لماذا الصورة الذهنية لمصر محصورة في حقوق الإنسان

القاهرة تكافح لرسم مسارات مختلفة تمحو بها النظرة النمطية حول تعاملها مع قضية الحريات.
الثلاثاء 2020/12/08
محاولات تحسين سجل حقوق الإنسان مستمرة

قضية الحريات وحقوق الإنسان، والتي يلعب عليها خصوم النظام المصري متى ما كانت الفرصة سانحة لتسجيل النقاط ضده، لا تزال تهيمن على الصورة الذهنية للكثيرين وخاصة مع وصول الرئيس الأميركي الديمقراطي جو بايدن إلى البيت الأبيض. ورغم أن القاهرة تحاول جاهدة تفسير أولوياتها عبر رسم مسارات مختلفة تمحو بها تلك النظرة، إلا أن الملف كان حاضرا مرة أخرى خلال لقاء الرئيس عبدالفتاح السيسي بنظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون بباريس.

القاهرة - تركت بعض الدوائر السياسية الأهمية الاستراتيجية، التي تنطوي عليها زيارة الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي إلى فرنسا الأحد والاثنين الماضيين، وحثت الرئيس إيمانويل ماكرون على ضرورة فتح ملف حقوق الإنسان مع السيسي ليحتل أولوية تفوق قضايا أخرى مهمة.

وأوجدت تلك القضية مساحة لا بأس بها للجدل كاد يغطي على طبيعة الملفات الحيوية التي يناقشها الرئيسان في العاصمة باريس، وهو ما تسبب في حرج لكليهما.

وطغى التركيز على هذا الملف في توقيت بالغ الحساسية بالنسبة للقاهرة، التي باتت في كل مناسبة يطاردها الشبح الحقوقي ويستنزف جهدا في التفسيرات والتبريرات، وأضحى يحتل أولوية في أجندات جهات عدة، زادت مع انتخاب الرئيس الأميركي جو بايدن، كأنه نجح ليجعل من هذا الملف في مقدمة أدوات التعامل مع مصر.

ملف ساخن

تحرص الكثير من الدول على أن يكون سجلها في ملف حقوق الإنسان ناصعا، ليس من الباب الأخلاقي فقط، بل لأن الصورة الذهنية السلبية في هذا المجال لها مردودات سياسية واقتصادية متعددة، وحتى عندما ترتكب الدول المتحضرة أخطاء، كما حدث في فرنسا والولايات المتحدة مؤخرا، تتنصل منها وتقدم إجابات مقنعة ولا تنكرها، وتتعهد بعدم التكرار، حتى لو كانت أهميتها بالغة للأمن القومي.

ولجأ خصوم النظام المصري ومعارضوه إلى تسليط الأضواء على سجل حقوق الإنسان كلما تسنى ذلك كثغرة تجرح كبرياء الدولة والمسؤولين فيها، واستفاد هؤلاء الخصوم من السمعة القاتمة لهذا الملف التي تراكمت على مدار السنوات الماضية، ولم تخل من إدانات واتهامات متفاوتة، لكن الاهتمام بالقضايا الأخرى كان أكثر تركيزا.

وصول جو بايدن للسلطة منح الملف قبلة حياة، ولم ينتظر حقوقيون ومعارضون تسلمه للحكم ونفخوا في موضوع الحريات في مصر

وتدرك القاهرة الخطورة التي ينطوي عليها ملف حقوق الإنسان ومردوداته المختلفة، وحاولت وفقا لرؤيتها تصحيح الصورة السلبية التي خلقتها تقارير محلية ودولية عديدة، وتجاوبت مع نداءات ومناشدات وضغوط الأمم المتحدة ووعدت بإدخال تعديلات تضبط أوجه الخلل.

كما تعهدت السلطات المصرية بتقديم تنازلات، غير أنها أوفت ببعض الاستحقاقات وماطلت في أخرى، ما ضاعف من الأزمة وبدت القاهرة غير جادة في تصفية الشوائب العالقة في هذا الملف.

ولم تفلح الخطوات التي اتخذتها الحكومة في محو الصورة النمطية السيئة عن حقوق الإنسان في البلاد، أو توفر مناخا هادئا لها، فكلما جاء ذكر هذا الملف في صحيفة أو وكالة أنباء أو تقرير دولي، انتفض الكثير من المسؤولين للدفاع عن بلدهم، ما ضاعف من أهمية استخدامه كوسيلة قوية للضغط، ووجدت المعارضة فيه أداة تلفت بها الانتباه للفضاء السياسي العام، وحال الحريات المتراجع في مصر.

وتنحني الحكومة المصرية للعواصف تارة، وتتصدى لها تارة أخرى، وفي كل الحالات أصبح الملف منغصا قويا، ومجالا للابتزاز السياسي، تخشى من عواقب الانفتاح، وتقلق من تداعيات التضييق، خاصة أن هناك أخطاء دقيقة ارتكبت فيه، أخفقت الدعاية المصرية في التغطية عليها أو منع المنظمات الحقوقية من الكتابة عنها التي استغلت التعتيم في صياغة تقارير تشوبها مبالغات لإجبار الحكومة على تكذيبها بأدلة حقيقية، أو فتح المجال العام أمامها للعمل.

وفشلت الحكومة في تقديم تفسيرات مقنعة للقبول بمنطق أن الأجواء التي كانت تعيشها البلاد في ظل الإرهاب فرضت وقوع أخطاء، وفشلت في الترويج لتوسيع مفهوم حقوق الإنسان بما يتجاوز الحريات والديمقراطية والتعددية إلى ضمان حياة معيشية جيدة لجميع المواطنين، وأن هناك أولويات تستوجب الترتيب حسب ظروف المرحلة.

مجاراة التحولات

مع انسحاب ملف حقوق الإنسان في عهد إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، أو بمعنى أدق عدم التركيز عليه ضمن أدوات السياسة الخارجية كقيمة عليا لدى الولايات المتحدة، تمكنت القاهرة من التصدي لكثير من الحملات، التي تعرضت لها وقفزت فوق الانتقادات التي وجهت إليها.

غير أن وصول بايدن للسلطة منح هذا الملف قبلة حياة، ولم ينتظر حقوقيون ومعارضون تسلمه للحكم ونفخوا في موضوع الحريات ليكون على الطاولة في جميع اللقاءات السياسية التي يكون فيها طرف مصري وآخر غربي.

ويؤدي طغيان الملف الحقوقي على غيره من الملفات إلى خسارة كبيرة لمصر، لأنه يؤثر على علاقاتها السياسية مع المجتمع الدولي، وربما كانت مردوداته ضئيلة في هذه المسألة الفترة الماضية، لكن التركيز عليه سوف تكون له انعكاسات مؤلمة، حيث يمس وترا حساسا لدى كثير من الشعوب التي تمارس بدورها ضغطا على قياداتها، ومهما كان حجم المصالح مع القاهرة لن يستطيع المسؤولون في الغرب تجاهله.

القاهرة تدرك الخطورة التي ينطوي عليها ملف حقوق الإنسان، وقد حاولت وفقا لرؤيتها تصحيح الصورة السلبية عنها
القاهرة تدرك الخطورة التي ينطوي عليها ملف حقوق الإنسان، وقد حاولت وفقا لرؤيتها تصحيح الصورة السلبية عنها

ويعلم من يركزون عليه عمق النتائج التي يمكن أن تترتب عليه، حيث تقلل من أهمية الخطوات الإيجابية التي اتخذتها الحكومة المصرية في مجالات أخرى، وتعطل الكثير من أوجه الاستثمار الأجنبي، فبعض المستثمرين يضعون حقوق الإنسان كمؤشر على مدى الاستقرار في البلد الذي يقصدونه، وما يمكن أن ينتظره في المستقبل.

فالمقياس هنا له علاقة بدرجة الاستقرار لاحقا وما يترتب عليه من معطيات سياسية وأمنية وبالتالي اقتصادية، لأن أوضاع حقوق الإنسان تحمل ملمحا للهدوء من عدمه.

والتقطت الحكومة المصرية بعض الإشارات مؤخرا، وشعرت أن الطريقة التي انتهجتها السنوات الماضية لن تكون مفيدة وعليها استكمال الخطوات القانونية لإصدار اللائحة التنفيذية لقانون الجمعيات الأهلية، التي شملت ضوابط مهمة لمنع التمويل الأجنبي، وحرمان المنظمات العاملة في مصر من القيام بتحركات لها أبعاد سياسية.

وبدت القاهرة قابلة للضغوط عندما اضطرت للإفراج عن ثلاثة قيادات في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، الخميس الماضي، عقب احتجازهم لمدة أسبوعين، وبعد توجيه اتهامات لهم بالانتماء لجماعة إرهابية (الإخوان) وتلقي أموال أجنبية.

كما أعلن قاض مصري، السبت، انتهاء التحقيقات في قضية قديمة اتهِمت فيها 20 منظمة غير حكومية بتلقي أموال أجنبية بشكل غير قانوني، وعدم إخضاع هذه المنظمات لإجراءات جنائية، وهي علامة مهمة تتزامن مع الضغوط الجديدة.

ويقول متابعون إن القاهرة مقبلة على انفراجة في ملف الحريات عموما، وباتت مجبرة على القيام بإصلاحات سياسية جرى تأجيلها أكثر من مرة لتتمكن من التغلب على الحواجز التي وضعت في طريقها على مدار سنوات، ومرجح أن تتزايد، الإصلاحات والحواجز، مع تسلم بايدن مهام منصبه رسميا.

وترى بعض الدوائر السياسية أن الدولة اجتازت الكثير من عوامل التوتر، ونجحت أجهزتها في توفير درجة عالية من الأمن والاستقرار، والقضاء على الإرهاب الذي كان وسيلة لتبرير بعض التجاوزات في ملف حقوق الإنسان، وبالتالي من الضروري تهيئة البيئة لنقلة تحمل تغيرات حقيقية في الفضاء العام، ونزع هذه الورقة من أيدي من يريدون تحويلها إلى مدخل لمزيد من استهداف الدولة، بعد أن أصبحت الصورة الذهنية للدولة المصرية مرتبطة بمدى ما يتحقق من تقدم في ملف حقوق الإنسان.

6