لاءات الخرطوم الجديدة.. لا تفاوض، لا مساومة، لا شراكة

القوى الثورية السودانية ترفع شعارات سياسية لا تستطيع الوفاء بها.
الأحد 2021/11/07
رفض التفاوض يقود إلى طريق مسدود

الشعارات الكبيرة التي يرفعها شباب القوى الثورية والتي تتمسك بعدم التفاوض مع قائد الجيش عبدالفتاح البرهان لا تحقق شيئا على الأرض خاصة بعد أن تحرّكت وساطات مختلفة تحافظ على ما هو قائم وفي نفس الوقت تعيد الحرارة إلى الشراكة بين البرهان ورئيس الحكومة المعزول عبدالله حمدوك الذي يراهن عليها هؤلاء الشباب ويعتقدون أنه لن يقبل بالمساواة.

تذكّرنا اللاءات التي رفعتها القوى الثورية في وجه قائد الجيش السوداني الجمعة “لا تفاوض، لا مساومة، لا شراكة”، بلاءات ثلاث أخرى رفعها القادة العرب في قمة الخرطوم الشهيرة عقب هزيمة يونيو 1967 وهي: لا صلح، لا اعتراف، لا تفاوض، مع إسرائيل، ومع الفارق بين الحدثين والزمنين، غير أن أصحاب الموقف الجديد كانوا مغرمين بفكرة اللاءات دون إدراك أن شعارها لا يتحقق على الأرض.

تبدو القوى الشبابية أثيرة لهذا النوع من الشعارات ومنفصلة عن الواقع وغير مدركة لحجم التطورات على الأرض في السودان، حيث تدور بالفعل برعاية أممية مفاوضات ومساومات وحديث عن شراكات بين المكونين المدني والعسكري، ما يخرج اللاءات الجديدة من قلب السياسة إلى هامشها، إذ تتم عملية دغدغة لمشاعر المواطنين وإنكار للتطورات الحقيقية.

يظهر خطاب القوى المدنية القائم على الرفض عموما للتعاون مع المؤسسة العسكرية حجم التناقضات داخل هياكلها، ويؤكد أنها ليست كتلة واحدة كما يتم تصويرها، ومن الخطأ تسويق أنها تملك بمفردها تقرير مصير الأزمة التي تعيشها البلاد، فالنظرة الفوقية والاستعلاء وعدم وجود مرونة كافية عوامل أدخلت السودان نفقا مجهولا.

تمثل القوى الثورية جناحا مهمّا في تحالف قوى الحرية والتغيير، غير أنها دخلت في خلافات مع أجنحة أخرى، ويعد البيان الذي أصدره تجمع المهنيين الجمعة بخصوص اللاءات كاشفا لعمق التباعد بين الأجنحة.

خطاب القوى المدنية القائم على الرفض عموما للتعاون مع المؤسسة العسكرية يظهر حجم التناقضات داخل هياكلها، ويؤكد أنها ليست كتلة واحدة كما يتم تصويرها

فقد انخرط رئيس الحكومة المدنية المعزولة عبدالله حمدوك في سلسلة من الحوارات بوساطات داخلية وإقليمية ودولية مع قائد الجيش الفريق أول عبدالفتاح البرهان، ولم يرفض التفاوض أو المساومة أو حتى العودة إلى الشراكة، فقط يريد الوصول إلى صيغة ترضي طموحاته وتطلعاته حيال تسوية الأزمة بما يحفظ ماء وجهه.

العقل السياسي من ينكر الآخر ويتعمّد نفيه، سواء أكان محسوبا على المكون المدني أو العسكري، لم يفهم طبيعة الأزمة ولا يعرف تفاصيل ما يدور في السودان، فقد استقر العقل السياسي الجمعي في الداخل والخارج على أهمية الشراكة بين الجانبين، وهي الصيغة العملية التي تمت الموافقة عليها عقب سقوط نظام عمر البشير، وجرى تضمينها في الوثيقة الدستورية لتدار بموجبها المرحلة الانتقالية.

تحتاج العودة إلى هذه الوثيقة وإبطال مفعول القرارات التي اتخذها البرهان وقادت إلى فرض حالة الطوارئ وحل مجلسي السيادة والوزراء، إلى حوار بناء وتفاوض كي تستعيد الشراكة زخمها لأن هذه النوعية من اللاءات المتشددة لن تضمن للسودان الأمن أو الاستقرار، ولن تعيد القوى المدنية بصورتها السابقة إلى الحكم.

ربما تكون المقاومة الثورية رفعت سقف رهانها كنوع من التمسك بثوابتها، وربما رفعت اللاءات للإيحاء بأنها قادرة على التحكم في مفاصل الأمور ولم تعد خارجها، وهكذا توجد العديد من الاستنتاجات الإيجابية التي يمكن الخروج بها من هذا الشعار، لكن ما لم تنتبه إليه القوى الثورية أنها فقدت الكثير من حضورها في الشارع، ومحاولة استعادة الدور الحيوي الذي لعبته عقب سقوط البشير مسألة غاية في الصعوبة.

تنبع الصعوبة من حجم التحول الحاصل في مزاج الشارع، فقد تشظى بطريقة مثيرة، ولم تعد القوى الثورية المحرك الوحيد له، فهناك قوى من داخل الجماعة المدنية تناهضها، وقوى أخرى منحازة للجيش، ناهيك عن اتساع قبضة المؤسسة الأمنية بفروعها المختلفة، والتي تمكنت من السيطرة على جزء معتبر في الشارع.

أدت النظرة الخيالية للأوضاع في السودان إلى الأزمة الراهنة، وقاد التضخم السياسي الذي طغى على القوى الثورية إلى دخولها في حلقات ضيقة يصعب الخروج منها بعيدا عن إعادة صياغة المشهد برمته لتحديد الأوزان النسبية بناء على التطورات الجديدة. فقد واتت القوى المدنية الفرصة لتثبيت نفوذها في الشارع ومؤسسات الدولة لكن لم تستثمرها جيدا، بما منح الجيش ذرائع كافية لتبرير إجراءات قائده.

القوى الثورية التي رفعت لاءاتها تعلم أن قراءتها للأحداث غير دقيقة لأن إلغاء الفصل السياسي الجديد وعودته إلى الوراء عملية صعبة
القوى الثورية التي رفعت لاءاتها تعلم أن قراءتها للأحداث غير دقيقة لأن إلغاء الفصل السياسي الجديد وعودته إلى الوراء عملية صعبة

تصعيد وارتياح كانا يكفيان القوى الثورية لأن تصطف في طابور قوى الحرية والتغيير وتعيد ترتيب أوضاعها وتتبنى خطابا واحدا وتتمكن من إعادة اللُحمة إلى جسم التحالف، وهي الوسيلة الوحيدة القادرة على تفويت الفرصة على رغبة الجيش فرض نفوذه على السلطة، أما أن تتشدّد في وقت تجري فيه مفاوضات جادة لعودة الشراكة فهذا تصعيد يشير إلى ارتياح للتأزم الحالي ما يشي بعدم الاستعداد للتوصل إلى تسوية منتجة.

تعلم القوى الثورية التي رفعت لاءاتها أن قراءتها للأحداث غير دقيقة لأن إلغاء الفصل السياسي الجديد وعودته إلى الوراء عملية صعبة، فهناك واقع جرى تدشينه بانقلاب الجنرال البرهان على القوى المدنية، وجميع القوى الدولية التي تمارس ضغوطا عليه لم تنف أهمية الرجل وشراكته ولم تتحدث عن إقصاء الجيش من المشهد العام.

وشبّهت دوائر مدنية لاءات القوى الثورية بمن يضع عصي الأزمة بين عجلاتها، في إشارة إلى من لا يريد الحل، حيث أفضى انقلاب البرهان إلى فرز مرجح أن تخرج بسببه العديد من القوى المدنية من مقدمة المشهد السياسي، وتخشى عناصر مؤثرة في القوى الثورية أن يطالها العزل ولا تجد طريقا سوى المزايدة وتفشيل الحل السياسي.

يعتقد البعض من الشباب في صفوف القوى الثورية أن رفع اللاءات الثلاث (لا تفاوض، لا مساومة، لا شراكة) سيكون كفيلا بوقف عملية الوساطة، أو توفير غطاء سياسي متشدد لرئيس الوزراء المعزول يمنحه قدرة للتنصل من الضغوط الخارجية.

الشباب في صفوف القوى الثورية يعتقون أن رفع اللاءات الثلاث (لا تفاوض، لا مساومة، لا شراكة) سيكون كفيلا بوقف عملية الوساطة، أو توفير غطاء سياسي متشدد لرئيس الوزراء المعزول

في الحالتين لا يحمل الموقف العام من جانبهم مسؤولية سياسية بأنهم كانوا أحد الأسباب التي أفضت إلى الأزمة وتداعياتها، حيث ضاعفوا من قدرتهم على الحشد الكبير في الشارع، وبالغوا في تقدير قوتهم المعنوية في مواجهة الآلة العسكرية.

رغم ارتفاع مستوى التسييس في الخطاب الذي يصدّره الشباب في السودان، إلا أن الاختبارات كفيلة بكشف عناصر القوة والضعف فيه، ويكفي رفع اللاءات الثلاث ليؤكد أنهم بحاجة إلى مزيد من التدريب السياسي، ومعرفة توازنات القوى في الداخل، وحقيقة المعادلة الخارجية التي لا تزال حريصة على استمرار الجيش في السلطة.

وفي الوقت الذي رفعوا لاءاتهم جاءهم الجنرال البرهان بتوسيع نطاق قراراته، حيث شملت حل مجالس إدارات المؤسسات العامة، في رسالة تحدّ جديدة، وأن الرجل مصمم على عدم التراجع، وكان من الحكمة أن تستوجب القوى الثورية الإشارات المتتالية من الجيش، فمن يقبض على السلطة يستطيع تحريكها للوجهة التي يريدها.

وفرت تجارب الانقلابات العسكرية في السودان خبرة كبيرة للجنرالات مكنتهم من تغيير طريقة تعاملهم مع المعطيات السياسية، وهو ما كان على القوى الثورية الاستفادة منه قبل أن يجرفهم حماسهم إلى مسار اللاءات وهم غير قادرين على تنفيذها بل والعجز عن التمسك بها حتى النهاية.

كان عليهم الاستفادة من درس لاءات قمة الخرطوم قبل أكثر من نصف قرن، حيث انتهت إلى قيام عدد من الدول العربية بالصلح والاعتراف والتفاوض مع إسرائيل، فهل هدفت القوى الثورية للتوصل إلى نتيجة شبيهة بعد مرور سنوات طويلة؟

4