لبنان وسريلانكا تباعدهما الجغرافيا وتشابههما السياسة

الفساد والمحسوبية وسيطرة عائلات بعينها على الاقتصاد، بالإضافة إلى الحرب الأهلية (1975 - 1990)، هي أزمات عاشها لبنان ومازال إلى حد الآن يعاني من تبعاتها، وهو نفس السيناريو الذي تشهده سريلانكا.
بيروت - قد يكون لبنان وسريلانكا منفصلين جغرافيا، لكنهما يشتركان في تاريخ من الاضطرابات السياسية والعنف الذي أدى إلى انهيار اقتصادات كانت مزدهرة قبل أن يُدمرها الفساد والمحسوبية وعدم الكفاءة.
وأدى المزيج السام إلى كارثة لكليهما: انهيار العملة، والعجز الاقتصادي، وتضخم ثلاثي الأرقام، وتزايد الجوع، وانتشار طوابير الوقود، وطبقة وسطى متضررة بشدّة، بالإضافة إلى هجرة جماعية للمهنيين الذين كانوا مؤهّلين للمساعدة على إعادة الإعمار.
ويقول الخبراء إن العشرات من البلدان، بما في ذلك مصر وتونس والسودان وأفغانستان وباكستان، يمكن أن تعاني من مصير مشابه لما عاناه لبنان وسريلانكا؛ حيث أدى التعافي بعد الوباء والحرب في أوكرانيا إلى نقص الغذاء العالمي وارتفاع الأسعار.
جذور الأزمة
عشرات البلدان، منها مصر وتونس والسودان وأفغانستان وباكستان، يمكن أن تعاني من مصير مشابه لما عاناه لبنان وسريلانكا
تتلخص الأزمات اللبنانية والسريلانكية في عقود من الجشع والفساد والصراع؛ حيث عانى كلا البلدين من حرب أهلية طويلة أعقبها انتعاش هش سيطر عليه أمراء الحرب الفاسدون والعائلات البارزة التي جمعت ديونا خارجية هائلة وتمسكت بالسلطة.
ولم تتمكن الانتفاضات الشعبية المختلفة في لبنان من التخلص من الطبقة السياسية التي واصلت اعتماد نظام تقاسم السلطة الطائفي في البلاد لإدامة الفساد والمحسوبية. وتبقى القرارات الرئيسية في أيدي العائلات السياسية التي اكتسبت السلطة بسبب الثروة الهائلة أو من خلال قيادة الميليشيات خلال الحرب.
واحتدّ الشلل السياسي والخلل الحكومي وسط التنافس بين الفصائل. وأصبح لبنان بسبب ذلك إحدى أكثر دول الشرق الأوسط تخلفا في البنية التحتية والتنمية، ويواجه مشاكل يومية بما في ذلك انقطاع التيار الكهربائي المتكرر الذي تعاني منه البلاد بعد انقضاء 32 سنة على تاريخ انتهاء الحرب الأهلية.
وفي سريلانكا احتكرت عائلة راجاباكسا السياسة في الدولة - الجزيرة على مدى عقود. ولا يزال الرئيس غوتابايا راجاباكسا متمسكا بالسلطة، على الرغم من انهيار الأسرة الحاكمة من حوله وسط الاحتجاجات منذ أبريل.
ويقول الخبراء إن الأزمات الحالية في كلا البلدين من صنع هذه العائلات المسيطرة، بما في ذلك ارتفاع مستوى الديون الخارجية وقلة الاستثمار في التنمية.
كما عانى كلا البلدين من نوبات متكررة من عدم الاستقرار والهجمات الإرهابية التي ضربت السياحة التي كانت عماد اقتصاديهما. ففي سريلانكا على سبيل المثال قتلت التفجيرات الانتحارية في عيد الفصح في الكنائس والفنادق أكثر من 260 شخصا سنة 2019. وواجه لبنان تداعيات الحرب الأهلية في سوريا المجاورة، حيث أغرقت البلد الذي يبلغ عدد سكانه 5 ملايين نسمة بنحو مليون لاجئ. ثم تضرر كلا الاقتصادين مرة أخرى مع ظهور جائحة كوفيد - 19.
وبدأت أزمة لبنان أواخر سنة 2019، بعد أن أعلنت الحكومة عن ضرائب جديدة مقترحة، بما في ذلك الرسم الشهري الذي قدره 6 دولارات للمكالمات على تطبيق واتساب. وأشعلت الإجراءات شرارة الغضب المتصاعد منذ فترة طويلة ضد الطبقة الحاكمة وأشهرا من الاحتجاجات الجماهيرية. ثم وُضعت ضوابط غير منتظمة على رؤوس الأموال، مما قطع المدخرات عن أصحابها عندما بدأت العملة هبوطها الحاد.
وتخلّف لبنان عن سداد ديونه الهائلة في مارس 2020، وكانت تبلغ في ذلك الوقت حوالي 90 مليار دولار أو 170 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وهو واحد من أعلى الديون في العالم. وبعد أن فقدت العملة ما يقرب من 90 في المئة من قيمتها في يونيو 2021، قال البنك الدولي إن لبنان يشهد واحدة من أسوأ الأزمات التي شهدها العالم منذ أكثر من 150 عاما.
ومع استمرار هشاشة الاقتصاد في سريلانكا بعد تفجيرات عيد الفصح 2019، اعتمد غوتابايا على أكبر التخفيضات الضريبية في تاريخ البلاد. وأدى ذلك إلى رد فعل عنيف وسريع، حيث خفض الدائنون تصنيفات الدولة، مما منعها من اقتراض المزيد من الأموال مع انخفاض احتياطيات النقد الأجنبي.
وأصبحت البلاد على وشك الإفلاس، وأوقفت مدفوعات قروضها الخارجية وأدخلت ضوابط على رؤوس الأموال وسط نقص حاد في العملات الأجنبية. وقد تقرر التراجع عن التخفيضات الضريبية في الآونة الأخيرة.
أثناء ذلك تراجعت الروبية السريلانكية بنحو 80 في المئة لتصل إلى حوالي 360 للدولار الواحد، مما يجعل تكاليف الواردات أكبر. وقال رئيس الوزراء يوم الأربعاء إن الاقتصاد “انهار تماما”.
حياة منقلبة
كان لدى كل من لبنان وسريلانكا قبل هذا الانهيار الأخير سكان متوسطو الدخل يعيشون بشكل مريح إلى حد ما.
وعمل العديد من السريلانكيين كخدم في المنازل اللبنانية خلال الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، قبل استبدالهم بعمال من إثيوبيا ونيبال والفلبين عندما بدأت سريلانكا التعافي بعد الحرب.
وأجبرت الأزمة الأخيرة معظم اللبنانيين على التخلي عن هذا الترف، من بين أمور أخرى. ووجد الناس أنفسهم مقطوعين عن أموالهم تقريبا، وشهدو تبخر مدخراتهم وتراجع قيمة رواتبهم بين عشية وضحاها تقريبا. ولا يكفي راتب شهر بالحد الأدنى للأجور لشراء 20 لترا من البنزين، أو تغطية فاتورة المولّدات الخاصة التي تزود المنازل بساعات قليلة من الكهرباء يوميا.
الأزمات اللبنانية والسريلانكية تتلخص في عقود من الجشع والفساد والصراع؛ حيث عانى كلا البلدين من حرب أهلية طويلة أعقبها انتعاش هش سيطر عليه أمراء الحرب
وأدى النقص الحاد في الوقود وغاز الطهي والنفط في وقت من الأوقات إلى نشوب معارك بسبب الإمدادات المحدودة، وتكررت المشاهد الآن في سريلانكا. وغالبا ما تنفد أدوية السرطان أيضا. كما نفدت أوراق جوازات السفر الجديدة لدى الحكومة في وقت سابق من هذا العام.
وغادر عشرات الآلاف من المهنيين -بمن في ذلك الأطباء والممرضون والصيادلة- البلاد بحثا عن وظائف.
وبالمثل، تكاد سريلانكا تصبح خالية من البنزين وتواجه نقصا حادا في أنواع الوقود الأخرى. وأعلنت السلطات انقطاع التيار الكهربائي في جميع أنحاء البلاد لمدة تصل إلى أربع ساعات في اليوم وطلبت من موظفي الدولة عدم العمل أيام الجمعة، باستثناء أولئك الذين يقدّمون الخدمات الأساسية.
ويقول برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة إن ما يقرب من تسع من بين عشر أسر سريلانكية تتخلى عن وجبات الطعام أو تقلل من تناول طعامها، في حين أن 3 ملايين شخص يتلقون مساعدات إنسانية طارئة.
ولجأ الأطباء إلى وسائل التواصل الاجتماعي للحصول على الإمدادات الضرورية من المعدات والأدوية. وتريد أعداد متزايدة من السريلانكيين جوازات سفر للسفر إلى الخارج للبحث عن عمل.
كوارث أخرى

واجه كلا البلدين كوارث فاقمت أزمتهما بالإضافة إلى الاضطرابات السياسية والمالية؛ ففي الرابع من أغسطس 2020 أسفر انفجار كارثي في ميناء بيروت عن مقتل 216 شخصا على الأقل وتدمير أجزاء كبيرة من المدينة. ونتج الانفجار -الذي يعتبر على نطاق واسع أحد أكبر التفجيرات غير النووية في التاريخ- عن سوء تخزين مئات الأطنان من نترات الأمونيوم في مستودع لسنوات. وبقيت المادة الخطرة هناك على ما يبدو بعلم كبار السياسيين والمسؤولين الأمنيين الذين لم يفعلوا شيئا حيال الأمر.
وانتشر الغضب على نطاق واسع من الفساد المستشري وسوء الإدارة في الأحزاب التقليدية التي تُتهم بالتسبب في الكارثة.
وواجهت سريلانكا كارثة في مطلع سنة 2021، عندما اشتعلت النيران في سفينة حاويات تحمل مواد كيميائية قبالة سواحل العاصمة كولومبو. واحترقت لما يقرب من أسبوعين قبل أن تغرق أثناء جرها إلى المياه العميقة.
وأنتجت السفينة المحترقة أبخرة ضارة وانسكب أكثر من 1500 طن من الكريات البلاستيكية في المحيط الهندي، والتي تم العثور عليها لاحقا في الدلافين والأسماك الميتة على الشواطئ. ووفق بيان يتعلق بمحتويات السفينة -اطلعت عليه وكالة أسوشيتد برس حينها- حملت هذه السفينة أقل من 1500 حاوية، منها 81 حاوية من تلك التي وصفت بأنها بضائع “خطرة”.
وحُظر الصيد في المنطقة بسبب المخاطر الصحية المرتبطة بالمواد الكيميائية في المياه، مما أثّر على مداخيل حوالي 4300 أسرة لم تتلق أي تعويضات بعد.