاني معجبة بشخصية باشاغا التي تجمع بين توليفة سياسية نادرة، فهو من مصراتة وضابط سابق في سلاح الطيران الليبي وعلى علاقة قوية بالميليشيات وتمكّن من تدجينها وقت أن كان وزيرا للداخلية في حكومة الوفاق الوطني برئاسة فايز السراج، وقد يكون من أهم الشخصيات التي تستطيع التعامل مع ملف الميليشيات لإيجاد حل مناسب لدورها قبل إجراء الانتخابات المؤجلة، حيث طالبت مصر بضرورة إغلاق هذا الملف لتوحيد المؤسسات الرسمية وتطبيق نتائج الانتخابات.

ويتصور البعض أن علاقة باشاغا مع القاهرة توطدت بعد أن ترك حقيبة الداخلية وقبل أن يعلن عن ترشحه على مقعد الرئيس في الانتخابات التي كان من المقرر إجراؤها في ديسمبر الماضي، لكن العلاقة نشأت منذ زمن وكان الرجل على علاقة جيدة بالقاهرة ويعلم خصوصية العلاقة معها، ويمثل حلا سياسيا لديها يمكن اللجوء إليه في الوقت المناسب، وتردد اسمه أكثر من مرة، ومكنته مرونته من توسيع علاقاته مع جهات متباينة تجعل عملية تمرير حكومته الجديدة مسألة غير صعبة.

ربما هذه هي المرة الأولى التي تجد فيها مصر نفسها أمام رجل من مصراتة يتمتع بعلاقة جيدة مع حليفها رئيس مجلس النواب عقيلة صالح ويحظى بإجماع كاسح من أعضاء البرلمان ومجلس الدولة، ومدعوم من قائد الجيش الوطني الليبي المشير خليفة حفتر، الأمر الذي يمثل ارتياحا في القاهرة التي كانت تبحث عن شخصية وازنة غير منحازة تماما لتيار الإسلام السياسي أو لا توجد لديها ولاءات خارجية فاضحة تؤثر على دورها الأمني وتقديراتها السياسية.

وعانت القاهرة من انحيازات كلّ من السراج والدبيبة لتركيا، وقد تكون لباشاغا ميول إيجابية أيضا نحو أنقرة غير أن ميزته تأتي من قدرته على إحداث توازنات بين القوى المختلفة وأنه كضابط سابق يميل للانضباط، وظهر ذلك في جولاته المستمرة بين مصر وتركيا، وجاء اختياره في توقيت تطورت فيه العلاقات بين القاهرة وأنقرة أو على الأقل هدأ الصراع بينهما في ليبيا ولم يعد مشتعلا في بعض الملفات الإقليمية.

تحييد ورقة الميليشيات

~ توافق مجلسي النواب والدولة على باشاغا ينهي أزمة حادة في ليبيا

غير مستبعد أن تكون هناك تفاهمات ضمنية بين الجانبين حول باشاغا، وهو ما يفسر التأييد المصري لاختياره من قبل مجلس النواب الليبي، فالنقطة الفاصلة التي يمكن أن تعوق مهمته تكمن في مدى قدرته على التصدي للمرتزقة والقوات التركية له، وفي ظل موافقة أنقرة عليه قد يضمن تخطي واحدة من العقبات المهمة.

امتلك باشاغا، عندما كان وزيرا للداخلية، قدرة عالية في كبح جماح الميليشيات في طرابلس أو تحييدها، ويملك من المؤهلات الأمنية والإغراءات المادية اللازمة التي تمكنه من منع وقوفها في صف عبدالحميد الدبيبة الذي لوّح بها أخيرا، وقد ظهرت معالم الثقة لديه عند وصوله إلى مطار معيتيقة بطرابلس وقيامه بعقد مؤتمر صحافي فور وصوله وعقب الإعلان مباشرة عن اختياره الخميس.

وتشير المعطيات السياسية إلى أن طريق باشاغا سيكون معبدا لإدارة حكومته من مقرها في طرابلس وليس سرت، ولا توجد مقارنة بين الأوضاع حاليا وتلك التي سبقتها عام 2014 عندما كانت هناك حكومة أخرى في طبرق معينة من قبل مجلس النواب، وأخرى في طرابلس جرى اختيارها بموجب اتفاق الصخيرات، فالتوافق حول باشاغا يجعل حظوظه أفضل من سابقيه، ما جعل القاهرة تضع رهانها الكبير عليه لإيجاد تسوية سياسية للأزمة تخفف عنها وطأة الصراعات المستمرة في ليبيا.

4