لعبة إيران تعود عليها بنتائج عكسية تدعم عزلتها

نفد صبر إيران من الحلفاء الأوروبيين بسبب عدم قيامهم بما يكفي لمساعدتها على مواجهة العقوبات التي تفرضها واشنطن عليها، وأعلنت انسحابها التدريجي من الاتفاق النووي في قرار وصف بالابتزازي، الذي سعت من خلاله إيران إلى الضغط على الأوروبيين المتمسكين بالاتفاق النووي.
واشنطن - حذّر وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو في أبريل الماضي من أنّ الإدارة الأميركية ستواصل زيادة الضغط على إيران لكي تُغيّر سلوكها. ثم تمّ تصنيف الحرس الثوري الإيراني منظمة إرهابية أجنبية، وتلاه منع إيران عملية تبادل اليورانيوم المخصّب، التي يجيزها الاتفاق النووي، لكنّها منحت إعفاءات تسمح بإبقاء الاتفاق النووي حيّا، وهو الورقة التي سعت إيران إلى اللعب عليها للضغط على الشركاء، إلا أن لعبتها ستعود عليها بنتائج عكسية ستدعم عزلتها وتقوي أزمتها.
وردت إيران على هذه العقوبات بالتهديد بالانسحاب التدريجي من الاتفاق النووي الذي وقّعته عام 2015 مع قوى خمسة زائد واحد، قبل انسحاب الولايات المتحدة، لضمان الطابع السلمي المدني لبرنامجها النووي مقابل رفع العقوبات الدولية عنها.
ويرى الصحافي الهندي والمحرر الدولي في مجلة تايم الأميركية بوبي جوش أن التهديد الإيراني بالانسحاب من الاتفاق يمكن أن يؤدي إلى نتائج عكس ما يسعى إليه النظام الحاكم في طهران، وهو أن يؤدي إلى تقارب المواقف بين الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، بدلا من زيادة شقة الخلاف بينهما كما يأمل الإيرانيون.
وأعلنت إيران اعتزامها مواصلة الالتزام الجزئي بالاتفاق النووي لمدة شهرين قادميْن ومنح المفاوضين الأوروبيين فرصة أخيرة من أجل الوفاء الكامل بتخفيف القيود على حركة التجارة والاستثمار مع إيران. وبعد انتهاء المُهلة، تعتزم إيران التحلّل تدريجيا من الالتزام ببنود الاتفاق، على طريقة “رقصة السبعة أوشحة” للشريرة سالومي.
ورفض الأوروبيون المهلة التي حددتها ايران قبل أن تعلق تنفيذ تعهدات اخرى قطعتها بشأن برنامجها النووي مع تأكيد تمسكهم بالاتفاق.
ورأى المتابعون أن رسالة طهران الضمنية كانت في نفس الوقت بمثابة نداء وتهديد للأطراف الأوروبية والصينية في الصفقة النووية: ساعدونا، أو سنفشل.
وقالت الدول الاوروبية الموقعة على الاتفاق مع ايران (فرنسا وألمانيا وبريطانيا) في بيان مشترك مع وزيرة خارجية الاتحاد الاوروبي فيديريكا موغيريني «نرفض أي إنذار وسنعيد تقييم احترام إيران لالتزاماتها في المجال النووي».
وقالت إيلي غيرانمايه، الباحثة في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية “إيران ستتحول من مرحلة الصبر الاستراتيجي إلى مرحلة العمل الاستراتيجي”.
كانت هذه الخطوة الأولية أقلّ حدّة مما كان يخشى الكثير من المراقبين ولم تتضمّن أي خطوات فورية لإنتاج مزيد من اليورانيوم عالي التخصيب، والذي يمكن أن يكون نذير قنبلة نووية. ومع ذلك، فإن “استغاثة” إيران قد تنذر بنهاية الصفقة إذا لم تتهافت أوروبا للمساعدة في إنقاذها.
وقال علي فايز، المدير الإيراني في المجموعة الدولية لمعالجة الأزمات، “كان يمكن أن يكون الأمر أسوأ بكثير. لقد اتخذت إيران إجراءات انتقامية ضد أقصى ضغط للولايات المتحدة. أصبحت الكرة الآن في ملعب باقي الموقعين على الصفقة للاختيار بين تحدّي العقوبات الأميركية ومشاهدة انتهاكات إيرانية إضافية تؤدي إلى حل الصفقة في نهاية المطاف”.
واعتبر عومير كرم، الباحث في معهد واشنطن، أن إيران تحاول استخدام ابتزاز مجموعة 4+1 (بريطانيا والصين وفرنسا وروسيا وألمانيا) من أجل تقديم تنازلات اقتصادية تشمل التنفيذ الكامل لـ”أداة دعم الأنشطة التجارية”، التي أُطلِقت في وقتٍ سابقٍ من هذا العام لتسهيل التجارة مع طهران. وحتى الآن، واجهت هذه “الأداة” تحديات ناشئة عن العقوبات الأميركية وبالتالي فشلت في تحقيق التوقّعات الإيرانية.
الدولة المارقة
إذا عادت إيران إلى ممارسة نفس سياسات “الأمر الواقع” التي كانت تمارسها قبل توقيع اتفاق خطة العمل المشتركة الشاملة المعروف باسم الاتفاق النووي، فإنها ستعود إلى حالة “الدولة المارقة”. وسيكون لهذا التحرّك نفس التداعيات السابقة من فرض المزيد من العزلة والعقوبات على طهران.
ويرى بوبي جوش، في تحليل نشرته وكالة بلومبرغ للأنباء، أن الدول الأوروبية التي تريد إنقاذ الاتفاق والتي أنشأت حتى الآن آلية خاصة لسداد مدفوعاتها لصالح إيران خارج دائرة العقوبات الأميركية، لن يكون أمامها خيارات كثيرة حتى لا تعاقب إيران، إذا ما قرّرت الأخيرة التخلّي عن الاتفاق النووي. وقد حذّرت وزيرة الدفاع الفرنسية بالفعل من تزايد احتمالات إعادة فرض العقوبات على إيران.
ويبقى السؤال عن التوقيت الذي سيتم فيه إعادة فرض هذه العقوبات؟ هل سيتم بعد نزع الوشاح الرابع أم الوشاح السادس؟ في إشارة إلى اعتزام إيران التخلّي تدريجيا عن الالتزام ببنود الاتفاق، وهو ما يعني أنها ستعيد تفعيل أنشطتها النووية الموقوفة وفقا للاتفاق تدريجيا.
في الوقت نفسه فإن خروج إيران من الاتفاق النووي سيدفع الدول الأوروبية إلى تركيز قدر أكبر من الاهتمام على أنشطة النظام الإيراني الشريرة سواء داخل إيران أو خارجها.
وفي حين كان هناك أمل في الإبقاء على الاتفاق النووي، كانت حركة الدول الأوروبية ضد الأنشطة الإيرانية الشريرة في منطقة الشرق الأوسط، مثل استمرار دعم نظام الرئيس السوري بشار الأسد في سوريا، وضرب استقرار الحكومة الديمقراطية في العراق من خلال عملاء طهران في بغداد، والدعم المادي والمعنوي لحزب الله في لبنان وحماس في غزة والحوثيين في اليمن.
تجاهل الشر الاستراتيجي
يقول بوبي جوش إن مبدأ “تجاهل الشر الاستراتيجي” في التعامل مع إيران، يتجاوز تعامل الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما مع التجاوزات الإيرانية أثناء المفاوضات النووية. على سبيل المثال غضت الدول الأوروبية الطرف أو اكتفت بإدانات بسيطة لقيام إيران بتدبير وتنفيذ عمليات اغتيال لشخصيات إيرانية معارضة على الأراضي الأوروبية. كما عارضت الدول الأوروبية المحاولات الأميركية لتشديد العقوبات على طهران بسبب برنامجها لتطوير صواريخ بعيدة المدى.
والآن، ومع اتجاه إيران نحو التخلّي عن التزاماتها وفقا للاتفاق النووي، ستتخذ الدول الأوروبية مواقف أكثر تشدّدا ضدها. باختصار، قد لا تتبنّى الدول الأوروبية النهج بالغ التشدّد الذي يتبنّاه الرئيس الأميركي دونالد ترامب ضد إيران، لكنّ فرض أي عقوبات اقتصادية أوروبية على طهران سيُلحق ضررا كبيرا باقتصاد الأخيرة، الذي يعاني بالفعل من تداعيات إعادة فرض العقوبات الأميركية عليها.
لكن إيران مازالت تأمل في تجنّب هذا السيناريو. فمهلة الستين يوما، التي حددها الرئيس الإيراني حسن روحاني للدول الأوروبية هي محاولة من جانبه لإحداث شرخ في جدار التحالف الغربي، وابتعاد الأوروبيين عن الولايات المتحدة.
وظلت إيران تأمل في حدوث هذا الانقسام منذ إعلان الرئيس ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي في العام الماضي وتجاهله لكل الدعوات الأوروبية بالاستمرار في الاتفاق. لكن هذا الانقسام، بحسب بوبي جوش، لم يحدث على مدى 12 شهرا مضت، ومن غير المحتمل أن يحدث خلال الشهريْن المقبليْن.
من خلال تصريحاته لم يبذل الرئيس الإيراني، الذي ارتبط مصيره واسمه بالاتفاق النووي، أي جهد لإخفاء محاولة الابتزاز التي يقوم بها مع الأوروبيين. فقد قال روحاني إنه إذا لم تقف الدول الأوروبية إلى جانب بلاده في مواجهة العقوبات الأميركية، فإن إيران ستقلّص جهودها الرامية إلى وقف تهريب المهاجرين والمخدرات إلى أوروبا.
وقال روحاني أيضا إنه إذا لم تصل الإغاثة الاقتصادية في الشهريْن المقبليٍن، فستتخلى بلاده عن قيود أخرى على قدرتها على زيادة تخصيب اليورانيوم، مما قد يسهل على النظام بناء سلاح نووي بسرعة. وردّ المحلل في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات أولي هاينونين على هذه التصريحات محذرا من أن في تجاهل مثل هذه الانتهاكات مخاطر تمس الانتشار النووي.
ويقول هاينونين “لا يمتلك المجتمع الدولي سوى صورة جزئية لقدرات إيران الحالية على تصميم الأسلحة وتصنيعها. لذلك، يعدّ التسامح مع إيران خطيرا. ولتجنّب السير في هذا المنحدر، يجب على أطراف خطة العمل الشاملة المشتركة ألاّ تتسامح مع أي انتهاكات إيرانية”.
مهما كان مدى رفض المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي للسلوك المتهوّر للرئيس ترامب في التعامل مع الاتفاق النووي الإيراني، ومهما كانت رغبة هؤلاء القادة في المحافظة على المصالح الاقتصادية لبلادهم مع إيران، فإنهم بالتأكيد غير مستعدين للتخلّي عن التحالف مع الولايات المتحدة من أجل نظام حكم إيراني يقمع شعبه ويستخدم عملاءه في الخارج لقتل الآخرين ويستخدم الابتزاز للتعامل مع الغرب.