لا استغناء عن الكلاشنيكوف في أرض المعركة

موسكو - يجول العشرات من الأطفال من “جيش الشبيبة” الروسي ببزاتهم ذات اللون البني الفاتح وقبعاتهم الحمراء في معرض مخصص لميخائيل كلاشنيكوف، يتفرجون عبر واجهات زجاجية على النماذج الأولى من “اك-47″، البندقية الأشهر في العالم، والتي تبقى السلاح الروسي الرمز رغم ما تقدمه الصناعة العسكرية الروسية اليوم من دبابات والمقاتلات الشبح ومنظومات دفاعية.
تعجّ ساحات الحروب والصراعات في الشرق الأوسط وفي مختلف أنحاء العالم بطائرات سوخوي الروسية ومختلف الأسلحة المتطورة. وحققت روسيا صفقات هامة في السنوات الأخيرة مع عدة دول اشترت منظومة وأس-400 الصاروخية. وتتباهى موسكو بتفوقها في سباق تطوير أسلحة نووية حديثة وأنظمة صاروخية جديدة.
لكن رغم هذا الكم من المنتجات العسكرية، والإقبال الدولي على أحدث الأسلحة الروسية، لم تفقد الكلاشنيكوف حضورها. وبقي هذا الاسم الأكثر شهرة في العالم مصدر فخر قطاع الصناعات الحربية والبصمة الروسية في كل أنحاء العالم، وهو سلاح يتزوّد به نحو 50 جيشا في العالم ولا يزال أحد مكوّنات الشعار المرسوم على علم دولة موزامبيق.
وتحتفل روسيا هذا الخريف بمئوية ميخائيل كلاشنيكوف، الجندي السوفييتي البسيط الذي كان يحلم بأن يكون شاعرا قبل أن يصمم بندقيته ذات المواصفات غير المسبوقة التي يمكن استخدامها لوقت طويل نسبيا، وهي في الوقت نفسه خفيفة وسهلة الاستخدام.
وبهدف الاحتفال بهذه المناسبة، أحضرت السلطات الروسية إلى موسكو المجموعة المعروضة في متحف كلاشنيكوف في مدينة إيجيفسك (أورال) حيث المعمل الذي يحمل اسم الرجل ومسقط رأسه. كما سينقل معرض “كلاشنيكوف.جندي.مصمم.أسطورة” إلى شبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا في عام 2014.
توفي كلاشنيكوف في عام 2013 (ولد في 1919)، وهو المولود الـ17 بين 19 مولودا لأسرة ريفية في جمهورية آلطاي الروسية. في عام 1941، أصيب بينما كان خلف مقود دبابة، وخلال فترة التعافي بدأ رسم وتصميم بندقيته متأثرا بالسلاح الألماني الذي كان يراه في الميدان.
وبعد إخفاقه في مسابقة للجيش، فرض “الكلاشنيكوف الأوتوماتيكي 1947” نفسه وصار جزءا من عتاد الجندي السوفييتي. وحتى اليوم، تم إنتاج أكثر من مئة مليون قطعة منه. روّجت له الدعاية السوفييتية على أنّه وسيلة للدفاع، ولكنّ الاستخدامات الأولى لهذا السلاح الجديد اندرجت في إطار الأعمال القمعية، على غرار ما حصل في ألمانيا الشرقية عام 1953 والمجر في 1956، وأيضا لإسقاط المدنيين الذين يحاولون عبور الستار الحديدي، كما يروي الصحافي ك. ج. تشيفرز في كتابه “البندقية”.
تكريمات وبروباغندا

تشارك الاتحاد السوفييتي هذا النجاح مع “البلدان الشقيقة” في حلف وارسو، غير أنّ البندقية الأسطورة أفلتت منه، إذ أنّ انهيار الاتحاد السوفييتي أدى إلى تعزيز انتشار هذا السلاح واتساع استخدامه بين المدنيين.
يصنّع الـ”اك-47″ في مختلف أنحاء العالم. وصار مع الوقت سلاح حرب العصابات والإرهابيين والدكتاتوريين، وأيضا حوادث إطلاق النار في المدارس الأميركية. سهولته الشديدة في الاستعمال دفعت إلى وضعه بين أيادي جنود أطفال مجندين في مناطق عدة في العالم. كما أنّه يستخدم في عمليات صيد غير مشروعة، وهو سلاح حراس محميات في أفريقيا.
واشتهرت هذه البندقية كثيرا في الشرق الأوسط، خصوصا بين الفصائل الفلسطينية وفي لبنان إبان الحرب الأهلية (1975-1990). ومثّلت صفقات السلاح التي كانت تجريها أنظمة عربية مع دول شرق أوروبا إحدى قنوات وصول الكلاشنيكوف إلى هذه المنطقة، ولا تزال إلى اليوم موجودة بشكل كبير.
وفي فرنسا، يبقى ”الكلش” السلاح الأبرز في الاعتداءات في باريس وتصفية الحسابات بين تجار المخدرات في مرسيليا. وغالبا ما تأتي هذه الأسلحة من يوغوسلافيا السابقة من المخازن السابقة للماريشال تيتو، وتباع في أوروبا بأقل من ألف يورو.
وفي أفغانستان، صوّر الصحافي ك. ج. تشيفرز أسلحة “اك-47” المصنّعة في إيجيفسك عام 1953، والتي لا يزال جنود أفغان يستخدمونها، ولكنّ هذه البندقية ارتفعت في وجه مصنّعها خلال الحرب السوفييتية في أفغانستان، وكذلك حصل في الشيشان.
وفي المعرض، يلتقط أفراد “جيش الشبيبة” الذي أطلقه الرئيس فلاديمير بوتين في 2015، صور “سيلفي” مع البندقية الشهيرة في ممرات متحف النصر في موسكو المخصص للحرب بين الاتحاد السوفييتي وألمانيا النازية. ويروي ماكسيم الذي تعلّم في الأثناء تجميع البندقية، “تؤلمنا أصابعنا في البداية، ولكن يصبح الأمر سهلا للغاية في ما بعد”.
من أجل الشبيبة
يقول نائب مدير متحف إيجيفسك ألكسندر أرماكوف “نأمل أن يكبر هذا الجيل وألا يمنحنا أسلحة فحسب، وإنّما اختراعات جديدة في مجالات أخرى”. ويعتبر أنّ الأسلحة “لا تصمم للهجوم، ولكن للدفاع عن الوطن”، مؤكدا أنّ “وجود ‘اك-47’ في كل مكان، حتى بين أيادي الإرهابيين، ليس خطأ كلاشنيكوف، وإنّما خطأ السياسيين”.
وتروي نيللي كلاشنيكوف (77 عاما)، ابنة مصمم البندقية، “ما كان يفعله في المصنع وما اخترعه، كان محاطا بالسريّة. لم نكن نعرف شيئا. استمر ذلك حتى عام 1990 حين اكتشفنا أنّه مصمم أسطوري”.
وبعد وفاة كلاشنيكوف، تعددت وسائل تكريمه، بينها نصب مقام في موسكو عام 2017، ويظهره حاملا لبندقيته. وحقق الرجل الكثير من الشهرة ولكن بلا مردود مادي، إذ أنّ الملكية الفكرية كانت جماعية في الاتحاد السوفييتي.
وفي عام 2004، نجحت العائلة في تسجيل العلامة التجارية لمنتجات أخرى، غير أنّ محكمة سحبتها منها في 2014. وقبل وفاته بمدة قصيرة، عبّر ميخائيل كلاشنيكوف عن شعوره بالندم. وكتب إلى رأس الكنيسة الروسية “ألمي لا يحتمل”، مضيفا “إذا كانت بندقيتي سلبت حياة بشر.. فهل أنا مسؤول؟”.
وفي الوقت الراهن، تصنّع مجموعة كلاشنيكوف (كما سميت في 2013) 95 بالمئة من الأسلحة الروسية الخفيفة وتصدّر إلى 27 دولة. وبلغت البندقية الشهيرة جيلها الخامس. وبعد دخول مساهمين من القطاع الخاص إلى المجموعة في 2014، تمّ عرض نماذج جديدة والتركيز على التصدير برغم العقوبات الأميركية على المؤسسة. كما جرى العمل على تغيير صورتها مع إطلاق أدوات تباع في المتاجر، وأيضا منتجات مدنية. وفي بداية 2017، أصبحت الدولة تمثّل أقلية في المجموعة.