لبنان واللاجئون السوريون.. الابتزاز آخر أوراق الإفلاس

التهديد بمصير اللاجئين بدلا من تلبية شروط صندوق النقد.
الجمعة 2022/10/14
الحكومة اللبنانية تخطط لإعادة 15 ألف لاجئ سوري شهرياً، بينما لا يوجد على الطرف الآخر من الحدود من يستقبلهم لأنهم جزء من سوريا غير المفيدة

أعلن الرئيس اللبناني ميشال عون أن الخطوة اللاحقة بعد إتمام الاتفاق اللبناني – الإسرائيلي على ترسيم الحدود البحرية ستكون البدء بإعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم ابتداء من الأسبوع القادم. في الوقت ذاته تم الإفصاح عن تسجيل نحو 1600 أسرة من اللاجئين السوريين رغبتها بالعودة الطوعية، والحديث عن أعداد هائلة من السوريين يرغبون بالعودة إلى بلادهم نتيجة تردي أوضاعهم في لبنان.

بيروت - لم تتبنّ المؤسسة السياسية اللبنانية قرارا أكثر فشلا من القرار الذي أعلنه الرئيس ميشال عون بالبدء بحملة “لإعادة اللاجئين السوريين إلى ديارهم”. والسؤال الأول الذي واجه القرار هو: أين هي ديارهم؟

والقرار، بحسب العديد من الدلائل، فاشل لأنه يضر بلبنان، ويضر بالحكومة السورية، ليس بأقل مما يضر باللاجئين أنفسهم.

بعض هذه الدلائل يشير إلى أن لبنان أراد أن يستخدم ورقة اللاجئين لأجل ابتزاز الأمم المتحدة والمنظمات المانحة من أجل الحصول على المزيد من المساعدات المالية، وعندما لم ينجح، قرر أن ينفذ وعيده بإعادة اللاجئين السوريين على مراحل أملا بأن ترتفع أصوات الانتقادات، لترتفع معها الاستعدادات لتقديم المعونات.

العثور على الكنز

لبنان يطالب بـ 3.2 مليار دولار لمعالجة تداعيات اللجوء، بينما تقول الأمم المتحدة إنها قدمت له مساعدات بلغت 9 مليارات

في العشرين من يونيو الماضي، ومع تفاقم الأزمة الاقتصادية في البلاد وتعثر المفاوضات مع صندوق النقد الدولي لأجل الحصول على مساعدات تبلغ 3 مليارات دولار، هدد رئيس حكومة تصريف الأعمال في لبنان نجيب ميقاتي بإعادة اللاجئين السوريين “إذا لم يتعاون المجتمع الدولي مع بلاده في تأمين عودتهم إلى سوريا”.

وطالب لبنان رسميا بالحصول على 3.2 مليار دولار “لمعالجة تداعيات اللجوء”. إلا أن الأمم المتحدة قالت إنها قدمت 9 مليارات دولار من المساعدات في إطار خطة لبنان للاستجابة للأزمة منذ العام 2015. وعلى الرغم من أن الأمم المتحدة لم ترفض الطلب بتقديم المزيد من المساعدات إلا أنها رهنت الأمر باستعدادات الدول المانحة.

ولم يكن توقيت الطلب نفسه موفقا، لأن أجواء الحرب في أوكرانيا وارتفاع فاتورة الطاقة أجبرت العديد من الدول المانحة على تقليص مساعداتها الخارجية.

وبدت حكومة ميقاتي وكأنها عثرت على كنز بديل يعوضها عن تلبية شروط صندوق النقد، فطالبت بمبلغ مماثل لتغطية تكاليف “رعايتها” للاجئين. وألقت في الوقت نفسه بأعباء الأزمة المستمرة في البلاد على كتف ما يمثله اللاجئون من “أعباء” تكاد تكون معدومة من الناحية الفعلية.

فبحسب تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ومفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فإن كل دولار تمّ إنفاقه على المساعدة الإنسانية للاجئين السوريين “كان له تأثير مضاعف وإيجابي قدره 1.6 دولار في الاقتصاد المحلي”. وهو ما أكده “ملخص سياسات عامة” نشره المركز اللبناني للدراسات، بعنوان “تحوّل النازحين السوريين من مجرّد عبء إلى مساهمين فاعلين في الاقتصاد المحلي في لبنان”.

1.5

مليون لاجئ سوري تدّعي الحكومة اللبنانية أنهم قدموا إلى أراضيها

ولم تتوقف المساعدات السنوية للبنان لتغطية مطالباته عن “استضافة” اللاجئين السوريين، حيث ظلت البلاد تحصل على نحو 1.5 مليار دولار سنويا من المساعدات الإنسانية، وذلك على الرغم من معرفة الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة أن اللاجئين السوريين لا يحصلون من هذه الأموال على أي شيء، لأنها تُنفق في العادة لتمويل ما تقول الحكومة اللبنانية إنها خدمات أمنية.

وبحسب بيانات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، فقد حصل لبنان خلال العام 2020 على 1.6 مليار دولار مُنِحَ جُلُّها عبر الهيئات الإنسانية والمنظمات غير الحكومية. كما حصل في العام الذي سبقه على مبلغ 1.1 مليار دولار.

وتذكر هذه البيانات أن لبنان يحتل المرتبة الأولى عالميًّا من حيث حصة الفرد المستهدف من التمويل الإنساني، التي تقدر بنحو 700 دولار للفرد سنويًّا. وعلى وجه العموم، فإن لبنان يحصل على 5.8 في المئة من مجموع التمويل الإنساني في العالم، بعد سوريا (9.6 في المئة) واليمن (8.1 في المئة). وشملت المساعدات المستهدفة مليون فقير لبناني، ومليون لاجئ سوري، و270 ألف لاجئ فلسطيني.

وتشير هذه الدلائل إلى أن اللاجئين السوريين ليسوا عبئا فعليا على الاقتصاد اللبناني، بل أنهم على العكس من الانطباع السائد، يشكلون مصدر دعم له بما تحصل عليه الخزانة العامة من مساعدات دولية، وبما تنفقه المنظمات الإنسانية من أموال لرعاية اللاجئين. وهناك ثلاث منظمات منها تكرس قسطا كبيرا مما تحصل عليه لتمويل عملياتها في لبنان، وهي برنامج الغذاء العالمي (الذي يحظى بـ29.8 في المئة من إجمالي أموال المساعدات الدولية)، ومفوضية اللاجئين (25.2 في المئة) ومنظمة اليونيسف (10.9 في المئة).

أصل الأزمة

الأطفال دون سن الـ17 يشكلون نحو 53 في المئة من مجموع اللاجئين

إلا أن لبنان الذي انحدر دخله الإجمالي من 55 مليار دولار في العام 2019 إلى أقل من 20 مليار دولار حاليا، ظل يشعر أنه يحتاج إلى المزيد، وكانت محنة اللاجئين إحدى أوراقه المهمة لممارسة الابتزاز.

ويعيش أكثر من 80 في المئة من اللاجئين في مخيمات لا يكفي القول إنها “تنقصها الخدمات”، لأنها بلا خدمات من الأساس. ولا تتوفر للاجئين الكهرباء ولا الماء النظيف ولا التدفئة، ويضطرون في ظروف البرد القارس إلى حرق ما يعثرون عليه من حطب ومواد بلاستيكية للتدفئة.

وبطبيعة الحال فإن الأطفال دون سن الـ17، الذين يشكلون نحو 53 في المئة من مجموع اللاجئين، يعيشون منذ العام 2012 من دون تعليم ولا رعاية صحية ويقتاتون على حصص غذائية توفرها لهم منظمات الإغاثة الدولية.

وتقول الحكومة اللبنانية إن مجموع اللاجئين السوريين يبلغ نحو مليون ونصف المليون إلا أن العدد الذي سجلته المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في العام 2015 يبلغ نحو 831 ألف لاجئ. وتوقف “العد” الرسمي منذ ذلك الحين، بسبب نقص الموارد المتاحة للمفوضية.

ومعظم هؤلاء اللاجئين نزحوا إلى لبنان بعد أن خسروا ديارهم في أعمال القصف العنيف التي شنتها القوات الحكومية لردع التمرد ضدها. وخلال السنوات الماضية قامت الميليشيات التابعة للحرس الثوري الإيراني باحتلال ما بقي من مساكن لم تتعرض للهدم لإيواء مقاتليها وعائلاتهم، وفقا لبرنامج رعته الحكومة السورية نفسها لاستبدال السكان في مناطق “سوريا غير المفيدة” (بحسب وصف الرئيس السوري بشار الأسد) بسكان جدد شيعة. كما أتاحت السلطات السورية للمستوطنين وللشركات التابعة للحرس الثوري الاستيلاء على أراض شاسعة وممتلكات تعود لمهجرين كتعويض عن الخدمات الأمنية التي حصلت عليها في الحرب ضد جماعات المعارضة المسلحة.

وينحدر أغلب اللاجئين من مناطق مثل حمص وحلب وإدلب وريف دمشق الجنوبي والشرقي وحماة ودرعا. وهي المناطق التي تعرضت لأعنف حملات التدمير ليس فقط للتجمعات السكنية وحدها، وإنما للبنية التحتية فيها أيضا، ما يجعلها مناطق غير مؤهلة لاستقبال السكان.

وبينما تخطط الحكومة اللبنانية لإعادة 15 ألف لاجئ كل شهر، فلا يوجد على الطرف الآخر من الحدود من يستقبلهم أو يوفر لهم الرعاية؛ من ناحية، لأنهم جزء من سوريا غير المفيدة، ومن ناحية أخرى، لأنهم يثيرون المخاوف لدى السلطات من كونهم مرتبطين بطرف أو آخر من أطراف المعارضة.

وبسبب الظروف الاقتصادية العسيرة التي تعانيها سوريا، فمن غير المتوقع أن تكون قادرة على تحمل تكاليف “إعادة توطين” هؤلاء اللاجئين، أو إعادتهم إلى منازلهم، أو تقديم أي خدمات لهم، حتى ولو اقتصرت على خيام في العراء، على غرار الخيام في العراء التي يعيشون فيها بلبنان.

831

ألف لاجئ سوري هو الرقم الحقيقي الذي أعلنته المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين

والأسوأ من ذلك أن خطط الترحيل اللبنانية لا تتضمن أي دور للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، وهو ما يعني من الناحية الفعلية أن يتم “كبّ” اللاجئين على الطرف الآخر من الحدود، كما لو أنهم قمامة وليسوا بشرا.

ويمكن لهذا الإجراء أن يعد خطأ سياسيا وليس مجرد خطأ “لوجستي”، لأن المحافظة على دور للمفوضية الأممية يوفر للبنان من جهة، ولسوريا من جهة أخرى، أداة للضغط من أجل أن تتدبر الأمم المتحدة تكاليف الترحيل، وتوفر ضمانات الحد الأدنى لعيش اللاجئين من قبيل الماء والطعام على الأقل.

وتذهب توقعات المنظمات الحقوقية الدولية الى أن اللاجئين، وهم بعيدون عن أنظار منظمات الإغاثة، سوف يتعرضون للاضطهاد والاعتقالات التعسفية وقد يكون مصيرهم مماثلا لمصير عشرات الآلاف ممن قضوا في السجون السورية تحت التعذيب.

أما الأطفال والأمهات فلن يحصلوا حتى على ما قد يتوفر من الحصص الغذائية، بسبب القيود التي تفرضها السلطات السورية على نشاط تلك المنظمات التي عادة ما تطلب بأن تتولى بنفسها تقديم هذه المساعدات للمحتاجين مباشرة، بينما تطلب السلطات السورية أن تقوم هي بهذه المهمة. ومن المفهوم، في هذه الحال، أن تلك المساعدات لن تصل إلا بشروط وليس من دون انتهاكات طبعا. وتقول منظمة هيومن رايتس ووتش في تقرير صدر في يوليو الماضي إن “سوريا أبعد ما تكون عن توفير الأمن والسلامة للعائدين»

سُنّة ضد سنّة

اقرأ أيضاً: من حل أمني إلى آخر

ومعظم اللاجئين السوريين هم من السُنة، الذين عادة ما تعتبرهم السلطات السورية أعداء محتملين ومعارضين منذ ساعة ولادتهم الأولى. وكان من الملفت بالنسبة إلى المراقبين أن يكون رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي، وهو ملياردير سني، على رأس الذين يدعون إلى إعادة ترحيل اللاجئين.

وقال ميقاتي أثناء إطلاق “خطة لبنان للاستجابة للأزمة لعام 2022 – 2023” إنه “بعد 11 عاما على بدء الأزمة السورية، لم تعد لدى لبنان القدرة على تحمل كل هذا العبء، لاسيما في ظل الظروف الحالية”. وهدد المجتمع الدولي بالقول إنه إما أن “يتعاون مع لبنان لإعادة النازحين السوريين إلى بلدهم، وإلا فسيكون للبنان موقف ليس مستحبا على دول الغرب، وهو العمل على إخراج السوريين من لبنان بالطرق القانونية، من خلال تطبيق القوانين اللبنانية بحزم”.

وعلى الرغم من أن لبنان ملزم بحسب المعايير الدولية بعدم إعادة اللاجئين قسرا، إلا أن وزير الشؤون الاجتماعية هيكتور الحجار قال في مايو الماضي إن “الدولة ملتزمة بمبدأ عدم الإعادة القسرية للنازحين، ولكن الوضع لم يعد يحتمل ولم تعد الدولة اللبنانية قادرة على تحمل كلفة ضبط الأمن في مخيمات النازحين والمناطق التي ينتشرون فيها”.

وتستند السلطات اللبنانية إلى أن لبنان لم يوقع على اتفاقية اللجوء الدولية سنة 1951. ولأجل المزيد من الابتعاد عن مستلزمات هذه الاتفاقية، فإنها لا تمنح السوريين صفة “لاجئين”، وتعتبرهم “نازحين” الأمر الذي يحرمهم من كل الحقوق التي قد تترتب على لقب “لاجئ”.

وهي حقوق لم يحصل عليها اللاجئون الفلسطينيون أنفسهم على أي حال.

وتتذرع السلطات اللبنانية بالخشية من أن يحصل اللاجئون على حق المواطنة، ما يؤدي إلى تغيير التركيبة الديمغرافية في البلاد.

ولكن حتى بالنسبة إلى هذه التركيبة، فإنها لم تعد كما كانت بصرف النظر عن وجود اللاجئين. وهذا واقع تتحاشى النخبة الحاكمة في لبنان الاعتراف به.

فقراء ضد فقراء

برنامج الأمم المتحدة الإنمائي يؤكد أن كل دولار أُنفق على اللاجئين السوريين أدخل على الاقتصاد اللبناني 1.6 دولار

وتحاول هذه النخبة أن تلقي ببعض تبعات الأزمة التي تعانيها البلاد على عاتق اللاجئين السوريين والفلسطينيين على وجه خاص.

وعلى الرغم من أنها تعرف جيدا أسباب الأزمة الاقتصادية في البلاد، إلا أنها تستفيد من تحريض الفقراء اللبنانيين ضد الفقراء اللاجئين على اعتبارهم أنهم يستهلكون شيئا من موارد البلاد، ويتسببون في زيادة معدلات البطالة.

ولم يجد المجتمع الدولي سبيلا لتوفير التمويلات الكافية لتغطية تكاليف الحد الأدنى لأعمال الإغاثة. فبينما أعلنت مفوضية شؤون اللاجئين أنها تحتاج إلى 553.7 مليون دولار لتمويل عملياتها في لبنان عام 2021، فإنها لم تحصل على أكثر من 49 في المئة من هذه الاحتياجات حتى أكتوبر من العام نفسه. أما في 2022، فقد أعلنت أنها تحتاج إلى 534.3 مليون دولار، فلم يموّل منها إلا 32 في المئة حتى يونيو الماضي.

هذا الواقع يجعل اللاجئين السوريين ضحايا لبلدهم، وضحايا لبلد أفلسته نخبته، وضحايا لفقراء آخرين في هذا البلد، وضحايا للمجتمع الدولي الذي لم يوفر الكفاية لإغاثتهم، بل وربما ضحايا لساعة ولادتهم أيضا.

6