كُتب الرحّالة والمؤرخين تحفل بأسواق القاهرة في رمضان

تشير المصادر التاريخية إلى “مصر الإسلامية” باعتبارها نموذجا للازدهار الحضاري والاقتصادي، بداية من أسواق القاهرة التي نشطت في العصر الفاطمي، وتطورت في العصر الأيوبي، ثم وصلت إلى ذروة الثراء والرخاء في العصر المملوكي، ومثّلت تلك الأسواق في زمانها مركزاً من مراكز التجارة العالمية.
القاهرة - جذبت أسواق القاهرة التاريخية أعين الرحّالة والمؤرخين العرب، والمستشرقين من فنانين وكُتّاب، وتناولت العشرات من المصادر العربية والأجنبية تلك الأسواق القديمة التي كانت تنتشر بشكل كبير، حتى كادت العاصمة المصرية أن تصبح مدينة الأسواق، وذلك وفقاً لقول الباحثين الذين أثروا المكتبة العربية بالكثير من المؤلفات المُحققة التي تناولت ضمن صفحاتها تاريخ تلك الأسواق خلال القرون الماضية وقدّمت وصفاً دقيقاً لها.
وتدلنا المصادر أن “مصر الإسلامية” إبان حُكم الدولة الفاطمية والأيوبية والمملوكية شهدت فترة ازدهار حضاري واقتصادي، وكانت مظاهر هذا الازدهار بادية في أسواق القاهرة التي نشطت في العصر الفاطمي، وتطورت في العصر الأيوبي، ثم وصلت إلى ذروة الثراء والرخاء في العصر المملوكي، ومثّلت في زمانها مركزاً من مراكز التجارة العالمية، وبقيت تحتل شهرة كبيرة بين الأسواق العربية والإسلامية قديماً في مختلف العصور القديمة.
الفسطاط اكتسبت بعض شهرتها من أسواقها التي كانت ذائعة الصيت وكان أول سوق أقيم بالمدينة هو "دار البركة"
وقد جاء اهتمام الرحًالة والمؤرخين من العرب والمستشرقين، بأسواق القاهرة ودراستها والتأريخ لها، بفضل المكانة التي احتلتها تلك الأسواق قديما، ولكونها كانت مصدراً لمعرفة الكثير من تفاصيل الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في مصر.
وفي كتابه “أسواق القاهرة منذ العصر الفاطمي حتى نهاية عصر المماليك”، والصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، أورد الشيخ الأمين محمد عوض الله قائمة بعشرات المراجع والمصادر من مخطوطات وكتب تؤرخ لأسواق القاهرة في تلك الأزمنة وتوسعها وتطورها وتعددها، حيث كانت هناك أسواق للمأكل والمشرب والملبس، وأسواق للحيوانات والطيور، وأخرى للذهب والفضة والنحاس وغير ذلك من الأسواق المتخصصة التي عرفتها العاصمة المصرية قديماً، بجانب ما تفرّدت به تلك الأسواق من نشاط مستمر وتوفر الكثير من الإنتاج الاقتصادي العالمي بها، وتحولها من مراكز اقتصادية إلى مراكز أثرت في مسيرة الحضارة الإنسانية.
وكان لكل من القاهرة ومدينة الفسطاط التاريخية أسواقهما الخاصة، وربما اكتسبت مدينة الفسطاط بعض شهرتها من أسواقها التي كانت ذائعة الصيت آنذاك، وكان أول سوق أقيم بالفسطاط هو “دار البركة”، وكان بالمدينة أسواق عديدة منها: سوق وردان، والسوق الكبير، وسوق البراغيث، وسويقة المغاربة، وسوق الوزير، وسويقة الصيادين وفيها تباع أدوات الصيد، وسوق السماكين الذي كان مخصصاً لبيع السمك، وسويقة دار النحاس، وسوق العراقيين وغير ذلك من الأسواق، حيث تشير المصادر إلى أن أسواق الفسطاط ظلت على نشاطها التجاري مع قيام أسواق مدينة القاهرة التي بناها جوهر الصقلي سنة 969 ميلادية، أي بعد إنشاء مدينة الفسطاط بـ328 سنة.
وفي كتاباته عن التاريخية التي نقل فيها الكثير من النصوص التي كتبها الرحّالة والمؤرخون عن مظاهر الحياة في القاهرة قديما، يذكر لنا الباحث الدكتور أحمد الصاوي، أن مدينة القاهرة كان بها 50 سوقاً مفتوحا و33 مبنى كانت مخصصة لأغراض التجارة وتنوعت ما بين قيسارية وخان وفندق ووكالة، ويضاف كل ذلك إلى أسواق الفسطاط.
وكان أهل كل حرفة أو تجارة يتجمعون في سوق خاص بهم يعرف باسمهم، وذلك تسهيلا لشيخ كل طائفة في مراقبته لأبناء “صنعته”.
ومن أشهر أسواق القاهرة التي ذكرها المقريزي – المؤرخ ذائع الصيت – سوق “القصبة” التي توصف بأنها كانت من أعظم أسواق مصر، واحتوت على آلاف الدكاكين، وقد تفرعت من تلك السوق أسواق أخرى صغيرة.
واما السوق الذي كان أكثر ازدحاما في القاهرة، فكان سوق القناديل، وقال عنه الرحّالة والمؤرخون أنه “لا يعرف مثله في أي بلد وفيه كل ما في العالم من طرائف”. ومن مشاهدات الرحّالة والمؤرخين أنه كان في هذا السوق معلمون مهرة ينحتون بلورا غاية في الجمال وهم يحضرونه من المغرب، وأنياب الفيل أحضرت من زنجبار، كما أحضر جلد بقر من الحبشة، يشبه جلد النمر وكانوا يعملون منه النعال.
ومن مشاهدات الرحّالة ناصر خسرو في أسواق القاهرة قديماً، أنه رأى في يوم واحد هذه الفواكه والرياحين: الورد الأحمر والنيلوفر، والنرجس، والترنج والنارنج، والليمون والمركب والتفاح، والياسمين والريحان الملكي، والسفرجل والرمان والكمثرى، والبطيخ والعطر والموز والزيتون، والرطب والعنب، وقصب السكر والباذنجان والقرع واللفت والكرنب، والفول الأخضر والقثاء والبصل والثوم والجزر والبنجر. وهو الأمر الذي أدهش ناصر خسرو، وكان سبب تلك الدهشة اجتماع كل تلك الأصناف من الفواكه والرياحين في وقت واحد، بينما هي ثمار الفصول متعددة في السنة، الأمر الذي يوضح مدى خصوبة الأرض في مصر، بالإضافة إلى ثراء أسواقها التي تجتذب الحاصلات من كل الأنحاء.
وهكذا، وبحسب المصادر التاريخية، كانت القاهرة منذ نشأتها مركزاً تجاريا مهما تعرض في أسواقه منتجات تجلب من بلدان العالم، وقد انعكس ذلك على حركة البيع والشراء بها، وكانت أسواقها أكثر بقاعها ازدحاما وضجيجاً.
وخلال شهر رمضان كان الازدحام والتكالب على الحوانيت أكثر المظاهر إثارة وتشويقاً في أسواق القاهرة قديماً، خاصة وأن أهلها حسبما لاحظ الرحالة كانوا يشترون طعامهم مطهياً من الأسواق، واستمر هذا الوضع حتى مقدم الحملة الفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر الميلادي. ويعزى ذلك إلى قلة الوقود اللازم لعمليات الطهي بالمنازل وارتفاع أسعاره، وكانت فترة ما قبل الإفطار يسبقها تكالب وصخب يمتد إلى وقت السحور.
ومن غرائب ما كان يباع في الأسواق من طعام في شهر رمضان، الدجاج المطبوخ بالسكر، وقد يضاف إليه الفستق فيعرف بالفستقية أو الجوز فيقال له الجوزية.
وكان سوق الشماعين – باعة الشمع – يحتفل في القرنين الثامن والتاسع الهجري بقدوم شهر رمضان، وهو الشهر الذي كان يشهد فيه السوق حركة ونشاطاً كبيرين، وبحسب المصادر التاريخية فإنه إنه يرجع الفضل لهذا السوق في ظهور فانوس رمضان.
وكانت الأسواق والدكاكين التي تبيع أصناف الياميش في رمضان تشهد أيضاً حركة ورواجاً كبيرين في شهر رمضان على غرار سوق الشماعين.
ولم يماثل سوق الشماعين حركة ونشاطاً في شهر رمضان سوى الأسواق والحوانيت التي كانت تبيع أصناف الياميش وقمر الدين وعلى رأسها “سوق السكرية داخل باب زويلة، حيث كانت أنواع الياميش وقمر الدين تفرش على أبواب الدكاكين، وكانت رخيصة السعر فيتمتع بها الغني والفقير وتقدم للضيوف ويوزع منها على أطفال الحارة حينما يطوفون على الدور بفوانيسهم الموقدة لتحية أصحابها.