لبنانيون يحترقون أمام الملأ

يتهم اللبنانيون سياسيي البلاد في ما وصلوا إليه من جوع وفقر بسبب تدهور الاقتصاد ووباء كورونا. واليوم يحترق أهالي عكار بسبب خزان وقود توافدوا عليه للحصول على القليل من البنزين في ظل أزمة المحروقات، فيمتلئ المستشفى بالمصابين وأهاليهم المفجوعين عليهم.
بيروت – يختلط الصراخ بالعويل والبكاء ومشاعر الغضب لدى أهال مفجوعين تجمعوا في أحد مستشفيات بيروت بانتظار أن يسمعوا خبراً أو يلقوا نظرة وإن أخيرة على أبنائهم المصابين في انفجار خزان الوقود في شمال لبنان.
فجر الأحد الخامس عشر من أغسطس قُتل 28 شخصاً على الأقلّ وأصيب نحو ثمانين آخرين بجروح جراء انفجار خزان وقود في بلدة التليل في عكار أفقر منطقة في لبنان، أثناء تجمع العشرات حوله للحصول على القليل من البنزين في بلد يشهد أزمة محروقات حادة.
ونقل تسعة جرحى على الأقل بينهم جنود في الجيش إلى مستشفى الجعيتاوي المتخصص لعلاج الحروق في بيروت.
في غرفة الطوارئ، تصرخ سوسن بأعلى صوتها “أريد أن أراه، ليس لديّ غيره” حين يبلغها أحد الأطباء أن ابنها ناجي عمر (22 عاماً) يرقد في وضع حرج في العناية الفائقة.
فجر الأحد، توجه ناجي الجندي في الجيش اللبناني، كغيره من العشرات من الشبان في منطقة عكار شمالاً إلى قرية التليل بعدما وصلتهم أخبار أن الجيش يوزع البنزين من أحد الخزانات التي صادرها.
وتقول والدته سوسن فيما يبدو التعب على وجهها النحيل الشاحب “كان ابني يبحث عن البنزين ليتمكن من العودة إلى خدمته العسكرية، وحين أتاه خبر عن الصهريج، توجه إلى هناك مع صديقه وأصيب الاثنان”.
أتت سوسن من بلدة القبيات في أقصى شمال لبنان إلى مدينة بيروت أملاً في أن ترى ابنها الذي فقد والده ولم يكن يبلغ من العمر سوى عامين فقط.
تفرغ سوسن غضبها على المسؤولين الذين تتهمهم بالتسبب بالكارثة التي حلت عليها وعلى العشرات من العائلات في منطقة عكا، وتقول “إنها دولة فاشلة لا تحب شعبها”.
تتدخل ابنتها ساندي (26 عاماً) بالحديث وتنهمر الدموع على وجنتيها فيما يسيطر الغضب عليها وتقول “أرى النور من عيني شقيقي.. أتمنى أن يحترق قلب المسؤولين على أبنائهم”. وتضيف “ذلونا ولا يهمهم سوى المناصب”.
من بين القصص المروعة التي عاشها سكان المنطقة، ما رواه المواطن وليد إبراهيم، حيث أن اثنين من أشقائه يعتبران في عداد المفقودين، فيما أصيب ثالث بحروق جراء الانفجار.
وقال إبراهيم إنه ما زال ينتظر خبرا عن شقيقيه المفقودين، ولا يعرف عنهما شيئا بعد.
وأضاف أن شقيقه الثالث أصيب أيضا بحروق، ولم يتمكن من إسعافه بعد، بسبب عدم وجود أماكن شاغرة في المستشفيات، نظرا إلى العدد الكبير للجرحى.
المستشفيات عاجزة عن استقبال الجرحى ومعالجتهم، نظرا إلى الصعوبات اللوجستية والأعداد الكبيرة للمصابين
أما المواطنة فاطمة المحمد فلم تستطع حبس دموعها أثناء الحديث معها، بعدما أصيب زوجها بحروق بالغة.
وتحدث فاطمة عن نكبة كبيرة حلت بها، وبأولادها الأربعة بسبب إصابة زوجها في الانفجار، مشيرة أنهم أصبحوا من دون معيل لهم.
وأفادت بأنها تخشى على حياة أولادها جراء عدم تمكنها من تأمين الطعام والحليب الذي يحتاجونه يوميا.
بدوره، قال المواطن أحمد العويك إن “ما حصل في عكار هو قتل جماعي للفقراء الذين توجهوا إلى خزان الوقود لتأمين حاجتهم من تلك المادة، لكنهم لم يكونوا يدركون أنهم سيُقتلون حرقا بالبنزين”.
واضاف أن المأساة كبيرة جدا، والمستشفيات عاجزة عن استقبال الجرحى ومعالجتهم ، نظرا إلى الصعوبات اللوجستية والأعداد الكبيرة للمصابين.
عند مدخل قاعة الطوارئ في مستشفى الجعيتاوي ينهمك الأطباء والممرضون وحتى عناصر الشرطة في تهدئة الأهالي المفجوعين، وبينهم مروى الشيخ (33 عاماً)، حيث تنتظر خبرين، الأول عن شقيقها الذي يرقد في المستشفى بعدما حُرقت رجلاه وبطنه وظهره، والثاني عن زوج أختها الوالد لأربعة أطفال والذي لا يزال مفقوداً. وتقول “لا نعلم إن كان على قيد الحياة”.
حين علم شقيق مروى بخزان الوقود توجه لتعبئة قارورة بلاستيك. وتقول مروى “ماذا نتوقع من شعب جاع وتعب وتعرض للذل؟”.
يصرخ شقيقها إلى جانبها “ماذا أقول لأختي، ماذا أقول لأختي” التي لا يزال زوجها مفقوداً، ويردد “ماذا سيحصل في هذا البلد، ماذا سيحصل؟”.
تأتيه إجابة قاسية من أحد المفجوعين، يصرخ بوجهه قائلاً “هناك غيره كثر، هناك ناس فقدت شخصين وثلاثة”.
تحاول مروى كبت دموعها قدر الإمكان وتقول “منذ خمسة أيام نعيش من دون كهرباء أو غاز منزلي.. بالطبع حين يسمع الناس عن خزان الوقود سيركضون إليه، كل شخص يريد تأمين حاجته ليذهب إلى عمله على الأقل”.
وتضيف “إنه قنبلة موقوتة.. ما حصل مجزرة، هناك أشخاص لا يمكن التعرف عليهم جراء التشوه. سنضطر أن ننتظر فحوصات الحمض النووي” لربما يجدون زوج أختها.
وجراء أزمة المحروقات المتفاقمة، يصدر كل يوم في لبنان تحذير من قطاع ما. وقد حذرت مستشفيات عدة خلال اليومين الماضيين من احتمال إغلاق
أبوابها في حال لم يتوفر المازوت اللازم لتشغيل المولدات الخاصة. أما مؤسسة كهرباء لبنان فشرعت منذ أسابيع في تقنين قاس يصل إلى 22 ساعة في اليوم.
ولا تتوقف أزمة المستشفيات على المحروقات، بل تعاني أيضاً من هجرة الأطباء والممرضين ونقص حاد في الأدوية.

ويقول المدير الطبي لمستشفى الجعيتاوي بيار يارد “للأسف الدولة غائبة والسلطات لا تتحرك.. منذ أشهر ونحن نصرخ أن المستشفيات في وضع صعب”.
تنقل عُدي خضر (26 عاماً) بين أربعة مستشفيات لتلقي العلاج، آخرها مستشفى الجعيتاوي. ويجلس والده ممدوح في غرفة الطوارئ محاولاً قدر الإمكان ضبط أعصابه يترقب أيّ خبر من الأطباء عن ابنه، العسكري في الجيش، الذي ملأت الحروق جسده.
ويقول ممدوح “ابني قلبه طيب.. وها هو يدفع ثمن الشح في المحروقات”، متسائلاً “أين يذهب البلد؟ لماذا لا نتمكن من العيش براحة وأن نأكل ونشرب؟”.
“فليستقيلوا” يردد ممدوح في إشارة إلى المسؤولين في الدولة الذين يحملهم على غرار كثر مسؤولية الانهيار الاقتصادي الذي ينهش البلد منذ عامين، ويقول “هل يحترق ابني فيما هم يخرّبون البلد؟”.