كيف ساهمت مركزية القرار في صعود الاقتصاد التركي ثم تدهوره

السياسات الاقتصادية، التي اعتمدها رجب طيب أردوغان منذ صوله إلى الحكم سواء كرئيس حكومة أو رئيس جمهورية، حققت نتائج إيجابية في البداية ثم عرفت نزولا ارتبط بخيارات سياسية ومقاربة اقتصادية غير واقعية، وبالتدخل في عمل البنك المركزي.
أنقرة- حقق الاقتصاد التركي أداء جيدا تحت قيادة حزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه الرئيس رجب طيب أردوغان، بعد أن وصل إلى السلطة في 2002. ونفذ الحزب برنامجين متتاليين من صندوق النقد الدولي بين عامي 2002 و2008 إثر أزمة العملة التي شهدتها البلاد سنة 2001. وحقق هذا تضخما مستقرا ومنخفضا وفقا للمعايير التركية. وبلغ متوسط النمو الاقتصادي أكثر من 7 في المئة خلال هذه الفترة، وبلغ متوسطه أكثر من 5 في المئة سنويا على مدى العقدين الماضيين، مما وضع البلاد في فئة الاقتصادات الناشئة ذات النمو المرتفع، التي يمكن مقارنتها بأفضل الاقتصادات أداء في آسيا.
ولكن النمو القوي المستمر ترافق في السنوات القليلة الماضية مع ارتفاع التضخم وتدهور الوضع المالي الدولي التركي. وتزامن ذلك مع تزايد مركزية النظام السياسي في البلاد إثر الإصلاح الدستوري لسنة 2017، الذي عزز السلطة في يد الرئيس، وزاد من نفوذ أردوغان على سياسة البنك المركزي. كما تزامن ذلك مع ضعف الدعم للحكومة، وتجلّى في الهزيمة المؤلمة لحزب العدالة والتنمية في انتخابات 2019 البلدية، مما وضع أردوغان وحزبه في موقع حرج قبل الانتخابات الرئاسية والعامة التي أجريت في 2023.
وبدأت الحسابات السياسية قصيرة الأجل تهيمن على صنع السياسة الاقتصادية في تركيا، مع قلق أردوغان بشأن احتمالات إعادة انتخابه، ومع الإصلاح الدستوري لسنة 2017 الذي منحه نفوذا أكبر على السياسة المالية. وبدأت حكومة أردوغان التي يقودها حزب العدالة والتنمية في زيادة الضغط على البنك المركزي لاتباع سياسة أكثر تضخمية لتحفيز النشاط الاقتصادي وخلق فرص التوظيف لتعزيز شعبيتها المتضائلة قبل انتخابات 2023 الوطنية. وأقال أردوغان خلال الفترة نفسها العديد من رؤساء البنوك المركزية، مما أظهر قدرة استغلال المركزية السياسية وما يصاحبها من إضعاف للمؤسسات لأسباب سياسية انتخابية على حساب الاستقرار الاقتصادي على المدى الطويل.
سياسة مالية غير تقليدية
بدأ البنك المركزي التركي تحوله نحو سياسة نقدية غير تقليدية منذ 2010، في محاولة للتعامل خاصة مع التدفقات المالية القوية وارتفاع سعر الصرف. وأدى هذا إلى فشل البنك المركزي التركي باستمرار في مقاومة التضخم، وجعل تركيا تبرز بأدائها الضعيف مقارنة بغيرها من الاقتصادات الناشئة التي نجحت في التحكم أكثر في التضخم (مثل البرازيل والمكسيك وجنوب أفريقيا).
ولكن السياسة المالية التركية أصبحت غير تقليدية وتضخمية أكثر بعد الإصلاح الدستوري لسنة 2017 الذي عزز سلطة أردوغان. وبينما كان التضخم مرتفعا بين سنتي 2009 و2016، إلا أنه كان يتمحور عادة حول 10 في المئة. وبلغ في 2018 – 2019 حوالي 15 في المئة، قبل أن يتجاوز 70 في المئة سنة 2022، إثر جائحة كوفيد – 19.
وتساعد المركزية السياسية المتزايدة والحسابات الانتخابية المتغيرة في تفسير تدهور نوعية السياسات الاقتصادية التركية خلال السنوات الأخيرة. وحقق حزب العدالة والتنمية أغلبية مطلقة في البرلمان التركي حين وصل إلى السلطة لأول مرة في 2002. وكانت الظروف الاقتصادية تتحسن إثر الأزمة المالية في البلد خلال 2001. وفاز الحزب بأغلبية مطلقة في 2002 و2007 و2011، ثم في 2015 بعد خسارة مفاجئة وإعادة الانتخابات البرلمانية.
وعلى الرغم من هيمنة أردوغان على السياسة التركية وحزب العدالة والتنمية، إلا أن شخصيات بارزة أخرى في الحزب احتفظت بدرجة من التأثير على السياسة الاقتصادية حتى منتصف العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. وأيدت العديد من هذه الشخصيات الحزبية السياسات الاقتصادية الأرثوذكسية. ووسع حزب العدالة والتنمية نفوذه من خلال السيطرة على المؤسسات (مثل الرئاسة) وإضعاف المؤسسات المناهضة له (مثل الجيش والقضاء). كما ركّز الإصلاح الدستوري لعام 2017 بشكل كبير جدا السلطة في يد الرئيس وأضعف استقلال البنك المركزي.
وكان البنك المركزي التركي مستقلا قانونيا بعد الإصلاحات الاقتصادية والهيكلية التي قادها صندوق النقد الدولي في مطلع القرن الحالي. ويمكن تفسير فشل البنك المركزي التركي في الحفاظ على التضخم المنخفض وتحقيق هدف التضخم الخاص به على أنه نتيجة لضغوط الحكومة المتزايدة على البنك، أو لاتباع البنك سياسات غير تقليدية للتحكم في تدفقات رأس المال. لكن البنك المركزي التركي فقد السيطرة الكاملة على التضخم بسبب قدرة أردوغان الجديدة على إقالة محافظ البنك وتعيين الموالين له بدلا منهم (وهو ما فعله مرارا وتكرارا منذ الإصلاح الدستوري لسنة 2017).
وهمّش أردوغان في نفس الوقت كبار المسؤولين المتبقين في حزب العدالة والتنمية، مما منحه نفوذا غير مسبوق. وأطلق التحول الدستوري وتهميش المعارضة الداخلية المحتملة في الحزب العنان لأردوغان الساعي بتوسيعه الصلاحيات الرئاسية إلى ضمان إعادة انتخابه في 2023. ولكن هذا شكل خطرا عليه هو وحزبه الذي تضاءلت شعبيته وفتح المجال أمام احتمال فوز المعارضة.
لقد وفر الإصلاح الدستوري القدرة والحوافز لاتباع سياسات اقتصادية أقل تقليدية وداعمة للنمو بهدف كسب أصوات المزيد من الناخبين قبل انتخابات 2023.
وأصبحت السياسة المالية تضخمية أكثر خلال السنوات التي أعقبت الإصلاح الدستوري، وبدأت الحكومة تعتمد سياسات غير تقليدية في محاولة للحد من الآثار السلبية التي تخلفها السياسة المالية المتساهلة على التضخم وتقييم العملة وتدفقات رأس المال إلى الخارج. وبينما فشل البنك المركزي التركي في تحقيق هدف السيطرة على التضخم وإبقائه في حدود 5 في المئة طوال سنة 2010، وغالبا بهامش صغير، اتخذت السياسة الاقتصادية والتضخم في تركيا منعطفا حاسما نحو الأسوأ في 2017 – 2018، حيث زاد الضغط على البنك المركزي التركي لمتابعة التوسع بشكل كبير. وشهد البنك المركزي ستة محافظين منذ 2019. وتقررت إقالة العديد منهم أو طردهم من مناصبهم لفشلهم في التوافق مع تفضيل أردوغان لأسعار الفائدة المنخفضة، بما في ذلك مراد أويصال في 2020 وناجي إقبال في 2021. ومهد تعيين شهاب قاوجي أوغلو (2021 – 2023) محافظا للبنك المركزي التركي، الذي كان متماشيا مع رغبة أردوغان في اتباع سياسة نقدية ميسرة، الطريق للمزيد من السياسات التضخمية.
وصارت السياسة الاقتصادية التركية أكثر تدخلا مع تعيين بيرات البيرق (2018 – 2020) وزيرا للمالية، وهو صهر أردوغان ولا خبرة له في العمل السياسي. وفشل البيرق في استعادة ثقة السوق وعوّضه في النهاية وزير مالية أقل تقلبا هو لطفي علوان (2020 -2021). لكن فترة ولاية علوان كانت قصيرة الأجل أيضا. ويرجع ذلك على الأرجح إلى خلافات مع أردوغان حول مسار السياسة الاقتصادية. وكانت السياسات المستدامة التي تهدف إلى الحفاظ على استقرار الاقتصاد الكلي تتعارض في نهاية المطاف مع حسابات أردوغان السياسية الانتخابية، التي ركزت على ضخ الاقتصاد في ضوء الانتخابات الوطنية المهمة لسنة 2023، على خلفية ضعف الدعم الشعبي للرئيس وحزبه.
لعبة منحنى فيليبس
يفترض ما يُسمّى بمنحنى فيليبس وجود علاقة عكسية بين البطالة ونمو الأجور (أو التضخم في النهاية)، على الرغم من إجماع الاقتصاديين على أن هذه العلاقة العكسية لا تنطبق إلا على المدى القصير. واستغلت الحكومة منحنى فيليبس خلال السنوات التي سبقت انتخابات 2023، وذلك بالضغط على البنك المركزي للتحول نحو سياسات مؤيدة للتضخم (أي الحفاظ على أسعار فائدة منخفضة على الرغم من ارتفاع التضخم) على أمل خفض التوظيف وتعزيز النمو الاقتصادي قبل الاقتراع. ويدرك خبراء الاقتصاد السياسي لهذا الحاجة إلى إنشاء بنوك مركزية مستقلة تصحح التضخم للحد من قدرة الساسة المنتخبين على استغلال منحنى فيليبس لتحقيق فوائد انتخابية قصيرة الأجل على حساب الاستقرار الاقتصادي والمالي في الأجل الأبعد.
وصل التضخم إلى 85 في المئة على أساس سنوي في نوفمبر 2022، خلال الفترة التي سبقت انتخابات تركيا في مايو 2023. لكن يبدو أن تركيز الحكومة قبل الانتخابات على خفض البطالة وزيادة النمو الاقتصادي على حساب ارتفاع التضخم كان لصالحها في صناديق الاقتراع، حيث فاز أردوغان في 2023، وحافظ حزب العدالة والتنمية على أغلبيته في الانتخابات البرلمانية المتزامنة.
وعيّن أردوغان، منذ إعادة انتخابه رئيسا لولاية أخرى مدتها خمس سنوات، فريقا اقتصاديا جديدا برئاسة وزير المالية محمد شيمشك، وكلّفه بخفض التضخم وتحقيق الاستقرار الاقتصادي. وعلى الرغم من أن سنوات من السياسة النقدية التضخمية ساعدت في الحفاظ على نمو اقتصادي مرتفع، إلا أن تفاقم أزمة تكاليف المعيشة في تركيا الناتجة عن ذلك لا تحظى بشعبية كبيرة. ومع غياب أيّ انتخابات وطنية في الأفق، أصبحت لأردوغان مساحة أكبر للتنفيس السياسي لمتابعة مثل هذا التحول في السياسة، حتى لو كان ذلك يعني فقدان الوظائف والتباطؤ الاقتصادي على المدى القصير، في حين كان التضخم الأعلى على المدى الطويل سيؤثر على شعبية الرئيس.
وبدأت حكومة حزب العدالة والتنمية التي أعيد انتخابه في التراجع عن بعض سياساتها الاقتصادية التدخلية بعد فترة وجيزة من انتخابات مايو 2023، مما سمح بتعديل سعر الصرف مع تشديد السياسة النقدية. وكان التعديل تدريجيا إلى حد مّا حتى الآن. ورفع البنك المركزي التركي سعر الفائدة الرئيسي في يونيو 2023، بعد الانتخابات مباشرة، مع ارتفاع متواضع في حدود 15 في المئة في سياق تضخم بنسبة 40 في المئة سنويّا.
وبلغ سعر الفائدة الأساسي حتى مارس 2024 نسبة 50 في المئة، ووصل التضخم في الأثناء إلى 70 في المئة، تاركا أسعار الفائدة الحقيقية في منطقة سلبية. كما لم يكن رفع الحد الأدنى للأجور في يناير 2024 مواتيا لخفض التضخم السريع. وهذا ما يشير إلى أن الاعتبارات السياسية لا تقل أهمية عن الاعتبارات الاقتصادية.
ويرى المحلل الاقتصادي ماركوس جايغر في تقرير بمركز ستراتفور أنه يصعب القول ما إذا كان غياب تعديل أكثر جرأة يرجع إلى القيود السياسية التي يواجهها فريق أردوغان الاقتصادي الجديد أو إلى قرار واع لتجنب “العلاج بالصدمة” المزعزع للاستقرار في ضوء نقاط الضعف المالية المحتملة في القطاع المصرفي. وسلّط صندوق النقد الدولي، على سبيل المثال، الضوء على مخاطر القطاع المصرفي “المرتفعة والمتنامية” في تركيا بسبب النمو الائتماني السريع وضعف الرقابة.
لكن حقيقة أن السياسة الاقتصادية التركية تخضع لقرارات رئيس قوي يواجه الآن عددا أقل من الضوابط والتوازنات بعد الإصلاح الدستوري لسنة 2017 لا تقل أهمية أيضا. وهذا ما يميّز تركيا عن غيرها من الاقتصادات الناشئة الكبيرة، مثل البرازيل والمكسيك والهند وإندونيسيا، التي تتمتع بمؤسسات أكثر قوة، وبالتالي ثقة أكبر في السياسات.
ويمكن توقع حدوث تحولات كبيرة في السياسة الاقتصادية في الأنظمة السياسية الأقل مركزية، عندما يصل حزب سياسي مختلف إلى السلطة مثلا. وغالبا ما يكون من الأسهل قياس الشكل الذي سيبدو عليه هذا التحول بناء على برنامج ذلك الحزب والإجراءات السابقة. ولكن السلطة ممركزة إلى حد كبير في حالة تركيا. ويصعب التنبؤ بالسياسات الاقتصادية لأنها تبقى خاضعة أكثر لأهواء الرئيس (وحساباته السياسية)، وأقل التزاما بالضوابط والتوازنات المؤسسية. وتعتمد توقعات الاقتصاد التركي بالتالي على ما تفعله السلطات اليوم، فضلا عن توقع ما يمكن أن تفعله في المستقبل. وهو أمر يصعب التكهن به ويمكن أن يتغير بسرعة بناء على التغيرات الشخصية أو السياسية.
النظرة إلى المستقبل
ماذا يعني كل هذا بالنسبة إلى تركيا؟ إذا كان التحليل أعلاه صحيحا، فسيصعب الحفاظ على استقرار الاقتصاد الكلي وخاصة النقد في البلاد. وستستمر الحوافز الانتخابية السياسية في جعل الرؤساء الأتراك يمارسون سلطتهم على البنك المركزي لاستغلال المقايضة بين النمو الاقتصادي والتضخم الأوسع، مما يؤدي على الأرجح إلى سياسات مشابهة لما شهدته المملكة المتحدة في ستينات وسبعينات القرن العشرين.
وسيجعل هذا الفريق الاقتصادي الجديد في تركيا يكافح لاستعادة ثقة المستثمرين والحفاظ عليها. فإذا كان التضخم المستقر يعتمد على الأفراد الذين يعيّنهم الرئيس، سيستمر التضخم المنخفض والاستقرار الاقتصادي الأوسع نطاقا في الاعتماد على الحسابات السياسية التي يقررها الرئيس نفسه، والتي يمكن أن تتغير ومن المرجح أن تتغير في الفترة التي تسبق الانتخابات المهمة، مما يترك المستثمرين حذرين. وستواجه تركيا لذلك فوائد وتكاليف تمويل أعلى مما كانت ستشهده في ظل نظام يكون فيه البنك المركزي مستقلا مؤسسيا وملتزما بانخفاض التضخم والاستقرار النقدي.
ولكن التحول الأخير نحو قدر أعظم من الأرثوذكسيّة قد يساعد في تحسين الأساسيات الاقتصادية والحد من المخاطر المالية السلبية. ويمكن أن تعزز إعادة البناء التدريجي للحواجز المؤسسية حول السياسة الاقتصادية التركية ثقة المستثمرين المحليين والأجانب ويساعد البلاد على استغلال إمكانات نموها الاقتصادي الكبيرة في سياق استقرار اقتصادي أكبر. وفي 4 يونيو، أبطلت المحكمة الدستورية في البلاد مرسوما رئاسيا صدر في 2018 يأذن للرئيس بإقالة محافظي البنك المركزي التركي وإجبار تلك المؤسسة على اتباع سياسة نقدية تضخمية. وإذا أمكن وضع عملية مؤسسية تفضي إلى تعيين تكنوقراط اقتصاديين في قيادة البنك المركزي، فستتحسن آفاق الاستقرار الاقتصادي طويل الأمد في تركيا، التي كانت تتّبع سياسة مالية موجهة نحو الاستقرار إلى حد ما على مدى العقدين الماضيين.