لبنانيون ضيعتهم الحرب أطفالا يبحثون عن ذويهم

خلال فترة الحرب الأهلية في لبنان أقدمت عائلات أجنبية، من الولايات المتحدة والدول الأوروبية على تبني أطفال لبنانيين بلغت أعدادهم آلافا وصلوا الآن إلى سن الشباب لا يعرفون آباءهم وأمهاتهم البيولوجيين، لذا قرر بعضهم العودة والبحث عنهم على أمل إحياء العلاقة مع عائلاتهم الحقيقية.
الأربعاء 2017/08/16
ديدا غويغان تغني الفرح بعد العناء

بيروت - خلال سنوات الحرب الأهلية تبنت عائلة أجنبية ديدا غويغان عندما كان عمرها أسبوعين فقط، على غرار الآلاف من الأطفال اللبنانيين… وبعد بحث استمر تسع سنوات، وجدت ديدا والدتها في سويسرا البلد ذاته الذي عاشت فيه.

شهد لبنان حربا أهلية بين عامي 1975 و1990، تبنت خلالها عائلات أجنبية أطفالا من لبنان واصطحبتهم إلى الخارج. وبعد مضي سنوات طويلة بدأ العديد منهم على غرار ديدا (32 عاما) رحلة بحث شاقة لإيجاد أمهاتهم البيولوجيات والتعرف على جذورهم اللبنانية.

لكن المهمة تبقى صعبة جدا نتيجة الفوضى التي وسمت إجراءات التبني خلال الحرب، وما تخللها من استخدام وثائق مزورة وأسرار منسية يفضل الكثيرون عدم البوح بها. وسهّل مسؤولون محليون ووسطاء تلك العمليات مقابل الحصول على بدل مادي.

ويتردد في هذا الإطار أن ثمة مافيات اغتنمت فرصة غياب الدولة خلال الحرب، وتاجرت بالأطفال، حيث كانت تبيع الطفل اللبناني للعائلة الأجنبية بحوالي ألف دولار أميركي.

وتقدر جمعية “بدائل” غير الحكومية عدد الأطفال الذين تم تبنيهم خلال الحرب بعشرة آلاف على الأقل.

وتشرح زينة علوش من مؤسسي الجمعية “كانت عملية التبني سهلة”، موضحة أنه “كان زمن العصابات، ما من قانون أو أمن، كان هناك نوع من التواطؤ أيضا إذ كان الناس يرون في ذلك الطريقة الأنسب لإنقاذ الأطفال”.

لم يبق لصوفي من الذكريات إلا الصورة

في العام 1984، تركت ديدا مع العائلة التي تبنتها لبنان لتنشأ في سويسرا وكانت على دراية بأنها طفلة بالتنبي دون أن تعلم شيئا عن والدتها الحقيقية. حين بلغت الثامنة عشرة من عمرها، أعطتها العائلة وثائق تبنيها ووثيقة ولادة من مستشفى في بيروت ومن خلال البحث في أرشيف ذلك المستشفى تمكنت من العثور على اسم الأم، ومن ثم عنوانها.

ورغم حصولها على أول دليل يساعدها في البحث، احتاجت ديدا إلى سنوات وتمكنت بمساعدة قناة تلفزيونية لبنانية من الوصول إلى أمها.

في غضون تلك السنوات، سافرت ديدا مرات عدة إلى بيروت لتكتشف لاحقا أن أمها تعيش معها في البلد ذاته، أي سويسرا، على بعد ساعة واحدة منها فقط.

في العام 2012، التقت ديدا بأمها البيولوجية للمرة الأولى، وتقول “لم أصدق حقيقة أن ذلك قد يحصل، استعددت كثيرا للأسوأ”. وأضافت “كان لقاؤها ومعرفة أنها على قيد الحياة واحدة من أجمل التجارب التي عشتها في حياتي”. بعد تواصلهما للمرة الأولى، اكتشفت ديدا أنها ووالدتها تتشاركان نبرة الصوت ذاتها.

وترفض ديدا الخوض في تفاصيل قصة تخلي أمها عنها، وتربطها بضغوط أبرزها غياب القوانين المدنية التي تحمي المرأة. لا تريد أن تبحث في ما إذا بيعت أو خطفت، وما الذي جرى لأمها ومن هو والدها، وتقول “لا أريد أن أعرف تلك التفاصيل الآن”.

تحتفظ ديدا بصورة لأمها، صورة بالأسود والأبيض مر عليها الزمن، لكنها تحمل ملامح الابنة أيضا. كما تحتفظ بألبوم صور أعدها والدها بالتبني منذ لحظة تسلمها.

إحداها صورة لأمها بالتبني تحمل سلة أطفال، كانت ديدا داخلها والصورة التقطت قرب باخرة لنقل الركاب راسية على ميناء قبرصي، حيث أغلقت الحرب المطار وجعلت مرفأ جونية مرفقا لنقل الركاب الراغبين في السفر عن طريق قبرص القريبة.

ديدا تعيش الأجواء اللبنانية في بيروت، وهي تغني الآن وتلحن كما كانت تفعل أمها البيولوجية

انتقلت ديدا للعيش في لبنان، هي تغنّي الآن وتلحّن كما كانت تفعل أمّها البيولوجية وتحاول ان تتواصل مع أصولها اللبنانية.

وأسّست مع زينة علّوش وناشطين آخرين “بدائل”، التي تسعى إلى تأمين الدعم والرعاية للأم المنفردة عوض إجبارها على الانفصال عن طفلها، وتقديم المساعدة التقنية والنفسية للأشخاص الباحثين عن أصولهم، وما أكثرهم.

وبخلاف ديدا، بدأت صوفي (51 عاما) التي تبنتها عائلة فرنسية قبل اندلاع الحرب عندما كانت تبلغ ستة أشهر، مؤخرا، عملية البحث عن عائلتها.

وتقول هذه السيدة التي فضلت استخدام اسم مستعار عبر الإنترنت “في عمر السابعة والأربعين شعرت بحاجة إلى ملء فراغ كبير داخلي وهو معرفة قصة ولادتي”.

عادت صوفي إلى لبنان ومعها اسم والدتها البيولوجية، لكنها فوجئت بأشخاص لم يرحبوا بمجيئها، تقول “قالوا لي، لديك عائلة هناك، لقد حالفك الحظ حين غادرت هذا المكان”، مضيفة “لم يفهموا لماذا أبحث؟ وبدا لي أن القضية لا تزال معقدة وحتى محظورة”.

ووجد أشخاص كثيرون يبحثون عن جذورهم الجواب ذاته، حتى أن بعض العائلات رفضتهم تماما تفاديا للفضيحة، وفق علوش.

وتقدم جمعية “بدائل” النصائح للباحثين عن جذورهم حول الطرق الأنسب لذلك، وبينها إجراء فحوصات تحليل الحمض النووي، وهو ما قامت به صوفي. بعد إجرائها تحليل الحمض النووي، نشرت صوفي نتائجه على مواقع شركات تعنى بمقارنتها مع أشخاص آخرين.

وكانت النتيجة أن وجدت أحد أقربائها، وتعرفت من خلاله عبر مواقع التواصل الاجتماعي على ابن خالها. وتقول صوفي “تبين أنه كان على دراية بوجودي”، مضيفة “والده، أي خالي، ساعد أمي في البحث عني لسنوات عدة بعد ولادتي”.

وعلمت صوفي من خلاله أن والدتها هاجرت إلى أستراليا، وهما تتواصلان حاليا عبر الإنترنت بمساعدة أختها غير الشقيقة هناك. وتقول “ارتحت كثيرا وفرحت لأني أخيرا وجدتها”.

جمعية "بدائل" تحتفظ بأسماء 2700 شخص جرى تبنيهم خلال فترة الحرب الأهلية ويبحثون اليوم عن عائلاتهم البيولوجية

ظروف غامضة

دانيال هو أيضا متبنى من عائلة أميركية، قيل له إنه وجد على قارعة طريق في منطقة فقيرة قرب بيروت قبل الحرب، لكن ظروف تبنيه الغامضة لم توقف بحثه عن عائلته الفعلية.

وجد وثيقة ولادته في المستشفى الذي قيل له إنه ولد فيه. الوثيقة عليها اسم الأب لكنه نفس الاسم الذي دون على الكثير من وثائق الولادة، فتأكد أنه اسم مستعار.لم يجد دانيال عائلته بعد، وهو يعيش اليوم في بيروت حيث يعمل أستاذا في إحدى الجامعات الخاصة.

وقد انخرط في جمعية “بدائل” التي تساعد مجهولي النسب كما يصطلح على تسميتهم هنا، وباتت اللائحة تضم مئة وخمسين اسما حتى الآن من الذين جرى تبنيهم ويبحثون عن أهلهم الفعليين.

يجهل دانيال قصة تبنيه، لكنه يربط تلك الظاهرة بالظروف الاجتماعية للعائلات، قائلا “إن الحرب زادت من نسبة هؤلاء، فالهاجس خلال الحرب كان الهرب منها، وهكذا جرى تسفير أطفال تحت هذا الغطاء وسط انحلال أجهزة الدولة وإداراتها”.

استعاد دانيال جنسيته اللبنانية وقرر العودة إلى لبنان نهائيا ويقول إنه لم يعثر على أهله، لكنه عثر على بعض الإشارات هي تلك التي أدركها عندما كان في بعض المناطق حيث انتابه شعور غريب.

روى كيف شعر بالانتماء عندما كان مرة في ضاحية بيروت الجنوبية وكذلك في الجنوب، لذلك فهو يعتقد أنه من هذه البيئة. كما أنه شعر يوما عندما صادف فتاة من أصل لبناني في الولايات المتحدة أنها شقيقته. يقول إنه شعور فقط لكن قد يقوده إلى شيء.

أطلقت الفرنسية من أصل لبناني ألكسندرين كاستاينية نداء عبر صحيفة الاتحاد الإماراتية إلى اللبنانيين المقيمين في دول الخليج تبحث من خلاله عن والديها.

تقول ألكسندرين “عندما ولدت عام 1965 في بيروت وضعني أهلي في ملجأ.. عام 1969 تبنتني عائلة فرنسية وكان عمري أربع سنوات، أحسنت تربيتي وعاملتني بصورة رائعة”.

وعندما كبرت قالت لها العائلة إنها ابنتها بالتبني، ومنذ ذلك وهي تحاول أن تعرف عائلتها البيولوجية، “إنني بحاجة ماسة إلى عاطفتها، إنني اقدر أن والدتي البيوليوجية اضطرت إلى تركي إلى مصير مجهول، لهذا فإنني أعذرها سلفا. وآمل أن أعيش بقية عمري في حضنها”.

متاهة الحرب

تقول “بعد أن عرفت الحقيقة، جئت إلى لبنان، شعرت آنذاك بخوف كبير من الأسئلة التي تساورني حول إن كنت سأتمكن من معرفة أمي ومعانقتها واكتشاف حقيقة التخلي عني”.

وعرفت ألكسندرين أن أمها لبنانية مسيحية من منطقة الجبل، وأنها وقعت في حب شخص أردني، وقد وضعاها خارج عقد أي زواج شرعي بينهما، فاضطرت والدتها إلى وضعها في ملجأ، إلى أن جاءت العائلة الفرنسية وتبنتها.

وتواصل ألكسندرين رحلة بحثها رغم فشلها في الحصول على معلومات صحيحة ودقيقة من إدارة الملجأ، “مهمتي صعبة جدا. لكنني أرفض القول بأنها مستحيلة. لهذا فإنني سأبقى متفائلة بأنني سأحصل على الحقيقة في لحظة ما”.

منحني الحياة

خلال سنوات الحرب، تمكنت عائلات أجنبية عدة من تبني أطفال بمساعدة أصدقاء لبنانيين في الاغتراب، كما حصل مع تيري (29 عاما) الذي غادر لبنان في عمر العشرة أشهر سنة 1988.

ويقول “لم أكن أعرف ماذا تعني الحرب، كنت أتخيل غرفة كبيرة مليئة بالأشخاص الذين يتقاتلون فيما وضعت أنا كطفل صغير على الأرض”.

وصل تيري إلى أدلة حول قصة تبنيه وبينها وثيقة تبين أنه وُضع طفلا أمام باب مستشفى سيدة المعونة في جبيل.

لم تثمر زيارة قام بها إلى لبنان عن أي نتيجة، لكنه وجد أحد أقاربه عبر نشر نتائج تحليل حمضه النووي على موقع إلكتروني مختص. لم يحالف تيري الحظ، فهذا الشخص “لم يكن مهتما بإعطائي أي معلومات، تمنى لي الحظ فقط”.تبدو مهمة تيري أكثر تعقيدا من غيره، لأنه متحول جنسيا فهو ولد أنثى واختار في العشرينات من عمره أن يتحول إلى ذكر.

ويقول تيري “هناك رابط دم قوي لا يمكن كسره (…) أريد بشدة أن التقي الشخص الذي منحني الحياة”.

ومنذ إنشائها في العام 2013، جمعت “بدائل” أسماء 2700 شخص جرى تبنيهم خلال فترة الحرب الأهلية ويبحثون اليوم عن عائلاتهم البيولوجية، فضلا عن أسماء أمهات يبحثن عن أطفالهن.

تراجع هذا النمط من عمليات التبني في لبنان مع انتهاء الحرب الأهلية، لكن النزاع الدائر في سوريا المجاورة أعاده إلى الواجهة. وتتوقع علوش أن يأتي اليوم الذي يخوض فيه لاجئون سوريون رحلة البحث ذاتها مثل تيري.

20