لا مجال بعد الآن لاستقلال الاتحاد الأوروبي استراتيجيا

حرب أوكرانيا والحضور العسكري الأميركي يثبتان أن الناتو هو الضامن الفعلي لأمن أوروبا.
الخميس 2022/06/30
استقلال أوروبا أمر معقّد

جعلت الأزمة الأوكرانية الاستقلال الاستراتيجي للاتحاد الأوروبي أمرا لا يمكن تحقيقه في المستقبل القريب، حيث يزداد اعتماد أوروبا على الدعم العسكري الأميركي أكثر من السابق، ويقود الناتو جهود الدفاع عن أعضاء الاتحاد الأوروبي، لكن كل ذلك لا يمنع وفق رأي محللين من دفع واشنطن الدول الأوروبية نحو المزيد من المساهمات في الدفاع عن دول القارة.

واشنطن - تكشف التطورات على الساحة الأوروبية، وبالتحديد منذ اندلاع الحرب الروسية في أوكرانيا وانتفاضة الغرب، أوروبا والولايات المتحدة، ضد موسكو، حتى إعلان الرئيس الأميركي جو بايدن، الأربعاء، توسيعا بعيد المدى للوجود العسكري الأميركي في أوروبا، عن حقيقة جلية تتعلق بأمن القارة، ألا وهي أن حلف شمال الأطلسي (الناتو) هو الضامن العملي لأمن الدول الأوروبية.

لكن كل هذه التطورات تؤكد حسب محللين سياسيين وعسكريين أن الاستقلال الاستراتيجي للاتحاد الأوروبي لم يعد أمرا ممكنا. ويرى جيسون دبليو. ديفيدسون، الزميل البارز غير المقيم بـ"المجلس الأطلسي" وأستاذ العلوم السياسية بجامعة ماري واشنطن، إنه في ظل هذه الحقيقة، ليس من المرجح أن يصبح هدف الاتحاد الأوروبي في تحقيق الاستقلال الاستراتيجي أمرا واقعا في المستقبل القريب.

وكتب ديفيدسون في تقرير نشرته مجلة ناشيونال أنتريست الأميركية أنه “كان من قبيل الصواب في الأيام الأولى التي أعقبت انطلاق الغزو الروسي للأراضي الأوكرانية، أن يتوقع المرء أن توفر الحرب الزخم الضروري للاتحاد الأوروبي ليحقق استقلاله الاستراتيجي أخيرا، فقد تجلت وحدة الصف في وجه التهديد المشترك، كما أظهرت الهجمات الروسية نوايا عدوانية. وعلاوة على ذلك، شكل التهديد الروسي صدمة بدا أنها سببت تغييرا ضخما في السياسة الدفاعية للعديد من الحكومات الأوروبية".

وفي تصريحات له الأربعاء، قال بايدن، على هامش قمة قادة الحلف في مدريد "سنعمل على التأكد من أن الناتو جاهز لمواجهة التهديدات من كافة الاتجاهات، برا وجوا وبحرا". وأشار إلى خطط لزيادة نشر القوات الأميركية في دول البلطيق، ونشر سربين من مقاتلات “إف – 35” الأميركية في بريطانيا، إلى جانب دفاعات جوية إضافية في إيطاليا وألمانيا. كما أعلن إنشاء مقر دائم للفيلق الخامس بالجيش الأميركي في بولندا. ويأتي هذا الإعلان بعد قرار سابق بزيادة عدد المدمرات الأميركية المتمركزة في بلدة روتا الإسبانية من أربعة إلى ستة.

جيسون ديفيدسون: الناتو آلية الأمن بعد وفاة الاستقلال الاستراتيجي لأوروبا

وسبق أن أشارت إدارة الرئيس الأميركي إلى أنها سترحب بالمزيد من المسؤولية الأوروبية عن الدفاع والأمن في القارة، حيث يسمح ذلك للولايات المتحدة بالتركيز أكثر على التهديد الأكبر الذي تفرضه الصين. وفي تطور إيجابي آخر، نشر الاتحاد الأوروبي "دليلا أمنيا" يحدد خطط التكتل لتحقيق تعاون أمني ودفاعي أفضل، وذلك بعد شهر فحسب من بداية الحرب الروسية على أوكرانيا في فبراير الماضي.

وعلى مدار الأشهر التالية، صار من الواضح أنه ليس من المرجح أن يؤتي الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي ثماره في المستقبل القريب، فقد زادت الحرب من المخاطر، وأوضحت الخطر الذي ينطوي عليه تشكيل بديل لحلف الأطلسي. وتصرفت فرنسا وألمانيا، وهما دولتان رئيسيتان في الاتحاد الأوروبي، بطريقة أثارت الشكوك في قدرتهما على القيادة، وأثبت الطلبان اللذان تقدمت بهما فنلندا والسويد لنيل عضوية الناتو أن الدعم الأميركي هو الضامن الحقيقي ضد أيّ عدوان روسي.

ويقول ديفيدسون إنه "في حين أن الاستقلال الأوروبي في مجالي الدفاع والأمن كان هدفا منذ فترة طويلة، دفع انتقاد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب لحلف الأطلسي، والتعبير عن رغبته في الانسحاب منه، القادة السياسيين في أوروبا إلى البحث عن بدائل للناتو". ويتساءل "ماذا يعني المدافعون عن الاستقلال الاستراتيجي بهذا المصطلح؟".

وأشار إلى وصف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للناتو في 2019 بأنه “ميت دماغيا.. ويتعين على أوروبا أن تصبح مستقلة فيما يتعلق بالاستراتيجية والقدرات العسكرية"، وأكد لاحقا أن "أوروبا تمتلك قدرات الدفاع عن نفسها".

وبعد أيام فقط من بدء حرب أوكرانيا، أعلن ماكرون أنه "يجب على أوروبا استثمار المزيد من أجل خفض اعتمادها على القارات الأخرى، وأن تكون قادرة على اتخاذ القرارات الخاصة بها. وبعبارة أخرى، يجب أن تصبح أوروبا قوة ذات استقلال أكثر وسيادة أكبر".

وبذلك، يعني الاستقلال الاستراتيجي من وجهة نظر مؤيده الرئيسي ماكرون، اتحادا أوروبيا قادرا على الدفاع عن دوله الأعضاء دون مساعدة من الولايات المتحدة.

وبحسب التحليل، كشف الهجوم الروسي عن نوايا عدوانية أكبر على نحو أساسي من أيّ عمل قامت به موسكو منذ نهاية الحرب الباردة. ولفت الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا نظر الأوروبيين إلى أن شن هجوم روسي على دولة عضو في الاتحاد الأوروبي أو حلف الأطلسي، لم يعد مستحيلا، رغم أنه غير مرجح.

وفي ظل هذا الواقع الجديد، تصبح مخاطر اختيار هيكل أمني أمرا أكبر مما كان عليه الحال قبل عقود. وإذا وضعت الدول الأوروبية رهانها على اتحاد أوروبي مجهول، ولم يتعرض للتجربة، من أجل دفاعها، فإنها تخاطر بتعريض نفسها للهجوم وخسارة أراضيها، بل والخضوع للغير.

هل تملك أوروبا قدرات الدفاع عن نفسها حقيقة
هل تملك أوروبا قدرات الدفاع عن نفسها دون تدخل من القوى الكبرى 

ويرى ديفيدسون أن الطريقة التي تصرفت بها فرنسا وألمانيا، صاحبتا أكبر اقتصادين في الاتحاد الأوروبي، والأكثر إنفاقا من الناحية العسكرية، قد قللت من فرص تحقيق الاستقلال الاستراتيجي. وينظر العديد من قادة الدول الأوروبية المجاورة لروسيا بقلق شديد إلى الدعوات الفرنسية والألمانية بالتوصل لحلول توافقية مع موسكو.

كما توجد فجوة موثقة بقوة بين القدرات العسكرية للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، وما تحتاجه هذه الدول لتصبح مستقلة فعليا فيما يتعلق بشؤون الدفاع. ويبدو الآن على نحو متزايد أنه ليس من المحتمل أن تقدم ألمانيا على تغيير رئيسي في الإنفاق الدفاعي والثقافة الاستراتيجية الخاصة بها - رغم وجود إشارات أولية بعكس ذلك - وهو ما من شأنه أن يعرقل التحرك نحو الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي. وكذلك، لن تدفع ألمانيا، وهي الأغنى بين دول الاتحاد، باتجاه تعزيز سياسة الدفاع الأوروبي، وهو أمر لن تجد معه الدول الأوروبية التي لم يزعجها التهديد الروسي حرجا في العودة إلى مستوى الإنفاق العسكري ما قبل حرب أوكرانيا.

وأشار ديفيدسون إلى الترسانة النووية لفرنسا، والتي تغطي الأراضي الفرنسية فحسب، وليس أراضي الناتو أو الاتحاد الأوروبي، في حين وسّعت الولايات المتحدة الردع النووي لديها ليغطي كامل أعضاء التحالف العسكري.

◙ واشنطن يتعين عليها الاستمرار في الانخراط في أوروبا رغم أنه يجب عليها استغلال التهديد المتبقي من موسكو للدفع نحو المزيد من المساهمات الأوروبية في الدفاع عن دول القارة

ووصف المحلل السياسي طلبيْ السويد وفنلندا لنيل عضوية الاتحاد الأوروبي بـ"ناقوس الموت" للاستقلال الاستراتيجي الأوروبي، فالدولتان عضوتان في التكتل، ومن الناحية النظرية، يتعين توفير الحماية لهما من خلال البند 42 المتعلق بالدفاع من "معاهدة لشبونة". كما تدرك الدولتان أن سعيهما لعضوية الناتو، سيثير غضب روسيا، وربما يعرضهما لتدابير قسرية لتبقيا بعيدتين عن الحلف. وأكد أنه لو كانت الدولتان تؤمنان بأن الاستقلال الاستراتيجي للاتحاد الأوروبي يوفر حماية كافية لهما في وجه روسيا، على المدى القريب أو المتوسط، لكان من قبيل المنطق لهما البقاء خارج الحلف.

ويتساءل ديفيدسون "ماذا يمكن أن يحدث إذا ما فاز دونالد ترامب، أو حليف له، أو منتقد للناتو من الحزب الجمهوري بانتخابات الرئاسة الأميركية في 2024؟ هل تدفع هذه النتيجة الأوروبيين للعودة إلى الاستقلال الاستراتيجي؟".

ويقول في معرض إجابته، إنه، أولا، في خضم قلق الرأي العام في البلاد، من مؤيدي الحزبين، من التهديد الروسي منذ الهجوم على أوكرانيا، لن يكون ملائما من الناحية السياسية لأيّ مرشح جمهوري التأكيد على الانتقادات للحلف، كما فعل ترامب.

وثانيا، رغم أن انتقادات إدارة ترامب الخطابية للناتو اتسمت بالشراسة، كانت سياساته نحو التحالف مواتية تماما. وأخيرا، من المرجح أن تدفع الحرب الروسية على أوكرانيا المزيد من دول الناتو إلى تخصيص 2 في المئة من إجمالي الناتج المحلي لديها للنفقات العسكرية، وهو ما كان يطالب به ترامب بقوة.

ويضيف المحلل السياسي أنه في ظل "وفاة" الاستقلال الاستراتيجي للاتحاد الأوروبي، واهتمام الولايات المتحدة المستمر بأمن أوروبا، سيظل الناتو هو آلية الأمن الأساسية للقارة. كما سيتعين على الولايات المتحدة الاستمرار في الانخراط في أوروبا، حتى في الوقت الذي تعزز فيه واشنطن تركيزها على آسيا، رغم أنه يجب عليها استغلال التهديد المتبقي من موسكو للدفع نحو المزيد من المساهمات الأوروبية في الدفاع عن دول القارة.

6