كيف تتعامل المكسيك مع السياسات التصعيدية لترامب

في مواجهة سياسات الرئيس الأميركي دونالد ترامب التصعيدية تتبنى كل دولة وفقا لنقاط قوتها ووزنها سياسات مواجهة. وفي المكسيك جارة الولايات المتحدة تتبنى الحكومة سياسة تمزج بين الحذر والدبلوماسية.
واشنطن - في 6 فبراير 2025، قامت مجموعة من شاحنات الحرس الوطني والجيش المكسيكي بالتوجه نحو الحدود الفاصلة بين سيوداد خواريز بالمكسيك وإل باسو بولاية تكساس الأميركية، في إطار وعود أطلقتها رئيسة المكسيك، كلوديا شينباوم، بإرسال 10 آلاف ضابط إلى الحدود الشمالية. وقد جاء هذا التحرك بعد قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب بتعليق الرسوم الجمركية المفروضة على المكسيك لمدة شهر إلى حين إجراء مفاوضات بين البلدين حول القضايا العالقة.
وحدثت هذه التطورات بعد أيام من التصعيد والمواقف المتشددة من قبل الإدارة الأميركية تجاه عدة دول، بما فيها المكسيك. حيث فرضت تصريحات الرئيس الأميركي والأوامر التنفيذية التي تبناها تجاه قضايا الهجرة والتجارة والجريمة عبر الحدود تحديات مباشرة على الحكومة المكسيكية؛ مما أدى إلى إعادة ظهور العلاقات الأميركية – المكسيكية إلى واجهة النقاش السياسي وسط تحديات سياسية واقتصادية وأمنية متزايدة.
وتقول الدكتورة منى أسامة، الخبيرة في شؤون أميركا اللاتينية، في تقرير نشره مركز المستقل للأبحاث و الدراسات المتقدمة، إنه لفهم الموقف المكسيكي ومدى قدرة الدولة على التعامل مع هذه التحديات لا بد من تحليل السياق الداخلي، بما في ذلك مواقف المسؤولين والمعارضة والرأي العام وتأثير ذلك في إدارة الأزمة من حيث تحديد مدى التوافق أو الاختلاف بين هؤلاء الفاعلين تجاه تداعيات سياسات ترامب.
سياسات متشددة
ممر الهجرة بين الولايات المتحدة والمكسيك يُعد الأكبر عالمياً، حيث يُقدّر عدد المهاجرين فيه بنحو 11 مليون شخص
منذ تنصيبه في 20 يناير 2025، تبنى الرئيس دونالد ترامب عدداً من الأوامر التنفيذية والمواقف والقرارات المتشددة تجاه المكسيك بشكل مباشر أو غير مباشر.
وأصدر ترامب أمراً تنفيذياً بفرض تعريفات جمركية بنسبة 25 في المئة على الواردات المكسيكية بدءاً من فبراير 2025، متعهداً بالإبقاء عليها حتى انتهاء ما وصفها بـ”حالة الطوارئ الوطنية” المرتبطة بتهريب الفنتانيل (نوع من المخدرات) والهجرة غير الشرعية إلى الولايات المتحدة. وجاء هذا القرار في إطار سعيه للضغط على المكسيك للتعاون معه بشأن هذه القضايا. إلا أن القرار الذي يشكل انتهاكاً لاتفاقية التجارة الحرة بين الولايات المتحدة والمكسيك وكندا، تم تجميده لمدة شهر عقب مفاوضات ثنائية بين البلدين.
وأصدرت إدارة ترامب إجراءً تنفيذياً آخر يقضي بتغيير الاسم الرسمي لخليج المكسيك إلى “خليج أميركا”، ما أثار ردود فعل ساخرة، كان أبرزها تعليق رئيسة المكسيك التي اقترحت في البداية تسمية القارة بـ”أميركا المكسيكية”، قبل أن تؤكد أن الخليج سيظل يُعرف عالمياً باسم “خليج المكسيك”. ومع ذلك، أعلن الحساب الرسمي لـ”غوغل” على منصة إكس أنه سيعتمد التسمية الجديدة في خرائط غوغل داخل الولايات المتحدة، بعد تحديثها وفقاً لنظام الأسماء الجغرافية الأميركي.
وشدّدت الإدارة الأميركية سياسات الهجرة بما في ذلك قنوات الهجرة النظامية: إذ اتخذت قراراً بوقف تطبيق «CBP One» الذي كان يسمح للمهاجرين في المكسيك بطلب موعد لدخول الولايات المتحدة عبر نقاط الدخول الحدودية الرسمية، وكانت إدارة جو بايدن قد روّجت لهذا التطبيق كوسيلة قانونية لطلب اللجوء. هذا فضلاً عن استئناف برنامج “ابق في المكسيك”، والذي يجبر طالبي اللجوء من الجنسيات المختلفة على الانتظار في المكسيك إلى حين البت في طلباتهم.
وتعد المكسيك المحطة الأخيرة للعديد من المهاجرين الذين يتجهون نحو الأراضي الأميركية. فوفقاً لتقرير الهجرة العالمي لعام 2024، يُعد ممر الهجرة بين الولايات المتحدة والمكسيك الأكبر عالمياً، حيث يُقدّر عدد المهاجرين فيه بنحو 11 مليون شخص، معظمهم من دول أميركا اللاتينية مثل المكسيك والسلفادور وغواتيمالا وهندوراس وفنزويلا وكولومبيا؛ ومن ثم شكلت سياسات ترامب صدمة للآلاف من الأشخاص على الحدود، ممن كانوا يأملون في دخول الولايات المتحدة بشكل قانوني، كما يُتوقع أن تؤدي إلى تكدس أعداد كبيرة من المهاجرين في المكسيك؛ مما قد يفاقم الأوضاع الإنسانية هناك ويزيد الضغط على الحكومة المكسيكية لإيجاد حلول بديلة.
وأصدر ترامب تعليمات بتكثيف عمليات الترحيل الفوري للمهاجرين غير الشرعيين الموجودين في الولايات المتحدة؛ وهو ما سيؤدي إلى زيادة أعداد المرحّلين إلى المكسيك. ولذلك، رفضت المكسيك طلباً من إدارة ترامب، بالسماح لطائرة عسكرية أميركية تقل مرحّلين بالهبوط في أراضيها. ولكن في المقابل، أكدت الحكومة المكسيكية ترحيبها بمواطنيها العائدين من الولايات المتحدة في أيّ وقت.
موقف رسمي حذر
استمرار إدارة ترامب في نهجها التصعيدي ضد المكسيك سيؤدي إلى تفاقم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية داخل الدولة
يتسم الموقف الرسمي للمكسيك تجاه سياسات ترامب في ولايته الجديدة بالحذر مع الدبلوماسية. فمن جهة تظهر الحكومة المكسيكية بقيادة الرئيسة كلوديا شينباوم حرصها على الدفاع عن الموقف الوطني المكسيكي في مواجهة التصعيد الأميركي، ومن جهة أخرى تحرص على الحفاظ على العلاقات الثنائية مستقرة.
وعلى سبيل المثال، عندما هاجم ترامب المكسيك قبل تنصيبه، مدعياً أن البلاد تُدار من قبل الكارتلات (عصابات المخدرات)، قوبل ذلك برفض قاطع من رئيسة المكسيك التي أكدت أن سيادتها غير قابلة للتفاوض، وأن المكسيك يحكمها شعبها، وليس عصابات.
وأعلنت القيادة المكسيكية في وقت سابق عن استعدادها لاتخاذ تدابير جمركية وغير جمركية رداً على إعلان الولايات المتحدة فرض رسوم جمركية على جميع الواردات المكسيكية، وذلك تماشياً مع إدراك القيادة بأن القرارات الأميركية المتشددة ستعود بالضرر على الدولتين خاصة وأن المكسيك من أكبر الشركاء التجاريين للولايات المتحدة.
وأعلنت شينباوم في 2 فبراير 2025 أنه “لا يُمكن معالجة المشكلات بفرض الرسوم الجمركية، بل من خلال المحادثات والحوار.”
وفي اليوم التالي، أكدت رئيسة المكسيك، بعد اتصال مع ترامب، أن بلادها مستعدة لتعزيز أمن الحدود عبر نشر 10 آلاف جندي على الحدود الشمالية، مع التزام الولايات المتحدة بوقف تهريب الأسلحة إلى أراضي المكسيك. وفي المقابل، قرّرت الولايات المتحدة تجميد الرسوم الجمركية لمدة شهر، مع التزام البلدين بمواصلة المحادثات حول قضايا الأمن والتجارة في المستقبل.
انقسامات داخلية
تنوعت ردود الفعل داخل المكسيك بين القلق من تداعيات سياسات ترامب والحذر من تأثيرها في الاقتصاد والأمن والعلاقات الثنائية، فيما دعت بعض الأصوات إلى تبني موقف أكثر حسماً وجرأة في التعامل مع الإدارة الأميركية الجديدة.
وتفاعلت المعارضة المكسيكية بطرق مختلفة مع مواقف ترامب قبيل تنصيبه وبعد وصوله إلى رئاسة الولايات المتحدة وتهديداته المباشرة لبلادها.
وأصدر حزب العمل الوطني المكسيكي اليميني المعارض بياناً في 22 يناير 2025 يعبر فيه عن موقفه الرسمي وانفتاحه للحوار مع الحزب الحاكم اليساري (حزب حركة التجديد الوطني) ومختلف الفاعلين السياسيين والمجتمع المدني من أجل حماية المواطنين.
وشدد الحزب على ضرورة أن يكون الحوار مصحوباً بمقترحات وحلول جادة للمشكلات الداخلية في المكسيك، مثل مكافحة تهريب المخدرات والأسلحة عبر الحدود ودعم المهاجرين، خاصة المرحّلين. بل ووصف منسق الحزب في مجلس النواب، خوسيه إلياس ليكسا، سياسات ترامب بأنها “فرصة” لمكافحة انعدام الأمن ومعالجة المشكلات الداخلية.
ولكن بالمقابل، هاجم عدد من نواب الحزب مثل فرناندو روشا أمارو، ونويمي بيرينيس لونا، الحكومة لعدم قيامها بأيّ تخطيط مسبق، رغم أن الحكومة كانت تمتلك أشهراً قبل تنصيب ترامب. كما أنهم لا يدعمون الاتفاق بين الرئيسة وترامب، لأنه “فرض” وليس نتيجة “التفاوض”.
وفي السياق ذاته، أعرب فيسنتي فوكس، الرئيس المكسيكي السابق، عن دعمه لقرار ترامب بفرض الرسوم الجمركية، معتبراً أن المكسيك “استحقت” ذلك بسبب فشلها في مكافحة تهريب المخدرات.
ولم يمانع الحزب الثوري المؤسساتي من الانضمام إلى دعوات الوحدة من أجل المكسيك، إلا أن المجموعة البرلمانية للحزب في مجلس النواب رفضت تهديدات ترامب بل واعتبرت أن الرسوم الجمركية تُعرّض حرية البلاد للتهديد وتتعارض مع المعاهدات الثنائية مع الولايات المتحدة.
ويرى النائب أرتورو ميدينا أن عدم الثقة الذي أظهرته الولايات المتحدة تجاه المكسيك نتيجة عدم اكتراث الحكومة بالقضايا التي تهم الناس، ومع ذلك أكد ميدينا أن الحزب سيظل دائماً مناصراً للوحدة الوطنية ومدافعاً عن السيادة الوطنية.
هناك انقسام في المكسيك بين مؤيدين لنهج رئيسة الدولة الدبلوماسي القائم على الحوار، وبين منتقدين يطالبون بتبني إجراءات أكثر صرامة
واعتبر أليخاندرو مورينو كارديناس رئيس الحزب أن الحكومة مسؤولة عن سياسات ترامب تجاه المكسيك، متهماً إياها بالسماح بزيادة الجريمة والاتجار بالمخدرات، وأكد كارديناس أن حزبه يدعم الشعب المكسيكي، لكنّه في الوقت ذاته لا يساند “حكومة غير فعالة” تتخذ قرارات تسهم في خلق حالة من عدم الثقة بين الشركاء التجاريين. كما انتقد قرار تجميد الرسوم الجمركية لمدة شهر، مؤكداً أن الشيء الوحيد الذي حصلت عليه الحكومة من هذه الصفقة هو الوقت، وفي الوقت نفسه أثار تساؤلات رئيسية حول نشر 10 آلاف جندي وما هي المناطق التي ستترك دون حماية بعد هذا القرار، ولكن شينباوم ردت أن الحرس الوطني يضم نحو 120 ألف عضو؛ ومن ثم لن تترك أيّ مناطق من دون تأمين.
وأعلن حزب العمال اليساري عن دعمه الكامل لرئيسة المكسيك في مواجهة سياسات ترامب، بل واتهم ريجينالدو ساندوال فلوريس النائب عن الحزب، الأحزاب المعارضة، بالترويج لما أطلق عليه “غزواً خفياً” من الولايات المتحدة للمكسيك؛ بهدف تحقيق مصالح ذاتية بعيدة عن احتياجات الشعب. بل ووصف موقفهما بالخيانة للوطن، زاعماً أن هدفهما هو خضوع المكسيك لمصالح الولايات المتحدة؛ مما يشكل تهديداً للسيادة المكسيكية. ودعا عموم الشعب إلى الوحدة والمقاومة، وأشاد بدور رئيسة المكسيك في الدفاع عن السيادة الوطنية.
وسيؤدي استمرار إدارة ترامب في نهجها التصعيدي ضد المكسيك إلى تفاقم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية داخل الدولة، ولاسيما مع انخفاض التحويلات المالية من المهاجرين وعدم قدرة الدولة على استيعاب المزيد من المرحّلين من الجنسيات المختلفة.
وأما داخلياً، فبالرغم من تأكيد المكسيكيين أهمية الوحدة في مواجهة سياسات ترامب؛ فإن هناك انقساماً بين مؤيدين لنهج رئيسة الدولة الدبلوماسي القائم على الحوار، وبين منتقدين يطالبون بتبني إجراءات أكثر صرامة.
وستُضعف هذه الانقسامات الأيديولوجية بين اليمين واليسار، قدرة الحكومة على تبني سياسات متماسكة؛ مما يقلل فرص نجاحها في إدارة المرحلة المقبلة؛ لذلك هناك مناشدات بأن تكون دعوات “الوحدة من أجل المكسيك ضد أيّ تدخل خارجي” حقيقية وليست مجرد شعارات، وفتح الباب أمام جميع الفئات للمشاركة في الحوار وتقديم الحلول، فقدرتهم على تجاوز الخلافات والعمل معاً خلال المهلة ستعزز موقف الدولة وقدرتها على تبني إستراتيجية فعالة لمواجهة التحديات.