للتخاصم والجدل في فيينا عواقب وخيمة على إيران

عادت إيران إلى مفاوضات فيينا لإحياء خطة العمل المشتركة لتقديم مطالب مشددة في مقدمتها تعليق كل العقوبات الأميركية، كما اشترطت تقديم واشنطن ضمانات بعدم تكرار الانسحاب الأحادي من اتفاق 2015 في حال تم إحياؤه أو أي اتفاق جديد، ويستغل النظام الإيراني جهود الرئيس الأميركي جو بايدن لكسب التأييد المحلي قبيل انتخابات التجديد النصفي لدفعه نحو تقديم المزيد من التنازلات لكنه لا يدرك أن فشل سياسة التهدئة قد يوجه بايدن نحو التصعيد ضد طهران حماية لمستقبله السياسي.
كانت الجولة الأخيرة من المحادثات النووية مع إيران في فيينا، بالنسبة إلى بقية دول العالم، هي السابعة منذ انتخاب جو بايدن رئيسًا للولايات المتحدة في العام الماضي. ولكن بالنسبة إلى الحكومة الإيرانية الجديدة، ربما كانت تلك هي الجولة الأولى بسبب إعادة نظرها في الاتفاقيات التي توصلت إليها الوفود السابقة.
ومنذ المحادثات الأخيرة التي تم عقدها قبل ستة أشهر، شكلت إيران حكومة جديدة يشرف عليها الرئيس المتشدد إبراهيم رئيسي وألقى ذلك بظلاله على طريقة المحادثات الإيرانية، وكما قال كبير المفاوضين الإيرانيين علي باغيري “يجب إجراء تغييرات على شكل ومضمون المفاوضات”. ويبدو أن الموقف الإيراني الجديد قد تحول من “الاعتدال” إلى “التشدد”، كما يبدو أنه الآن في انسجام أكبر مع طريقة تفكير المرشد الأعلى علي خامنئي.
وتهدف المحادثات إلى إعادة تفعيل الاتفاق المبرم في عام 2015 مع القوى العالمية الرامي إلى كبح جماح برنامج إيران النووي مقابل رفع العقوبات، لكن الاتفاق ظل مجمداً منذ انسحاب الولايات المتحدة منه على يد دونالد ترامب في شهر مايو 2018.
وكما هو متوقع، صورت طهران المفاوضات الأخيرة في هيئة تتناسب مع نظرتها القائمة على التحدي والصمود، فقد اختير اليوم الأول للمفاوضات والذي صادف يوم الاثنين لـ”الاحتفال” بالذكرى الحادية عشرة لـ”استشهاد” العالم مجيد شهريار، أحد الآباء المؤسسين للبرنامج النووي الإيراني، والذي قُتل في انفجار سيارة مفخخة في طهران. وفي اليوم الثاني من المحادثات أعلنت إيران عن إحراز “تقدم نووي” في منشأة فوردو النووية.
وعلى الصعيد السياسي، كما هو متوقع منها، أجرت إيران محادثات مع مجموعة 4 + 1، أي ممثلي الدول الأربع دائمة العضوية في مجلس الأمن وهي بريطانيا وفرنسا والصين وروسيا بالإضافة إلى ألمانيا. وصدرت تعليمات لروبرت مالي ممثل الدولة الخامسة في مجموعة الدول الخمس بالجلوس بمفرده في غرفة منفصلة بجوار مكان عقد المحادثات النووية.
ورسم خامنئي بعناية صورة تعكس الولايات المتحدة كدولة معزولة عن باقي دول العالم وليس إيران، كما جرب خامنئي ما يعتقد أنه سياسة خارجية وجيهة، وتتلخص تلك السياسة في إبعاد أوروبا عن الولايات المتحدة.
وبعد ذلك جاءت المُطالبات الإيرانية، وفي حين أعربت الحكومة السابقة عن استعدادها لـ”الامتثال المتبادل”، فقد اختلف حكام إيران الجدد عن سابقيهم وذهبوا إلى حد التنصل من جميع أشكال التسوية.
وفي اليوم الثاني في فيينا أعلن المسؤولون الإيرانيون أنهم ليسوا مهتمين بـ”الامتثال المتبادل” ولا بـ”الأقل مقابل الأقل”، والاسم الذي أُطلق على الاتفاقية المؤقتة هو خطة العمل المشتركة، وهي الاتفاقية التي سبقت خطة العمل الشاملة المشتركة التي تم التوقيع عليها في عام 2015 وأقرها مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في عام 2016 بموجب القرار 2231.
ولم تأت الحكومة الإيرانية الجديدة إلى فيينا لمناقشة أي اتفاقات سابقة، وإنما لتقديم مطلبها، وهو تعليق العقوبات الأميركية أحادية الجانب على إيران. وبعد انسحاب ترامب من الاتفاق النووي أعيدت العقوبات التي تم تعليقها بموجب خطة العمل الشاملة المشتركة، لكن ترامب ذهب إلى أبعد من ذلك، وأضاف العشرات من العقوبات الخاصة به، والتي تستهدف بشكل أساسي غسيل الأموال في طهران ورعاية الإرهاب، وتريد إيران تعليق جميع العقوبات الأميركية التي فرضها ترامب.
ومن الناحية الفنية، لم تنتهك عقوبات ترامب المتعلقة بالإرهاب الاتفاق النووي، لكن يبدو أن طهران تشعر بالقوة الكافية لإجبار الولايات المتحدة على التراجع بشكل مُهين عن كل قرار اتخذه ترامب. وقد قال بايدن بالفعل إن عودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي لا تشمل تعليق أي عقوبات غير نووية.
بل أن الوفد الإيراني الجديد ذهب إلى أبعد من ذلك، حيث تقول طهران الآن إنها لن ترضى بأي اتفاق وافق عليه مجلس الأمن فقط، بل يريد النظام الإيراني “ضمانات” بأنه في حالة العودة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة أو استبدالها، فإن واشنطن لن تكرر انسحابها من أي اتفاق كما عملت في عام 2018.
وفي الولايات المتحدة يتطلب ترسيخ أي معاهدة دولية موافقة الكونغرس، وهو أمر صعب المنال، وبدون تشريع لا يمكن لأي رئيس أميركي ضمان كيف سيتعامل خلفاؤه مع أي وعود دولية قد تقطعها حكومته على نفسها. وفي نهاية المطاف هذه هي الديمقراطية، حيث تتبنى الحكومات المتعاقبة سياسات مختلفة ومتناقضة في بعض الأحيان.
وقال إنريكي مورا الذي يترأس المحادثات بشأن إحياء الاتفاق النووي الإيراني المبرم عام 2015 الأربعاء إن المحادثات مع إيران ستستأنف الخميس في فيينا، فيما عبّر وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان عن قلقه من أن تكون إيران تماطل لكسب الوقت.
كما حذرت وزيرة الخارجية البريطانية ليز تراس إيران بأنها أمام “آخر فرصة” لمعاودة الالتزام باتفاق 2015، وحثتها “بشدة على القيام بذلك لأننا مصممون على العمل مع حلفائنا لمنع إيران من حيازة أسلحة نووية”.
وكانت إيران عادت إلى المحادثات النووية السابقة بمطالب أكبر من أي وقت مضى، واستنتج المحللون الإيرانيون أن بايدن وحزبه الديمقراطي يعانيان في استطلاعات الرأي الشعبية، وأن التوصل إلى اتفاق نووي مع إيران سيحسن من موقفه في انتخابات التجديد النصفي في العام المقبل. ولكن قد يكون ذلك قراءة خاطئة للمشهد السياسي الأميركي، حيث قد يؤدي إذلال بايدن في المحادثات النووية إلى إضعافه أمام الجمهور الأميركي ويثبت أن سياسته في استرضاء طهران سياسة فاشلة، مما يستلزم خيار التصعيد بدلا من خيار الترضية.
وقد لا يكون خامنئي متطرفًا كما يبدو عليه الآن في فيينا، وعُرف النظام الإسلامي بحبه للاتفاقيات التي يتم عقدها في اللحظات الأخيرة. وتعتقد الوفود الإيرانية أن المخاطرة بأوراق المفاوضات هو شيء في صالحها، فكلما اقترب بايدن من موعد إعادة انتخابه في نوفمبر 2024، كلما كان الاتفاق أفضل لطهران.
ولا ينبغي لطهران أن تبالغ في الثقة، فالرئيس بايدن قد لا يكون قادرًا على كبح جماح الغضب المشتعل في واشنطن وعواصم الحلفاء ضد غطرسة إيران وسلوكها المزعزع لاستقرار المنطقة، خاصة تجاه الحلفاء في الخليج العربي. وكلما طال أمد المحادثات النووية، زادت فرضية خيار الملاذ الأخير، وهو استخدام صواريخ قوية لنسف المنشآت النووية الإيرانية. وكما يقول البيت الشعري العربي الشهير: إذا رَأيْتَ نُيُوبَ اللّيْثِ بارِزَةً، فَلا تَظُنّنّ أنّ اللّيْثَ يَبْتَسِمُ. وأخيرا، على إيران أن تتجنب الخلط بين صبر الولايات المتحدة وضعفها.