كيف ننصف المرأة والأم
يومٌ للمرأة العالمي، ويومٌ آخر للاحتفال بعيد الأم، في هاتين المناسبتين اعتادت المرأة السورية على سماع الخطابات، المحلية والدولية، وكذلك بيانات التنديد بعدم المساواة الجنسية، وقد حفظت سلسلة حقوقها المسلوبة من قبل المجتمع الذكوري عن ظهر قلب، لكثرة ما تكرّرت على سمعها كل عام في هاتين المناسبتين. وتابعت برامج “السَّقِّ والنَّقّ” على محطات التلفاز، عن عيد المرأة وعن حقوقها المهدورة من قبل الذكور، وحملات التضامن العالمية، مع معاناتها، دون أن ننسى تصاعد التنديد المستجد بالمدّ السلفي الجهادي، واضطهاده للمرأة عبر القتل والجلد والسّبي وفق أعرافٍ وقوانين يحيلها مُصدِرُوها إلى الإسلام، رغم ملايين الأصوات المسلمة المتصاعدة القائلة بغير ذلك، والمثقلة بالبراهين والشواهد الفقهيّة على بطلان أحكام داعش والنصرة وغيرهما تجاه قمع المرأة واضطهادها، وتجاه كل السلوك الجهادي بالعموم.
وبعد كل ذلك تعود المرأة السورية لمتابعة شؤونها اليومية القاسية، وقد زادتها الحرب المجنونة بؤساً، لتغدو هذه الأعياد مناسبةً تتذكّر فيها المرأة السورية بؤسها كلّه، تتذكر من فقدتهم من أهلها وأحبّتها خلال أربع سنوات من الحرب، وتتذكر معاناتها مع الجرحى والمعاقين، وتتذكر أيضاً مقدار الذُّلّ والاستغلال، ومنه الاستغلال الجنسي، الذي تتعرض له يومياً لتوفير قوتها وقوت أطفالها، وربما قوت أطفال آخرين لم يبقَ لهم من معيل.
وكل ذلك في وقت بات فيه الحصول على لقمة العيش رفاهية، فكيف بتدبُّر أمور التدفئة والكساء ومصاريف الطبابة والدراسة، بعد أن زادت الحرب تفكك المجتمع وقساوته، وصعّدت من مستوى أنانية وفردانية عناصره، وخفضت من مستويات التضامن والتكافل المجتمعي إلى أدنى الحدود.
لم يكن وضع المرأة السورية على ما يرام قبل بدء الثورة. ربما ساهمت إصلاحات البعث في دخول المرأة الريفية مجال العمل بقوة، بعد أن كانت تعاني التهميش والقمع الكبير في فترة الخمسينات من القرن العشرين وما قبلها، مقارنة بنظيرتها المرأة الحضرية، التي تتحدر من عائلات تنتمي إلى الطبقة الوسطى والغنية.
لكن ذلك لم يعنِ تحرير المرأة ونيلها حقوقها، إذ ترافق استلام البعث للسلطة مع إحكام السيطرة الأمنية على المجتمع بغرض مصادرة ميل الشعب لاتخاذ قراراته وتطوير مؤسساته الديمقراطية، لتنحصر تلك القرارات بتحالف ثنائي عسكري اقتصادي، بين الجيش المستلم للسلطة وبين كبار رجال الأعمال في المدن الكبرى.
وبذلك صودر حقُّ المرأة في الحفاظ على مكتسباتها وتحقيق المزيد، حيث كانت النقابات النسوية وغيرها صورية غير فاعلة، فقد تم تدجينها بالترهيب تارة، عبر السيطرة الأمنية الكاملة، وبالترغيب تارة أخرى، عبر منح قادتِها بعض المكاسب والميزات، ليغدو دورها مساهماً في قمع المرأة وكبح ميلها إلى الحصول على حقوقها. وبذلك بات ذِكْرُ اسم الاتحاد العام النسائي أمام المرأة السورية أشبه بذكر فرع للتحقيق والاعتقال.
أما المساواة الجنسية التي يتشدق بها منظرو البعث وغيرهم، فقد كانت صورية أيضا، واقتصرت على إقحام نساء في أغلب التشكيلات الحكومية والوظيفية، واللاتي يعيّنَ وفق معاييرَ أولها الولاء المطلق للنظام ورئيسه، دون أن تكون الكفاءة واحدةً من تلك المعايير.
المعارضة السورية لم تفعل أكثر مما فعله النظام بشأن المرأة، فقد شاركت المرأة في تشكيلات المعارضة بخجل، رغم حضورها اللافت في كل النشاطات الميدانية والإغاثية في الثورة، ولم تبخل المعارضة السورية على المرأة بدعم السلفية والجهادية، والتي كثيراً ما اعتبروها من مكونات الثورة، كالموقف الواضح المناصر لجبهة النصرة والجبهة الإسلامية وأحرار الشام، وكذلك الموقف الملتبس من تنظيم داعش. ولم تتعب تلك المعارضات نفسها بتقديم نقدٍ أو موقف من السلوك المتطرف لتلك الجهاديات بما يخص معاملة المرأة، وبما يخص كل سلوكها القمعي واللاإنساني المعادي للثورة. هذا فضلاً عن دور الإخوان المسلمين الأساسي في تشكيلات المعارضة، بما يحملونه من فكر رجعي لا ينصف المرأة، وإن كانوا يلبسونه بكلام عمومي ومُراوغٍ عن حقوق المرأة في الإسلام، وغالباً ما يكتفون بالحديث عن حقها في ارتداء الحجاب، بحجة أن نظام البعث “العلماني” يمنع ذلك، في إشارة إلى حوادث فردية مفتعلة حدثت في الثمانينات وكذلك في بداية الثورة السورية في 2011 عن نزع الحجاب عن الفتيات. رغم أن من يعيش في سوريا يعلم مدى دعم النظام السوري لمظاهر التديُّن “السني” وخصوصاً لظاهرة القبيسيات.
لا حلول تخصُّ وضع المرأة بمعزل عن المجتمع كله. كل العِظات وحملات التوعية لا تنفع، فالواقع أقسى من أن تُزحزِحَه تلك المواعظ. فحين تكون غالبية المجتمع السوري محرومة، مُفقرة، مُهمَّشة، مقموعة، ومُجبَرة على العيش في دوّامةٍ من العنف والجهل، فكيف سيكون حال المرأة في تلك المجتمعات.
نضال المرأة السورية لنيل حقوقها هو جزء من نضال المجتمع للخلاص من ثقافة القمع الذكورية، ومن سياسات التفقير والتهميش، وللوصول إلى الديمقراطية الأوسع، أي التي تسمح لكل الجماهير، ومنهم النساء، بالمشاركة في صنع القرار، كجزء من الطبقة الحاكمة، عبر المنظمات الحكومية من نقابات واتحادات مهنية فعلية وغير صورية، تنظّم حِراكَ منتسبيها لممارسة الضغط على الحكومة.
أما ديمقراطية النخب السياسية، فلا تسمح للشعب بإبداء رأيه إلا عبر صندوق اقتراع، لحصر السلطة في نخب مفصولة عن الشعب وحاجاته، وستمارس التعالي ذاته الذي يمارسه النظام اليوم.
المخرج السوري الممكن اليوم هو حل سياسي قد يجمع شخوصاً من المعارضة ومن النظام. ولكن ذلك يعني الاستعداد لمعركة نيل الحقوق، والتي تعني تنظيم الشعب كله، رجالاً ونساءً، للحد من سياسات التفقير والتهميش، ووضع سياسات اقتصادية تنهض بالاقتصاد الوطني، وتقلل من معدلات البطالة، ولإطلاق الحريات العامة، وحق تشكيل الأحزاب والتجمعات المدنية والدّيمقراطية. حينها سيكون لنضال الحركة النسوية معنى، وإمكانية للنهوض بواقع المرأة السورية إلى المستوى الذي تستحقُّه بالفعل.
كاتبة سورية