كيف يتم استخدامنا بواسطة تقنيات التعرف على الوجوه

تزايدت التقارير العالمية التي تحذر من خطورة استخدام تقنيات التعرف على الوجوه في رصد جميع تحركاتنا على الإنترنت بل وحتى في الشوارع والمقاهي والمكاتب من قبل الحكومات وشركات التكنولوجيا وربما أطراف خفية أخرى كثيرة.
الأخطر أن جميع تلك التقارير قد لا تعرف سوى القمة الطافية من جبل الجليد وقد يكون خزين المعلومات التي تحصي أنفاسنا ودقات قلوبنا أكبر بكثير من التقديرات التي يمكن رصدها من قبل تلك التقارير.
لا يمكن لجميع الخبراء والمتخصصين معرفة كم المعلومات المتراكمة وقواعد بيانات الحكومات والشركات، إلا حين تطفو على السطح حالة معينة. وحتى في هذه الحالة فإننا لن نصل إلى جميع البيانات.
استخدامنا كفئران تجارب
يذكر تقرير في صحيفة فايننشال تايمز الأسبوع الماضي أن الناشطة الأميركية وهي جيليان يورك فوجئت في فبراير بصديق لها يعمل في برلين، يخبرها باكتشافه صورا لها في قاعدة بيانات تابعة للحكومة الأميركية تستخدم لتدريب خوارزميات التعرف على الوجوه.
وعند التعمق في تلك الحالة تبين أن وجهها ساعد في بناء أنظمة تستخدمها الحكومة الاتحادية للتعرف على الوجوه، تستهدف متابعة المجرمين المشتبه بهم والإرهابيين والأجانب غير الشرعيين.
الغريب أن اللقطات ومقاطع الفيديو، التي تغطي أكثر من 10 سنوات، بينها قاسم مشترك هو أنها كانت تتحدث خلالها في موضوعات تشمل حرية التعبير والخصوصية الرقمية والأمن. والأغرب أن بعضها كان من جلسات خاصة وأحاديث مع أصدقاء وليست على منصة قاعة عامة.
ويكشف وجود تحرير للقطات أنها تمت بدراية وبحث مقصود عن لقطات وأحاديث محددة من خلال الذكاء الاصطناعي الذي اختارها من كم هائل من البيانات والصور والتسجيلات.
يقول الخبراء إن تعليم الآلة التعرف على الوجوه يتطلب تدريبها باستخدام مئات الآلاف من الوجوه. وكلما كانت الوجوه متنوعة وغير واضحة، كانت من الأفضل محاكاة سيناريوهات الواقع التي تجري فيها مراقبة الأشخاص، أي في المطارات والشوارع وغيرهما من الأماكن العامة.
تلك الحالة مجرد نموذج صغير لما يجري لأن التجربة التي قامت بها شركة خاصة لحساب الحكومة الأميركية شملت 3500 شخص فقط من أجل اختبار تلك التقنية وتقييم فعاليتها.
وتبين أن من بين الأشخاص الذين شملتهم التجربة صحافي قناة الجزيرة وأحد خبراء التكنولوجيا المستقبلية وثلاثة نشطاء سياسيين من الشرق الأوسط، أحدهم عالم مصري شارك في احتجاجات ميدان التحرير في انتفاضة يناير 2011.
لم يكن أي من أولئك الأشخاص يعلم بمراقبته في تلك التجربة وتم جمع صورهم دون موافقتهم الصريحة. وتم ذلك بموجب شروط تراخيص العمل الإبداعي، وهي اتفاقية حقوق طبع ونشر عبر الإنترنت تسمح بنسخ الصور وإعادة استخدامها للأغراض الأكاديمية والتجارية من قبل أي شخص.
قمة طافية من جبل جليد
من الصعب تخيل استخدام ولو جزء ضئيل من الصور في التعرف على الوجوه، لكن كمية الصور والبيانات الهائلة يجري تخزينها وحين تتطور التكنولوجيا أكثر سوف يمكن العودة إليها وفك جميع الأسرار.
أكبر عقبة فنية أمام تطوير التعرف الدقيق على الوجه هي عدم قدرة الآلات على تحديد الوجوه عندما تكون مرئية جزئيا أو مغطاة بالظل أو الملابس، على عكس الصور عالية الدقة.
حتى الآن يمكن حصر استخدام تكنولوجيا التعرف على الوجوه في قضايا الأمن، سواء من قبل المتاجر والفعاليات أو من قبل الأجهزة الأمنية لتعقب المجرمين وتحديد هوية الأفراد من أجل الأمن القومي والحدودي.
ولإطعام هذا النظام الجائع ظهرت مجموعة كبيرة من مستودعات الوجوه تحتوي على صور تم جمعها من مصادر متنوعة مثل الجامعات والأسواق والمقاهي ومن مواقع التواصل الاجتماعي.
ولفهم ما يحدث وكيف تعمل أنظمة التعرف على الوجوه تواصلت فايننشال تايمز مع آدم هارفي، الباحث الذي اكتشف وجه جيليان يورك في بينات التجربة التي ذكرناها، وهو أميركي يعمل في برلين، وقد رصد آلاف البحوث في هذا المجال.
وتبين أن تقنية التعرف على الوجوه مستخدمة في عشرات الأغراض، بينها مراقبة الجوازات ومراقبة التجمعات والتظاهرات والقيادة الآلية وصناعة الروبوتات وحتى تحليل العواطف لخدمة صناعة الإعلانات.
تعزيز القبضة الأمنية
وتم رصد تلك التجارب لدى شركات التكنولوجيا الكبرى مثل فيسبوك ومايكروسوفت وبايدو وسنس تايم وآي.بي.أم، وكذلك من قبل الأكاديميين من جميع أنحاء العالم.
وقد استخدمتها شركات مثل سنس تايم التي تبيع تقنيات التعرف على الوجوه للشرطة الصينية وشركة تكنولوجيا المعلومات اليابانية أن.إي.سي، التي زودت وكالات إنفاذ القانون في الولايات المتحدة وبريطانيا والهند بتلك التقنية.
في الصين لعبت برامج التعرف على الوجوه دورا كبيرا في المراقبة الجماعية للحكومة واحتجازها للمسلمين الإيغور في أقصى غرب البلاد، فيما وصفه نشطاء حقوق الإنسان ذلك الدور بأنه القمع المنهجي لملايين الأشخاص.
يحاول هارفي الذي يرصد كل هذه الخارطة أن يبقى خارج الرصد، فهو لا يدفع إلا نقدا ويستخدم متصفح “تور” المجهول ويتواصل من تطبيق مشفر يمسح الرسائل خلال ساعات قليلة.
وهو يعمل لتطوير أداة بحث تسمح للأشخاص بمعرفة ما إذا كانت وجوههم قد استخدمت لتدريب أنظمة الذكاء الاصطناعي في أي جزء من العالم.
تشير التقديرات إلى أن سوق التعرف على الوجه نما بنسبة 20 بالمئة سنويا خلال الأعوام الثلاثة الماضية، وسيبلغ حجمه 9 مليارات دولار بحلول عام 2022. لكن حجم نشاطه تضاعف عدة مرات بسبب سرعة تطور دقة البرنامج بفضل الذكاء الاصطناعي.
هيمنة فيسبوك وغوغل
يقول هارفي بأسف إنه لم يتوقف أحد مطلقا عند ما إذا كان من الأخلاقي جمع صور لحفلات الزفاف الخاصة وألبومات الصور العائلية مع أطفال أو من الأسواق أو الجامعات دون إذن صريح.
يشير الباحثون إلى أن تقنيات تحليل الوجه ليست للمراقبة فقط. على سبيل المثال يمكن استخدامها للمتابعة الصحية حيث تسمح بمعرفة ما إذا كان شخص ما يعاني من الزهايمر أو للتحقق من عدم القدرة على قيادة السيارة بسبب الإرهاق.
إذا لم تكن بالإمكان مشاركة خزين البيانات، فإن فيسبوك وغوغل، تملكان كميات هائلة من صور المستخدمين ومقاطع الفيديو التي يتم تحميلها على مواقعهما كل يوم. وستنفردان بأكبر بيانات الوجوه عالية الجودة وبالتالي ستكون لديهما أفضل خوارزميات التعرف على الوجوه.
يقول كارل ريكانيك الأستاذ بجامعة نورث كارولينا ويلمنغتون، الذي أنشأ مجموعة بيانات للوجوه متاحة للجميع “لست قلقا من الحكومة، أنا قلق من غوغل وفيسبوك لأن لديهما معلومات حول المستخدمين أكثر من الحكومات ولا يمكننا التأثير على إدارتيهما“.
ويضيف أنه يعتقد أن الحكومة الأميركية لديها مهمة جيدة على الأقل وهي تحاول حل المشكلات التي تعتقد أنها ستجعل الحياة أفضل في عالمنا. وهي لا تستخدم هذه التقنية لكسب المال.وتجري فيسبوك تجارب على الصور ويقول باحثوها إنه رغم التقدم الكبير الذي تم إحرازه مؤخرا في التعرف الأمامي على الوجه، إلا أن المشاهدات غير الأمامية هي أكثر شيوعا في ألبومات الصور مما كانوا يعتقدون.
وتعتمد الخوارزميات على محاولة تحديد الأشخاص في ظل لقطات من زوايا مختلفة وفي ظل مستويات وضوح وإضاءة متباينة. ويقول باحثو فيسبوك إن برامجهم أصبحت قادرة على التعرف على الوجوه المخفية جزئيا بدقة عالية.
وخلص الباحثون إلى أن تجاربهم تقترب من حل مشكلة التعرف على الوجوه خلال انهماكها في الحياة اليومية.
وقد تم استخدام ما توصلت إليه فيسبوك في أنحاء العالم، بما في ذلك من قبل الجامعة الوطنية لتكنولوجيا الدفاع في الصين لتحسين تكنولوجيا المراقبة بالفيديو.
وقال متحدث باسم فيسبوك “نحن لا نتعاون مع الحكومة الصينية على التعرف على الوجوه”. لكن سيكون هناك دائما سؤال حول ما إذا كان ينبغي مشاركة التطورات التكنولوجية على نطاق واسع أم إخفاؤها.
وتعتقد فيسبوك وشركات التكنولوجيا الرائدة الأخرى أن الأوساط العلمية ينبغي عليها أن تتبادل الخبرات من أجل تطوير التكنولوجيا، إلى جانب بذل الجهود لمنع إساءة استخدامها.
في الخلاصة يعتقد الخبراء أنه لم يعد بالإمكان الوقوف بوجه تقنيات التعرف على الوجوه أو تقييد انتشارها عبر الحدود الجغرافية.
مخاطر كبيرة
ويقول آدم غرينفيلد الكاتب المتخصص في مجال التكنولوجيا “قد نثق في الجهة التي تجمع المعلومات وربما نكون قد وافقنا على التقاط الصور، لكن تلك البيانات يمكن أن تتسرب إلى جهات أخرى لا نريدها أن تحصل على بيناتنا”.
ويضيف أنها “يمكن أن تتسرب من خلال القرصنة والاستحواذ على الشركات أو ارتكاب خطأ، ويمكن أن تتسرب من خلال تغير النظام في بلد ما… ليست هناك طريقة لمنع وصول البيانات إلى أيدي الدولة الإسرائيلية أو الأميركية أو الصينية، أو أي شخص يريد تدريب خوارزميات التعرف على الوجوه”.
أما هارفي الذي قضى 10 سنوات في محاولة توضيح حجم المشكلة فلا يعتقد بوجود ضوء في نهاية النفق. ويقول “هناك الكثير من الأمثلة الفظيعة في مجموعات بيانات الصور التي تعتبر ببساطة انتهاكات صارخة للخصوصية”.
ويقول “إن بعض بيناتها يأتي من كاميرات عامة في الشوارع، بل وهناك كاميرات في المقاهي. وعند مرورك من أمامها لن تدري ما إذا كنت ستصبح جزءا من مجموعة البيانات التدريبية”. ويؤكد هارفي أن التعرف على الوجوه ليس سوى الخطوة الأولى من المراقبة البايومترية. ويقول إنها في الواقع مجرد عتبة الدخول إلى عالم أوسع للتوغل في البيانات الشخصية للأفراد.
ويشير على سبيل المثال إلى ما تقوم به شركات مثل إفكتيفا الأميركية التي تجري أبحاثا تحلل الوجوه في الوقت الفعلي داخل المتاجر، لتحديد ما إذا كان الشخص سيشتري شيئا ما في المتجر من خلال كاميرا مراقبة.
وهناك تجارب أخرى يمكن استخدامها لتحديد درجة تعب الأشخاص ومعدل ضربات القلب أو حتى قراءة الشفاه لمعرفة ما يقولونه. ويرى هارفي أن “مصطلح التعرف على الوجوه مصطلح خادع للغاية من الناحية الفنية، لأنه لا يوجد سقف لهذه التقنية التي قد تصل في النهاية إلى معرفة الحمض النووي الخاص بك”.