كيف ستوازن القاهرة بين علاقتها مع واشنطن وصمتها حيال طهران

طموح مصر في المنطقة يقودها إلى لقاء إيران في منتصف الطريق.
الجمعة 2021/07/02
إشارات التضامن المصرية في مواجهة التهديدات الإيرانية لم تعد كافية

لطالما غضت القاهرة النظر عن التهديدات الإيرانية للمنطقة العربية، فيما يفسر مراقبون هذا الصمت بقدرتها على تقويض مناورات النظام الإيراني في الداخل عقب نجاحها في قصقصة نفوذ الإخوان منذ اعتلاء الرئيس عبدالفتاح السيسي الرئاسة وانشغالها بترتيب أوضاعها الداخلية. لكن اليوم ومع استعادة الدبلوماسية المصرية لعافيتها وتعويل الدول الكبرى وتحديدا الولايات المتحدة على دور مصري ناجع في حل الملفات المشتعلة في المنطقة باتت القاهرة مطالبة بتحديد موقفها بوضوح من طهران وعدم الاكتفاء بإشارات التضامن في مواجهة التهديدات.

نجت القاهرة من مطبات إقليمية ودولية عديدة الفترة الماضية وأعادت صياغة جوانب كبيرة في علاقاتها مع قوى مختلفة، وفي خضم المطبات والصياغة بدت إيران غائبة عن المعادلة المصرية التي تتحدث دوما عن الدفاع على الأمن القومي العربي ورفض التدخلات الخارجية، وخيم الصمت على الخطاب الرسمي في غالبية المحطات التي يأتي فيها ذكر تجاوزات طهران باستثناء الاستنكار والرفض التقليدي في إطار البيانات الصادرة عن الاجتماعات الوزارية تحت سقف جامعة الدول العربية.

وزار الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي بغداد، الأحد الماضي، وحضر قمة جمعته مع الملك الأردني عبدالله الثاني ورئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، وحوى البيان الختامي بنودا تؤكد على مكافحة الإرهاب وأهمية توافر الأمن والاستقرار والتعاون الإقليمي من دون الحديث عن إيران التي تلعب دورا قاتما في هذه الملفات.

قبل وأثناء وبعد زيارة السيسي لبغداد لم تشر القاهرة بأي عبارة لإدانة التدخل الإيراني السافر في العراق، والذي يهيمن على الحل والعقد في غالبية مفاصل البلاد الأمنية والسياسية والاقتصادية والدينية، وهو ما يتنافى مع ألف باء الأهداف الاستراتيجية التي ينطوي عليها التكتل الثلاثي الجديد بين مصر والعراق والأردن.

كلما ضاعفت القاهرة انخراطها في الأزمات وتوسعت في عمليات البحث عن حلول سياسية لها كمنهج تتبناه في إدارة سياستها الخارجية، كلما وجدت أمامها إيران

اختارت القاهرة الصمت طويلا مع إيران بينما مضت في طريق الرفض التام مع تركيا والتصدي سياسيا لتجاوزات الأخيرة في شرق البحر المتوسط وليبيا واحتضانها لجماعة الإخوان، على الرغم من أن تدخلات كلاهما تضر بالمصالح العربية بدرجات متفاوتة، لكن في المحصلة ثمة تهديدات واستقطابات تأثر على دول متباينة.

في ظل التطورات الإيجابية بين النظام المصري والإدارة الأميركية الحالية من المتوقع ألا يظل صمت القاهرة نحو طهران على حاله، حيث تخوض واشنطن معركة سياسية كبيرة لتقويض قوة إيران النووية ونفوذها الإقليمي، وتعيد ترتيب العلاقات مع حلفائها في المنطقة بما يخدم مصالحهم، وقد تكون إيران واحدة من القضايا التي يجب التفاهم حولها بين مصر والولايات المتحدة وتحديد آليات مشتركة للتعاطي معها.

لذلك سيكون على القاهرة تحديد موقفها بوضوح من إيران التي تبدو شبه غائبة عن رزمة الحسابات المصرية المعلنة حتى الآن، وربما تكون موجودة في الخلفية دون أن تطفو على السطح أو تتوتر العلاقات معها علانية، وحافظ الجانبان على درجة عالية من الهدوء وابتعدا عن المناكفات السياسية والأمنية، مع أن إيران كانت مستعدة لتوسيع تدخلاتها في مصر عقب ثورة 25 يناير 2011، وبعد وصول الإخوان للحكم.

أنهى خروج الإخوان من السلطة بموجب ثورة 30 يونيو سنة 2013 الكثير من الأحلام التي راهنت عليها طهران للتدخل في الشؤون المصرية والتمدد في نسيجها السياسي والاجتماعي، وتجاهلت القاهرة فكرة تصفية الحسابات معها لأن أولوياتها كانت تقوم على إعادة ترتيب الأوضاع الداخلية وخفض مستوى التحديات الإقليمية، وبدت إيران بعيدة عن أولويات مصر في مرحلة إعادة البناء.

خروج الإخوان من السلطة سنة 2013 أنهى الكثير من الأحلام التي راهنت عليها طهران للتدخل في الشؤون المصرية
خروج الإخوان من السلطة سنة 2013 أنهى الكثير من الأحلام التي راهنت عليها طهران للتدخل في الشؤون المصرية 

تعرضت القاهرة لانتقادات ضمنية طوال هذه المرحلة من بعض حلفائها في منطقة الخليج الذين ضجوا من تدخلات إيران وتهديداتها المباشرة للأمن الإقليمي، واكتفت مصر بإرسال إشارات التضامن الشفهي والتأكيد على عدم مساس بأمن الخليج باعتباره جزءا من أمن مصر، وهكذا حاولت المنظومة الرسمية في الدولة طمأنة دول الخليج لفظيا بعيدا عن الدخول في مواجهة إيران التي ضاعفت من دعم أدواتها العسكرية في كل من العراق وسوريا ولبنان واليمن وقطاع غزة.

يفسر مراقبون تجاهل إيران بأنها أوقفت تدخلها في مصر بعد سقوط الإخوان، وتحاشت الاحتكاك بها في مناطق نفوذها، بمعنى أن التقاطعات السلبية لم تهدد المصالح المصرية مباشرة، وحافظ كل طرف على الحدود التي لا تسمح بتوريطه في صدام يمكن أن يكون مضرا للطرفين، وحتى حركة حماس التي تسيطر على قطاع غزة القريب من الحدود المصرية اكتفت طهران بدعمها ماديا.

لدى النظام المصري، منذ عهد الرئيس الراحل حسني مبارك، قناعة بعدم تضخيم الأزمات مع إيران، ومع أن أدبياتها السياسية تتنافر تماما مع نظيرتها المصرية، غير أن حالة العداء لم تصل إلى الخصومة أو المنافسة المفتوحة، ووصل الأمر أحيانا حد أن نظام مبارك كان لا يستبعد تطبيع العلاقات مع طهران ورفع التبادل الدبلوماسي من مكتب تمثيل إلى مستوى سفير، وفي كل مرة يفكر في ذلك يصطدم بكوابح.

لم يجرؤ مبارك على القيام بهذه الخطوة في النهاية وحافظ على درجة المراوحة التي تميل أكثر للهدوء أو التجاهل، وفي ذهنه أن هناك “فيتو” أميركي سوف يمنعه من تحسين العلاقات معها، واكتفى بالصمت العام كدليل على التجاوب مع ما تريده الولايات المتحدة، وتحقيق الحد الأدنى من الرغبات المصرية في عدم الاشتباك.

كما أن الحفاظ على علاقات مصر مع دول الخليج كانت كابحا ثانيا لعدم التجاوب مع أي إشارات إيرانية إيجابية، فكل توجه نحوها كان سينعكس سلبا على دول الخليج التي تربطها بمصر مجموعة كبيرة من المصالح المتشابكة، بالتالي كان الحل في تبريد العلاقات مع طهران لأقصى مدى، بما يجعل الباب مفتوحا وخط الرجعة موجودا عندما تتحسن الأوضاع، ما يعني أنها ورقة قد يأتي يوم للاستثمار فيها سياسيا.

القاهرة سيكون عليها تحديد موقفها بوضوح من إيران التي تبدو شبه غائبة عن رزمة الحسابات المصرية المعلنة حتى الآن

مررت إيران الكثير من مخططاتها في دول عربية عدة، في مقدمتها العراق وسوريا، ولم تبد مصر غضبا عمليا أو استعدادا للتصدي للاستحواذ على هذه الدولة الحيوية أو غيرها، ربما بسبب التآكل في الجسم المصري الداخلي وكثافة التحديات الإقليمية آنذاك، وربما لاستمرار القناعة التي وصلت إلى حد اليقين بتجنب تحويل الموقف من إيران إلى عداء على غرار تركيا، ما يمثل إرهاقا للجهود المصرية لترميم العلاقات.

دفعت عوامل مختلفة إلى صمود معادلة الصمت المصري حيال إيران أمام الرياح العاتية لفترة طويلة، بينها الحفاظ على هامش الحركة الحرة الذي أبقته القاهرة وأبعدها عن الرضوخ لضغوط قوية لحسم علاقتها بطهران، لكن من الضروري أن ينتهي ذلك إذا تطورت العلاقات مع واشنطن واستردت عافيتها مع مصر على الصعيد الإقليمي.

علاوة على أن الطموح المصري للقيام بدور مؤثر حتما سوف يقودها إلى لقاء إيران في منتصف الطريق، بحكم تدخلها في الكثير من الدول العربية، فتصفية الأزمات واستعادة الأمن والاستقرار كمهمة في المخيال المصري تستلزم مواجهة التمدد الإيراني، وهنا تكمن العقدة الرئيسية، فالقاهرة لن تستطيع التكيف مع طهران التي تريد فرض رؤيتها على دول المنطقة بالخشونة، ولن تتمكن من استمرار التفاهمات الخلفية معها لأن هناك ضريبة سوف تضطر مصر إلى دفعها.

كلما ضاعفت القاهرة انخراطها في الأزمات وتوسعت في عمليات البحث عن حلول سياسية لها كمنهج تتبناه في إدارة سياستها الخارجية، كلما وجدت أمامها إيران، الأمر الذي يشير إلى أن المعادلة التي أقامتها على مدار سنوات ستدخل عليها حتما تعديلات، أهمها أن سياسة التوازن التي حافظت عليها بين الولايات المتحدة والخليج وإيران لن تكون مفيدة لاحقا، وقد تأتي على حساب طهران التي كانت تنظر لها القاهرة كخصم تتحاشى الارتطام به.

عوامل مختلفة دفعت إلى صمود معادلة الصمت المصري حيال إيران التي تريد فرض رؤيتها على دول المنطقة بالخشونة
عوامل مختلفة دفعت إلى صمود معادلة الصمت المصري حيال إيران التي تريد فرض رؤيتها على دول المنطقة بالخشونة

 

7