لبنانيون يختارون العودة إلى قراهم وأريافهم

اختار لبنانيون نزوحا معاكسا من المدينة باتجاه القرى والأرياف بعد أن تسببت الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المتلاحقة في استحالة العيش في عاصمة يملأها الضجيج والفقر، وبدل الهجرة خارج البلاد فضل هؤلاء العودة إلى مسقط الرأس ليبدأوا حياة جديدة أكثر بساطة وهدوءا.
سيناي (لبنان) - وُلدت ثريا في أحد أحياء بيروت ونشأت فيه، لكن سلسلة من الأزمات المتلاحقة جعلت الحياة في العاصمة لا تُحتمل ودفعتها إلى بدء اختبار نمط جديد من العيش في الريف بعيدا عن ضوضاء المدينة.
وتقول الشابة البالغة من العمر 28 عاما وسط أرض خصبة مزروعة بأشجار الأفوكادو في جنوب لبنان “بات العيش في المدينة بائسا جدا".
وتضيف "العنف الهادئ في حياة المدينة يستنزف منك الطاقة والمال والإنفاق (..) بات الأمر يفوق القدرة على الاحتمال".
وعلى وقع الأزمة الاقتصادية غير المسبوقة في لبنان والتي فاقمتها القيود المرافقة لتفشي وباء كورونا منذ ما يزيد على السنتين، ثم انفجار مرفأ بيروت المروع صيف عام 2020، فقد كثيرون القدرة على العيش في العاصمة وبات البعض غير قادر على تحمل التكاليف الآخذة في الارتفاع.
وبذلك بات النزوح العكسي إلى القرى والبلدات الريفية بمثابة طوق نجاة للعديد من اللبنانيين بصفته الخيار المتاح للحدّ من الأعباء المالية ولإعادة نسج العلاقة المنسية مع أرض الأجداد وإرثها الزراعي.
النزوح العكسي إلى القرى والبلدات الريفية بات بمثابة طوق نجاة للعديد من اللبنانيين بصفته الخيار المتاح للحدّ من الأعباء المالية
وفي أكتوبر الماضي انتقلت ثريا إلى مسقط رأسها قرية سيناي في جنوب البلاد للإقامة في منزل من طابقين بناه والدها. واتخذت قرارها بعدما طالبها مالك المنزل حيث كانت تقطن في بيروت بمضاعفة بدل الإيجار الشهري أربع مرات، في حين أن فواتير الاشتراك في مولد الكهرباء وكلفة النقل العام تتضخم بشكل يفوق قدرات السكان الشرائية.
وتوضح ثريا "وجدت أنه لا معنى لبقائي في بيروت وسط ظلام دامس في الليل والقمامة المنتشرة في كل مكان وانعدام الشعور بالأمان"، معتبرة أن المدينة بدت "عدائية بشدة إلى درجة جعلتها غير مألوفة".
وحين لا تعمل عن بعد لصالح منظمة غير ربحية، تقضي الشابة معظم وقتها في مزرعة عائلتها وتكتشف كيف تبدو النباتات وهي عطشى وكيف تغدو الثمار حين تنضج، لذلك قررت أن تعمل في مزرعة أهلها.
وعبر موقع يوتيوب تتعلّم تقنيات تشذيب الأشجار وتتواصل مع المزارعين المحليين للحصول على نصائح حول أفضل سبل للاهتمام بالأرض الزراعية التي تأمل أن تتولى إدارتها ذات يوم.

وتشرح "نحن بصدد زرع موسم جديد وأنا متحمسة تمامًا لذلك (..) أود أن أتابع الزرع من غرس البذور حتى الحصاد، أن أكون حاضرة في المراحل كافة"، لتكون الحياة في الريف هي مستقبلي وأنا أستبعد العودة إلى بيروت.
وفي بلد لم يجر فيه أي إحصاء رسمي منذ عام 1932، يتوفر القليل من البيانات حول التحوّل الديموغرافي في الحياة الريفية.
وبحسب شركة الدولية للمعلومات انتقل أكثر من 55 ألف شخص إلى المناطق الريفية، ويرتبط ذلك في الغالب بتداعيات الانهيار الاقتصادي الذي صنّفه البنك الدولي من بين الأسوأ في العالم منذ العام 1850.
وبحسب برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية في لبنان، فقد أبلغ بعض رؤساء البلديات ورؤساء اتحادات البلديات عن زيادة في عدد الأشخاص المنتقلين إلى الأرياف، في غياب توفر أدلة بالأرقام.
ولا يرجح البرنامج حدوث هجرة عكسية كبيرة نحو المناطق الريفية. وتشرح تالا قمورية من وحدة التحليل والسياسات الحضرية في البرنامج أنه “من المتوقع أن يؤدي انعدام خطط التنمية الريفية وطابع المركزية الشديدة للبنان إلى ردع التحضر المضاد على المدى الطويل”.
وخلال العقود الأخيرة انتقل الكثير من سكان القرى لاسيما الشباب إلى المدن الكبرى حيث تتوافر فرص أكبر في مجالات التعليم والعمل والخدمات التي شكلت ركيزة أساسية في الاقتصاد، مقابل إهمال الزراعة التي لا توفر مدخولا ثابتا في غياب سياسات دعم رسمية.
وفي حقل قرب قرية كفر تبنيت في جنوب لبنان، ينثر حسن طراد (44 عاماً) بذور الصعتر، الزراعة التي بدأ التخصص فيها بعدما أمضى 18 عاماً في بيروت شعر خلالها بـ”الاختناق”، على حدّ قوله.
ويقول “شكّل انتقالي إلى القرية هروباً من ثلاث أزمات”، بدءا من تكوّم النفايات في شوارع بيروت وضواحيها ثمّ الانهيار الاقتصادي فتفشي فايروس كورونا.
وبدأ حسن الذي يعمل عن بعد كمصمم رسوم في صحيفة محلية يومية، الانتقال جزئياً إلى دبين، قريته الجنوبية، بدءاً من العام 2016 قبل أن يستقر نهائياً فيها خلال العام الماضي بعد انفجار مرفأ بيروت ويدير فيها أحد مشاريعه الزراعية أيضا.
وفي الجنوب يدفع حسن حالياً نصف قيمة الأقساط المدرسية التي كان يتكبدها في بيروت لتعليم ثلاثة من أطفاله الأربعة. ويوضح "استغليت الأزمة واقتربت أكثر من العمل في الأرض والزراعة (..) وبات لديّ انتماء أكبر إلى قريتي".
وبعدما دمّر انفجار المرفأ منزله وأصابه بجروح بليغة، وجد الكاتب إبراهيم نعمة في منزله في قرية بشمزين (شمال) مساحة للتعافي.
وفي مقال نشره مؤخرا كتب الشاب (35 عاما) "الانفجار الذي جعلني أفقد الاتصال بأرضي قادني في نهاية المطاف إلى إدراك مدى ارتباطي بها".
وفي يونيو غادر بيروت ليقيم في شقة صغيرة قرب البحر تبعد عشرين دقيقة عن مسقط رأسه حيث حقول زيتون عائلته.
ورغم أنه ليس مستعدا بعد للالتزام كليا بأسلوب حياة القرية، إلا أنه بدأ يدرك دوره في حماية إرث أجداده الزراعي. ويقول "أنا مرتبط بالأرض هنا ومتجذّر فيها (..) لدي أشجار الزيتون وسيتعين عليّ في يوم من الأيام الاعتناء بها".