لا مفر من ارتداء الدرون زيا عسكريا في حالة الحرب

لندن - أظهر مقطع فيديو تم نشره من غزة طائرة ذاتية القيادة تجوب سماء القطاع، في حين تقف مجموعة من صحافيي شبكات التلفزيون ذوي الخوذات الزرقاء أسفلها وهم يحدقون فيها، تقف الطائرة لمدة ثانية معلقة في الهواء، ثم تُسقط غازا مسيلا للدموع يصطدم بالأرض مباشرة أمام كاميرات المراسلين الذين يهرعون في كل الاتجاهات وهم يسعلون، تتجه الكاميرات مرة أخرى نحو هذه النقطة السوداء لتصورها وهي تتراجع وبشكل غامض على ما يبدو إلى المكان الذي أتت منه.
هذه الحادثة أثارت قلقا كبيرا وسط العسكريين والباحثين في شؤون الدفاع، إذ لأول مرة تستهدف طائرات دون طيار أناسا على الأرض دون أن توقع، ودون أن يكون معلوما مسبقا أن هذه الطائرة هي طائرة مستخدمة في الأمور العسكرية.
وكالجنود تماما، ترتدي المعدات العسكرية، خصوصا الطائرات والدبابات والمدافع والسفن الحربية، زيا عسكريا يعكس هويتها وتبعيتها لدولة أو جيش ما، لكن إسرائيل كسرت هذه القاعدة، ومهدت الطريق لجيش آخر للقيام بنفس العملية.
والمشكلة في هذه الحادثة هي أن الطائرات التي تمكنت إسرائيل من تعديلها بحيث تكون قادرة على حمل قنابل مسيلة للدموع، هي طائرات تجارية استهلاكية، تستخدم عادة في الأغراض المدنية، ولم يسبق من قبل الزج بها في ساحات المعارك العسكرية.
وتطرح هذه الإشكالية مسألة أخلاقية في الحروب على وجه الخصوص، إذ لن يكون الخصم متوقعا أن تكون طائرة صغيرة بهذا الحجم قادرة على الدخول في مواجهة كبرى. وقد تستخدم طائرات يلجأ إليها الباحثون الأكاديميون والمصورون الصحافيون والشركات الاستثمارية في مهام تجسس على نطاق واسع.
إسرائيل تمهد الطريق أمام تنظيمات إرهابية لتحميل ذخائر فتاكة على طائرات متوفرة على أمازون ومهاجمة أناس عزل أو متظاهرين سلميين أو مؤسسات حكومية حساسة
وتمهد إسرائيل، بعد تنظيم داعش الذي استخدم طائرات دون طيار أيضا في عملياته ضد القوات الحكومية في سوريا والعراق، الطريق أمام تنظيمات إرهابية أخرى لتحميل ذخائر فتاكة على متن طائرات متوفرة بسهولة على مواقع التسوق الإلكتروني، كأمازون وعلي بابا وغيرهما، ومهاجمة أناس عزل أو مؤسسات حكومية حساسة.
وشرح الخبير التكنولوجي أسامة الزقوت في تقرير على مجلة الفورين بوليسي الأميركية، التطورات العسكرية لإسرائيل عبر إقحام طائرات الدرون ذاتية القيادة في حربها ضدها الفلسطينيين. واعتبر أنها خطوة مثيرة للقلق وتطرح أسئلة حول الشرعية القانونية والمسؤولية الإنسانية.
ولم ينكر الزقوت أن استخدام هذا النوع من الطائرات أمر لا مفر منه، لكن المجتمع الدولي مطالب على الأقل بتطبيق المعايير القانونية والأخلاقية بصفة عاجلة بعد أن تجرأت إسرائيل على قمع متظاهرين عبر هذه التقنية لترتكب بذلك جرائم رقمية عبر طائرة الدرون التي تتكتم إسرائيل عنها ومازالت دون هوية محددة.
طائرات دون طيار
يقع تصنيع طائرات الدرون من قبل مؤسسة دفاع إسرائيلية تدعى “إسبرا”، وهي متخصصة في تصنيع الأجهزة غير المسلحة لمكافحة الشغب، وإدارة التجمهر والمظاهرات، وأيضا متخصصة في تصنيع معدات مكافحة الإرهاب والمعدات الخاصة بالشرطة، ويحتوي الموقع الإلكتروني لهذه المؤسسة على وصف دقيق لأنظمة الطائرات ذاتية القيادة.
وإسرائيل ليست الوحيدة التي استخدمت هذه الطائرات، فقد استخدم الجيش الأميركي هذا النوع من طائرات الدرون الاستهلاكية الصينية الصنع أيضا حتى العام الماضي، عندما توقف العمل بها لدواع أمنية.
وقد تم تصميم الطائرة “إسبرا سايكلون” الإسرائيلية بغرض استهلاكي، وهي تعتبر أيضا النسخة المعدلة من الطائرة ذاتية القيادة الصينية الصنع من طراز “دي جي آي أكتوكوبتر إس 1000 بلاس”، وهو النوع الذي يستخدمه المصورون وتشبه إلى حد كبير الطائرات المدنية ذاتية القيادة.
ويبين اختيار الجيش الإسرائيلي استخدام هذا النوع من طائرات الدرون عدم وضوح الفرق بين الطائرات الاستهلاكية والطائرات العسكرية ذاتية القيادة، وغياب موقف قانوني محدد. ولم يظهر هذا النوع من الطائرات بمحض الصدفة، فقد كانت طائرات الغاز المسيل للدموع مجالا للتجريب النشط بين مقاولي الدفاع منذ عام 2001 على الأقل. وبحلول عام 2016، عرضت هذه الشركات منتجاتها للبيع على المستثمرين في مجال الدفاع وإنفاذ القانون.
وقد قامت شركة “إسبرا” الإسرائيلية بإنتاج طائرات الدرون للتحكم في المظاهرات وأعمال الشغب والعنف في يناير 2015، وتفخر الشركة بنفسها كونها “المزود المفضل” لقوات الدفاع والشرطة الإسرائيلية على موقعها الإلكتروني.
وليس من الغريب على قوات الدفاع الإسرائيلية استخدام تكنولوجيا طائرات الدرون الاستهلاكية: فقد قامت قوات الدفاع بتوزيع طائرات درون قابلة للطي من طراز “مافيك” تم تصنيعها في شركة “دي جي آي” الصينية على جميع أقسام الجيش في عام 2017. ولم تكن طائرات الدرون بمنأى عن التنظيمات المتطرفة، فقد استخدم تنظيم داعش مسبقا هذه التكنولوجيا في معركة مدينة الموصل العراقية لإلقاء المتفجرات والمراقبة، مشابهة لتلك التي أقدمت عليها إسرائيل ضد المتظاهرين الفلسطينيين.
ورغم أن مصادر عسكرية إسرائيلية صرحت لصحيفة هآرتس بأن السيطرة على حشود المتظاهرين الفلسطينيين باستخدام طائرات الدرون في مارس الماضي كانت مجرد “تجربة” ليس إلا، إلا أن نائب مفوض شرطة الحدود، ياكوف شبتاي، قدم المزيد من التفاصيل إلى قناة هاداشوت الإخبارية، موضحا أن “هذه المعدات تجنب القوات تعرضها للمخاطر”.
منذ اندلاع انتفاضة المتظاهرين المنددة بقرار الرئيس الأميركي بدأت هذه الطائرات في البروز أكثر فأكثر، كما برز معها سباق التسلح بين كلا الطرفين، حيث قام المتظاهرون الفلسطينيون بإرسال طائرات ورقية رقيقة تحتوي على مواد حارقة عبر الحاجز الحدودي بين غزة وإسرائيل، وتكشف هذه المحاولات عن أسلوب مقاومة فلسطيني جديد دخل على الخط وبات مثيرا للقلق لدى المزارعين في المستوطنات المحاذية لقطاع غزة، وكذلك لخدمات المطافئ الإسرائيلية التي عليها أن تواجه هذا الأسلوب.
وللرد على هذه الطائرات الورقية قام الجيش الإسرائيلي بتجنيد طائرات درون حسب ما ذكرت صحيفة هآرتس الإسرائيلية، وتم تزويدها بخطافات حادة لقطع خيوط الطائرات الورقية المهاجمة. ويشير بعض الفلسطينيين إلى أن الطائرات دون طيار التابعة للجيش الإسرائيلي تستخدم مادة كيميائية أكثر فعالية من تلك التي تنتشر عادة ضد الحشود في غزة.
وقال رئيس وحدة الاستجابة للطوارئ والكوارث في جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني محمد أبومصبح، إن “الناس اعتادوا على إطلاق الغاز المسيل للدموع من المدافع، ولكن ليس هذا الذي يسقط من الهواء عبر الطائرات ذاتية القيادة في أماكن غير متوقعة”.
غياب رادع قانوني
أضافت التقارير أن هناك إطارين قانونيين يمكن تطبيقهما على طائرات الدرون الصغيرة المسلحة، أي القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان. وهناك جدل حاد حول ما يتم تطبيقه الآن في غزة.
وتبرر إسرائيل أنشطتها في غزة باندراجها تحت نظام إنفاذ القانون المنفصل في القانون الإنساني الدولي، لكن استخدام إسرائيل للطائرات الاستهلاكية ذاتية القيادة يعد بمثابة تحد للقانون الدولي لحقوق الإنسان.
كما يبدو لافتا أن الطائرات ذاتية القيادة التابعة للجيش الإسرائيلي لا تتميز بأي شيء يحدد هويتها العسكرية. كما لا يبدو أنها تحمل أجهزة إرسال واستقبال أو غيرها من وسائل تحديد الهوية الإلكترونية، والتي من شأنها أن تسمح بالتعرف على هوية الطائرات، وهو ما يمثل مشكلة قانونية أخرى.
وتنص معظم التفسيرات القانونية على أنه يجب على الطائرات العسكرية أن تحمل علامات وسمات أساسية تحددها كطائرة عسكرية. هذه العلامات تسمح بتمييزها عن المدنيين بموجب مبدأ التمييز، مما يضمن أن كل من المقاتلين والمدنيين الآخرين يمكن أن يتعرفوا على نوع الطائرة سواء كانت عسكرية أم مدنية.
وتخضع المركبات الجوية ذاتية القيادة لنفس القواعد والمتطلبات في حالة الطائرات المأهولة. ويمكن تفسير ذلك بأنه يعني أن إسرائيل مُلزمة بتعيين طائرات الدرون كطائرات عسكرية وليست مدنية.
ومع ذلك، لا توجد معايير وقواعد تمكن من تحديد ذلك، التي ستحتاج بدورها إلى تعديل المعايير التي تناسب الطائرات الأكبر حجما لتناسب العمل بها. وحتى الآن لا توجد طريقة جيدة لتزويد طائرات الدرون الصغيرة بوسائل إلكترونية أو لاسلكية؛ وفي حين أن العديد من الباحثين يعملون على نظام إدارة حركة المرور في المجال الجوي الذي يناسب طائرات “الدرون” الصغيرة، إلا أن الطريق أمامهم لا يزال طويلا.
وهذا يجعل الأمور صعبة بشكل خاص في السياقات التي تستخدم من خلالها الطائرات العسكرية أو طائرات الشرطة ذاتية القيادة في الصراعات. حيث يستخدم الصحافيون طائرات الدرون لتسجيل الأحداث، في حين يستخدم عمال الإغاثة هذا النوع من الطائرات لفهم تداعيات الكوارث، ومن المرجح أن يبدأوا في استخدامها لإرسال الإمدادات الطبية وغيرها من الأشياء في المستقبل القريب.
وهو ما يعني أنها مشكلة خطيرة، وموت الصحافي الشاب الفلسطيني ياسر مرتجى، الذي استخدم طائرة ذاتية القيادة، في أبريل الماضي يفسر سبب ذلك. ففي آخر مقطع فيديو قام هو بتصويره، وهو فيديو نقل فيه المظاهرات الحدودية، قام بتصوير مشاهد المحتجين الذين يبكون من الغاز المسيل للدموع وانتقل بعدسة التصوير إلى الحقول الخضراء ومشهد الإطارات المشتعلة، ثم إلى أعقاب مجموعة من المتظاهرين الذين هرعوا حاملين شخصا مصابا على نقالة عائدين إلى خيمة طبية، تماما كما حدث مع مرتجى بعد ذلك بأيام.
ولم يكن مرتجى يستخدم طائرة الدرون عندما تم إطلاق النار عليه، ولكن في الأيام الأولى بعد وفاته، افترض الكثيرون أنه قد فعل. وقال وزير الدفاع الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان لصحيفة هآرتس “لا أعرف من هو، مصور فوتوغرافي أو ليس مصورا، لا أعرف، لكن من يرسل طائرة ذاتية القيادة لتحلق فوق جنود جيش الدفاع الإسرائيلي يحتاج إلى فهم أنه بذلك يعرض نفسه للخطر”، مشيرا إلى أن مرتجى وضع نفسه في مأزق باستخدام هذا الجهاز. وسلط ليبرمان عن غير قصد الضوء على المشكلة الأساسية التي يسببها الوضع الغامض والمربك للطائرات الصغيرة ذاتية القيادة وهو افتقادها لهوية محددة، وكذلك عجز جميع الأطراف عن تحديد أهداف هذه الطائرات.
فقبل أن تنتشر الطائرات المدنية ذاتية القيادة، كان من السهل تقديم الحجة القائلة إن كل من استخدم هذا النوع من الطائرات في مناطق النزاع كان على الأرجح مقاتلا. وكان من السهل أيضا القول إن المدنيين كانوا يعرفون أن الطائرات ذاتية القيادة تشكل خطورة في جوهرها، وبالتالي لم تكن هناك حاجة لتمييزها كطائرة عسكرية.
لكن الوضع الآن يتغير، لا سيما ونحن نعيش عصر الطائرات الاستهلاكية ذاتية القيادة في كل مكان. ومرة أخرى، تجاوزت التكنولوجيا القوانين والثقافات. ويعني هذا أن العالم دخل بالفعل عصر طائرة الدرون ومثيلاتها، ومع ذلك لا نعلم متى تعمل هذه الطائرات وفقا للقانون الدولي ومتى تعمل ضده.