لا انتفاضة جديدة في ظل الرئيس عباس

رغم وجود مؤشرات واقعية كثيرة تقود إلى الانتفاضة، فإن الواقع الفلسطيني لا يسمح بأن تقود الاحتجاجات إلى انتفاضة ليس بسبب قوة إسرائيل، ولكن لضعف في السلطة الفلسطينية والرئيس عباس، فضلا عن أن أي تحركات قوية يمكن أن تعود عليه بالنفع وهو ما لا تريده إسرائيل.
رام الله - منذ أن أعلنت إسرائيل عن توجهها إلى انتخابات جديدة في يونيو الماضي، حرصت الحكومة التي تولاها يائير لابيد على توجيه ضربات يومية للنشطاء الفلسطينيين، وأن تضرب بيد من حديد على الاحتجاجات التي تعقب هذه الضربات.
وتقف وراء هذا التوجه غايتان. فمن ناحية، لكي تقدم دليلا للناخب الإسرائيلي على أنها حكومة قوية ويمكنها أن تحافظ على أمن إسرائيل. ولكن من ناحية أخرى، لأنها تستند إلى قناعة راسخة تقول بأن الفلسطينيين ليسوا في وارد القيام بانتفاضة جديدة ما بقي الرئيس محمود عباس في السلطة، لكي لا يستفيد هو منها.
ويقول مراقبون في الأراضي الفلسطينية المحتلة إن كل عناصر اندلاع انتفاضة جديدة متوفرة، فالأوضاع السياسة الداخلية منهارة إلى حد بعيد على جانبي السلطة في رام الله وغزة. وبرغم أن الإدارات المحلية ما تزال قائمة، إلا أنها مصابة بالشلل، وبالكاد تستطيع الاستمرار في تقديم القليل من الخدمات بواقع تمضية اليوم إلى اليوم الذي يليه وليس لأنها تعرف ماذا تفعل أو لماذا تتعطل قدراتها على التخطيط لما هو أبعد من اليوم الحاضر.
أما الأوضاع الاقتصادية فإنها أكثر سوءا. فبينما تتقلص قدرات حكومة الرئيس عباس على توفير الرواتب لموظفيها، وهي رواتب لشراء الوقت بالأحرى، فإن إسرائيل تحاول امتصاص بعض عوامل الغضب بمنح بضع مئات من الفلسطينيين أذونا بالعبور والعمل في إسرائيل.
وحيث لا أفق سياسيا لتسوية النزاع، وحيث لم تتوقف الاقتحامات الإسرائيلية اليومية لباحات المسجد الأقصى، من أجل تحويلها إلى أمر “مألوف وطبيعي”، فإن الهجمات الإسرائيلية على النشطاء الفلسطينيين في نابلس وجنين ورام الله تثير احتجاجات يومية تقريبا ردا على الهجمات الإسرائيلية اليومية، إلا أنها لم تبلغ حد الانفجار الشامل.
قناعة راسخة لدى إسرائيل بأن الفلسطينيين ليسوا في وارد القيام بانتفاضة جديدة ما بقي محمود عباس في السلطة
هذا الانفجار، لكي يحدث، فإنه يجب أن يكتسب زخما خاصا به، بصرف النظر عما ترتكبه إسرائيل خلال هجماتها لاغتيال النشطاء المطلوبين.
ويلاحظ المراقبون أن الاحتجاجات الفلسطينية ما تزال تدور في إطار ردود الفعل على الهجمات الإسرائيلية، بينما الظروف، في حال اندلاع الانتفاضة، تتطلب أن يمارس الفلسطينيون الفعل الاحتجاجي، بينما تمارس إسرائيل رد الفعل.
أحدث المواجهات جرت يوم الجمعة الماضي في بيت دَجن وبيتا وعينبوس في محافظة نابلس، وكفر قدّوم شرقي قلقيلية، والجِيب قرب القدس المحتلة، وفي بلدة سِنْجل شمالي مدينة رام الله وأدت إلى إصابة 29 فلسطينياً بالرصاص وبحالات اختناق. كما امتدت المواجهات إلى عدة مواقع أخرى في الضفة الغربية وضواحي القدس.
وهو ما يشير إلى أن خارطة المواجهات تتسع، إلا أنها لم تبلغ بعد حد الخوض في انتفاضة تتحرك للتصدي للاحتلال. واقتصرت الاحتجاجات على السعي لتحقيق بعض المطالب الجزئية، من قبيل إطلاق سراح أسرى، مثل ناصر أبوحميد المريض بالسرطان، أو تسليم جثمان شهيد مثل الشاب محمد شحام الذي قتله الاحتلال الإسرائيلي خلال اقتحام منزله في المخيم منتصف أغسطس الماضي، وغير ذلك من المطالب الثانوية نسبيا. أما الانتفاضة، فإن مطالبها شاملة، وتقصد مواجهة الاحتلال، وليس بعض أعماله.
تخشى حكومة لابيد الانتفاضة، لأنها تأتي في ظرف داخلي يتسم بالتمزق، وينذر بالمزيد من التصدعات بين الأحزاب الصغيرة، وهو ما تدرك أنه سوف يصب الماء في طاحونة زعيم المعارضة بنيامين نتنياهو. كما أنها في ظرف دولي يمكنه أن يعيد تقدمها كقوة احتلال، ويعيد إبلاغها بأن الوقت قد حان لكي تقدم تنازلات من أجل إحلال السلام.
وهناك رأي عام دولي متزايد، بما في ذلك داخل الولايات المتحدة نفسها، بات يؤمن بأن إسرائيل لا تستطيع الاستمرار في المسار الراهن الذي يرفض التسوية. كما أن أعمال القمع التي ترتكبها ضد الفلسطينيين، خلال أي انتفاضة، يمكن أن تثير المزيد من الانتقادات لسياساتها، وهي التي لم تنج بعد من الإدانات المتعلقة باغتيال الصحافية الفلسطينية شيرين أبوعاقلة.
كل العوامل الفلسطينية تشجع على اندلاع انتفاضة. وبينما توفر إسرائيل مبررات يومية لاندلاعها، إلا أنها لن تندلع، وسط قناعة فلسطينية تقول إنها سوف تؤدي إلى إحياء سلطة فلسطينية متوفاة من الناحية العملية، وتعيش مثل جثة هامدة على أجهزة التنفس الاصطناعي.
وهناك سبب آخر، هو أن الرئيس عباس نفسه قدم التزامات شخصية لوزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس خلال زيارتين شخصيتين، بأنه سوف يعمل على كبح أي انتفاضة يقوم بها الفلسطينيون. وطالب بالإفراج عن الأموال الفلسطينية المحتجزة لدى إسرائيل، لأجل تخفيف الأعباء الاقتصادية عن سلطته، ومنع الانفجار من جهة الأزمة المعيشية.
كما ساهمت بعض الأموال التي حصل عليها عباس من الجزائر في تخفيف إجراءات التقشف، وشراء التفاف بعض الشخصيات الوسطية من حوله، وسحب البساط من تحت أقدام الأصوات المعارضة له داخل حركة فتح، وهو ما سمح في النهاية بعزل “كتائب شهداء الأقصى” تنظيميا وسياسيا، وجعلهم هدفا للضربات الإسرائيلية.
ويتهم معارضو الرئيس عباس أجهزة سلطته بالتواطؤ مع إسرائيل لتصفية “الجناح العسكري لحركة فتح”. وعبروا عن الخشية من أن هذه الأجهزة التي تعمل بتنسيق يومي مع الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، هي التي تقدم المعلومات عن نشطاء “كتائب شهداء الأقصى” حتى تمكنت من اصطياد العشرات منهم.
وبعد رحيل قائدها إبراهيم النابلسي ورفيقيه إسلام صبوح وحسين طه، اندلعت مواجهات بين نشطاء الكتائب والأجهزة الأمنية الفلسطينية في مخيم بلاطة يوم التاسع عشر أغسطس الماضي، وذلك بسبب القناعة بأن هذه الأجهزة هي التي قدمت التسهيلات والمعلومات للقوات الإسرائيلية عن مكان وجود النابلسي. ولكن خشية من تفاقم الوضع، أصدرت الكتائب بيانا قالت فيه “إن مقاتليها لن يوجهوا أسلحتهم إلا لصدور قوات الاحتلال فقط”، و”إن مناضلي الأجهزة الأمنية الفلسطينية هم السند الحقيقي لمقاتلينا في مواجهة الاحتلال وهم رفاق دربنا وإخوة أعزاء على قلوبنا”.
ما لم تتوفر قيادة سياسية جديدة تعيد بناء فتح والسلطة الفلسطينية، فإن أي احتجاج سوف يسير في الاتجاه الخطأ
هذا البيان قصد المحافظة على الحد الأدنى من فرص التعايش بين الطرفين، لأن أي شيء آخر سوف يعني حربا يواجه “الفتحاويون” خلالها بعضهم بعضا. سوى أن المواجهات المسلحة لم تؤكد وجود شرخ عميق فحسب، ولكنها أكدت أنه بلغ حدودا قصوى، من انعدام الثقة بأجهزة الرئيس عباس.
اندلاع انتفاضة، في ظل هذه الظروف سوف يوفر للرئيس عباس الفرصة لكي يستعيد نجومية دعائية غابرة، ومنصة للظهور بمظهر صاحب قضية وممثلها والناطق باسمها. وهو ما لا تراه الغالبية العظمى من الفلسطينيين صحيحا أو متناسبا مع الواقع.
ويقول مراقبون، إنه ما لم تتوفر قيادة سياسية جديدة تعيد بناء حركة فتح، وتعيد بناء مؤسسة السلطة الفلسطينية على أسس الانتخاب الديمقراطي، واحترام قيم القانون، واستقلال النظام القضائي، وقطع علاقات التنسيق الأمني مع إسرائيل، أو في الأقل، استبدال قيادات هذا التنسيق بشخصيات وطنية، فإن أي عمل شعبي عارم، سوف يسير في الاتجاه الخطأ، ويخدم السلطة الخطأ، ويتم قتله وإحباطه بالأيدي الخطأ.
حكومة لابيد، من خلال هجماتها المستمرة على النشطاء الفلسطينيين، تبدو على معرفة جيدة بهذه التقديرات، وهي تشعر بالطمأنينة من أن شيئا لن يحدث يؤدي إلى انهيار “الستاتيكو” الراهن. وإنها تستطيع أن تواصل أعمال الاغتيالات، لأن النشطاء الفلسطينيين محاصرون من الجهات الأربع. الأولى، بقرارهم الخاص، لأنهم لا يريدون التصعيد إلى درجة الأخذ بزمام المبادرة لقيادة انتفاضة جديدة تخدم الرئيس عباس سياسيا ودعائيا. والثانية، لأن سلطتهم وأجهزتها هي التي تعزلهم وتقدم رقابهم للمسلخ. والثالثة، لأنهم لا يريدون خوض مواجهة مسلحة داخلية تقصد الانتفاضة ضدها. والرابعة، لأن الاحتلال لن يوفر سلاحا ضدهم وهم في ظرف داخلي عصيب.