لاجئات سوريات يترقبن التحاق بناتهن ويشعرن بمرارة الاغتراب

لم يكن الملجأ يبعد كثيرا عن مدينة لاهاي، التي أقطن بها، إلا أن الطريق إليه لم يكن سهلا. كنت قد سمعت من زملاء وأصدقاء لي أن ملاجئ اللاجئين توجد في مناطق منزوية نسبيا، لكن لم أتخيل أن يكون الأمر بهذا الشقاء.
هولندا، على صغر حجمها، تعرف غابات ومناطق وسهول معزولة، وهذه البيئة هي التي رأى أصحاب الشأن أنها ملائمة لاستقبال اللاجئين. أما لماذا فلا أحد يعرف؟
استقبلنا الدكتور أحمد الماجد (اسم مستعار كبقية الأسماء في القصة)، وهو طبيب جراح فر من سوريا إلى تركيا ومنها إلى هولندا تاركا وراءه زوجة وأربع بنات، اختار هولندا، لأن “إجراءات لمّ الشمل فيها أسهل”، رغم أن دولا أوروبية أخرى أفضل في نوعية الخدمات والتسهيلات التي تقدمها للاجئين، حسب قوله.
بعد ثمانية أشهر من وصوله، أبلغته السلطات الهولندية أن طلبه بضم العائلة قُبل، وأن بإمكانه استقدام باقي أفراد عائلته.
في الطابق الثالث، في ممر طويل جدا، على جانبيه أبواب تتقابل فيما يشبه السجن، فتحت لنا زوجته السيدة آمال الغرفة تميل إلى الحرارة، تنتبه إلى ذلك، وتقول مبتسمة “لم نتعود على البرد بعد”.
ومن الواضح أن تصميم الغرف الضيق وسقفها المنخفض يساهمان في احتباس الحرارة أيضا، إضافة إلى أن الشقة المكونة من غرفتين فقط، ولا تتعدى مساحتها 40 مترا مربعا تضم بين حيطانها ستة أفراد.
السيدة آمال تجد صعوبة كبيرة في إيجاد توازنها وتوازن العائلة، وكل ما ترغب فيه هو أن تنسى بناتها الرعب والخراب والموت والدمار والدماء ويبدأن حياة جديدة
“لست خائفة من جيراني، وباقي اللاجئين، فمعظمهم يعرف آداب وشروط التعامل مع عائلة عربية مسلمة، لكني أخاف من موظفي الملجأ لأنهم يتصرفون بطريقة غريبة، وأحيانا كثيرة يفتحون الباب ويدخلون من دون استئذان!”.
في سوريا واجهت السيدة آمال وبناتها أهوال الحرب والدمار، هدم بيتها مرتين، وتعرضت مدرسة البنات للقصف ومع ذلك لم ينقطعن عن المدرسة، إلا أن الوضع في هولندا مختلف، “فبعد أكثر من 3 أشهر لا تزال البنات بلا مدارس، وليس في الأفق ما يشير إلى أنهن سيلتحقن بها قريبا”، يقول الدكتور أحمد “راسلنا السلطات أكثر من مرة، وفي كل مرة يقولون: قريبا، وها نحن ننتظر”.
هالا، البنت الصغرى تتابع دروسا في اللغة الهولندية، تطوع هولنديون من أصول مختلفة بإعطائها للاجئين داخل الملجأ، تقول “الهولندية لغة صعبة، لكني مصرة على تعلمها”. ليس لهالا صديقات داخل الملجأ ولا توجد أي وسائل ترفيه أو تسلية تشغل بها نفسها لا أجد ما أفعله، ولن ألعب بالطين والتراب، أتجول طوال النهار داخل البيت، أحيانا أساعد أمي في إعداد الأكل أو ألعب مع أبي”.
على جدران غرفة هالا وأخوتها رسومات خطتها بنفسها، كتب على أحداها “امنحونا الفرح”، وعلى جدار آخر قوس قزح، بنفس ألوان الستائر، “العالم ضيق ولا يتعدى النافذة”، تعلق الأم.
في الأثناء تأتي السيدة آمال برسالة مكتوبة بالهولندية ترجو منا أن نشرح لها ما ورد فيها، نخبرها بأنهم يطلبونها لفحص سرطان الرحم، ترتعب، وترتسم على عينيها علامات الفزع لكننا نطمئنها إلى أن الأمر لا يستدعي هذا الفزع، ولا يتعدى فحصا دوريا يشمل النساء بين سن 30 و60 سنة، مرة كل 5 سنوات”. ترتاح وتنشرح أساريرها ثم تقول “أجريت منذ أسبوع اختبار فحص الدم في المركز الصحي التابع للملجأ، وقالوا إن نتيجة التحليل بعد أسبوع، لهذا فزعت، شعرت بتعب، أظنه ناتج عن البرد”.
لست خائفة من جيراني، وباقي اللاجئين، فمعظمهم يعرف آداب وشروط التعامل مع عائلة عربية مسلمة، لكني أخاف من موظفي الملجأ لأنهم يتصرفون بطريقة غريبة
سألناها إن كان هناك من يأتي للإشراف على صحة المقيمات في الملجأ فقالت “لا، من تشعر بالتعب، أو تحتاج لحبوب منع الحمل أو غيرها، تذهب للمركز وتعرض ما تريده على موظفيه، وغالبا ما يلبون طلبها في ظرف أسبوع.
تجد السيدة آمال صعوبة كبيرة في إيجاد توازنها وتوازن العائلة، وكل ما ترغب فيه هو أن تنسى بناتها الرعب والخراب والموت والدمار والدماء ويبدأن حياة جديدة، ليس فيها أثر للماضي ورحلة الشقاء التي مرت بها العائلة “ليست لدي صديقات، ونحن تقريبا لا نتزاور فيما بيننا، فالمساحة المخصصة لنا لا تسمح، وحتى الكراسي لا أظنها تكفي، أنشغل فقط بالتنقل بين الغرفتين ومتابعة شؤون البنات واللعب معهن وتحفيزهن على النظر إلى المستقبل بعين متفائلة، بينهن مراهقتان، الأمر ليس هيّنا”.
في غرفة البنات نلحظ وجود دببة كثيرة على الأسرّة المرتبة بعناية، أسرّة من النوع الثنائي المرصوف فوق بعضه، وهو ما تصفه هالا بـ”أسرّة السجن” “لم أر مثلها إلا في الأفلام والمسلسلات عندما يعرضون وضع السجناء”، نشرح لهالا أنها أسرة عادية جدا بالنسبة إلى الهولنديين، فهولندا بلد ضيق وغرفها ليست من الحجم الكبير، وهذه الأسرّة هي نوع من التحايل على ضيق المكان، وليست حكرا على الملجأ. وتستغرب عندما تعلم بأننا جميعا نملك واحدا مثلها في البيت.
لا يوجد مطبخ في الشقة، وكل ما في الأمر أن هناك غرفة تضم حماما ومرحاضا ومغسلة، وطاولة صغيرة عليها موقد صغير، “هنا يحدث كل شيء”، يقول الدكتور أحمد، ويضيف “عندما يتعلق الأمر بالطبخ فإنني أذهب بنفسي للمطبخ المشترك لكل سكان المبنى، وأطبخ هناك، هذا الموقد هو فقط للأشياء الصغرى والشاي والقهوة”.
عائلة الدكتور أحمد ليست راضية على وضعها في الملجأ، وتستغرب كيف أن بلدا مثل هولندا يتعامل على هذا النحو مع اللاجئين، لكنها تتفهم أن المرحلة صعبة وتحتاج منها صبرا وتفهما “نعرض مشاكلنا على إدارة الملجأ أحيانا، يعدوننا بأنهم سينظرون فيها ويسوون وضعنا، ثم يتوقف الأمر هناك”، تقول السيدة آمال، ثم تضيف “نحاول أن نقوي بعضنا، ليس أمامنا خيار آخر، كأم وكزوجة مرت بما مررت به، تأتي لحظات أفقد فيها الأمل، لكن سرعان ما أستعيد تفاؤلي والحمد لله”.