كونفوشيوس يرسم طريق نجاح الصينيين

الباحثون في الثقافة الصينية يرون أن قيم وتعاليم كونفوشيوس الأخلاقية كانت سببا في تشكّل قيم الصين كدولة وتراث ثقافي واجتماعي.
الجمعة 2019/06/07
معبد كونفوشيوس مقصد الصغار والكبار

زارت صحيفة “العرب” الصين، وتعرفت على بعض من خفايا حضارتها وثقافتها وفنونها وأبطالها التاريخيين، وخاصة كونفوشيوس فيلسوف الصين ومعلم الحكمة الأول فيها وملهم أخلاق وقيم الصينيين، الذي أصبحت المنظومة الأخلاقية والاجتماعية التي أسسها على مبدأ التسامح تشكل الركن الأهم في منظومة القيم والعمل والنجاح.

بكين - في مشهد يومي مألوف في باحة معبد كونفوشيوس بالعاصمة الصينية بكين يتوافد تلاميذ المدارس الصينية في مجموعات ليضعوا الورود أمام تمثال شيخ وقور ويلتقطون الصور الجماعية، تعبيرا عن تقديرهم لواحد من أكثر الشخصيات الصينية تبجيلا واحتراما يطلق عليه الصينيون لقب المعلم الحكيم العظيم.

ويمثل المكان رمزية خاصة للزوار لا تحمل أبعادا ودلالات دينية كما هو الحال مع معبد بوذا القريب منه، حيث يقصد كونفوشيوس طلاب العلم والمولعون بتاريخ الصين القديم والحكمة الصينية التي تتجلى أبرز صورها في شخصية كونفوشيوس كمعلم وملهم للأخلاق والقيم الصينية التي لا يزال الكثير منها يحكم علاقات المجتمع الذي يغلب عليه التيار اللاديني بنسبة تتجاوز 90 في المئة تقريبا من إجمالي عدد سكان الصين البالغ مليار وأربعمئة مليون نسمة تقريبا، بينما يتوزع مئتا مليون فقط بين خمسة أديان رئيسية.

ويعتقد الكثير من الباحثين في الثقافة الصينية، أن قيم وتعاليم كونفوشيوس الأخلاقية التي يغلب عليها طابع التسامح، كانت سببا في تشكّل قيم الصين كدولة وتراث ثقافي واجتماعي، مؤكدين أن تلك المنظومة الأخلاقية والاجتماعية التي أسسها كونفوشيوس ساهمت في الحفاظ على النسيج الاجتماعي في الصين، في ظل غياب لأي عوامل دينية أو روحية أخرى وخصوصا مع تراجع الديانة الأساسية في الصين “الطاوية” التي يعدها البعض أقرب للتصور الفلسفي منها للديانة.

مزارات متعددة لحكيم واحد
مزارات متعددة لحكيم واحد

وقد اتخذ العديد من أباطرة الصين منهج كونفوشيوس الفكري كمرجع للتعليم والعلاقات بين أفراد الشعب وبين الشعب والدولة، كما تحولت معابد كونفوشيوس إلى كليات لتلقي العلوم، ويظهر هذا الامتزاج وتتكثف صورته في معبد كونفوشيوس ببكين الذي يضم كذلك الكلية الإمبراطورية التي شيدت في عهد أسرة يوان في القرن الرابع عشر للميلاد.

فعلى مساحة شاسعة تبلغ حوالي عشرين ألف متر مربع تمتد أربعة صفوف من المباني في المعبد الذي يضم تماثيل للمعلم العظيم، إضافة إلى المباني التي كانت تمثل الكلية الإمبراطورية التي يختار فيها أباطرة الصين حاشيتهم المقربة ومساعديهم، كما يضم المعبد متحفا يحتوي على مئات الألواح الحجرية التي دونت عليها أسماء الآلاف ممن اجتازوا الاختبارات بنجاح في الكلية الإمبراطورية، كما توجد ألواح أخرى تحتوي على بعض نصوص كونفوشيوس.

ويعد المعبد واحد من معالم كثيرة في الصين تحتفي بسيرة المعلم العظيم، حيث افتتحت الحكومة الصينية في نوفمبر 2018 متحفا ضخما في مسقط رأس كونفوشيوس بتشيوفو بمقاطعة شاندونغ شرقي الصين، ويضم المتحف الآلاف من القطع الأثرية التي تعود إلى عائلة كونفوشيوس التي تحول قصرها إلى مزار يقصده السياح من كل دول العالم.

التحف الأثرية توثق الحكمة الصينية
التحف الأثرية توثق الحكمة الصينية

وفي معبد كونفوشيوس الأهم في مسقط رأسه جنوب غرب مقاطعة شاندونغ وبين غابة من التلال والأجراس وأعمدة التنين والألواح الحجرية التي تحتوي على بعض كتب كونفوشيوس، يضم المعبد البناء الذي أخفى فيه كونفوشيوس كتبه الخمسة وهي، “اللي جي” الذي يشتمل على قواعد العلاقات الاجتماعية والأخلاقية وتراتبية العائلة التي أولى لها كونفوشيوس اهتماما كبيرا ونظم فيها طبيعة التعامل بين أفراد العائلة ولا يزال أثرها قائما حتى اليوم.

و”كتاب التغيرات” الذي يناقش علم ما وراء الطبيعة، وكتاب “الشي جنج”، وهو كتاب أناشيد قام كونفوشيوس بإعداده، وشرح فيه مفهومه للحياة ومبادئ الأخلاق الفاضلة.

أما رابع الكتب المنسوبة لكونفوشيوس، فهو كتاب “التشو شيو” الذي رصد فيه أهم الأحداث التي وقعت في مدينته.

ونظرا للأهمية الثقافية والقيمة التاريخية التي تتمتع بها آثار كونفوشيوس ومنها معبده وغابته وقصره، فقد أدرجت المواقع الثلاثة في قائمة التراث العالمي لليونسكو.

وعلى الرغم من مرور أكثر من ألفي عام على رحيله، إلا أن الأثر الذي تركته تعاليم وقيم الأستاذ الحكيم العظيم كونفوشيوس في الثقافة الصينية، لا تزال عميقة ويمكن تلمسها في الكثير من مناحي الحياة الاجتماعية والثقافية وحتى السياسية في الصين، كما تؤكد الدكتورة تانغ شيو مي أستاذة اللغة العربية في جامعة الدراسات الأجنبية ببكين التي تقول لـ”العرب”، إن أفعال وأقوال كونفوشيوس تشكل جزءا أصيلا من طريقة تفكير وتعامل الصينيين اليوم كما أنها تشكل الركن الأهم في منظومة القيم والعمل والنجاح.

كما يؤكد فو تشي مينغ نائب عميد كلية اللغات الأجنبية بجامعة بكين ومدير مركز دراسات الشرق الأوسط في الجامعة في حديث لـ”العرب” أن كونفوشيوس وأفكاره تؤثر على الحياة الصينية في الوقت الراهن بشكل كبير، لافتا إلى أن انتشار معابد كونفوشيوس في كل مكان يؤكد على عمق هذا التأثير الذي خلفه المعلم الأول في البر الصيني باعتباره وفقا للثقافة الصينية رمزا للحكماء والأدباء والعلماء، وتكثيف صورته كرمز علمي جعلته مهوى أفئدة لكل عشاق العلم من طلاب الجامعات الذين يداومون على الذهاب إلى معابد كونفوشيوس لاستلهام سيرته الحافلة المليئة بالحكمة والعلم والأدب والثقافة والتاريخ.

ويشير مينغ إلى أن الكثير من الصينيين اليوم يعتبرون كونفوشيوس رمزا للحكمة ويضعونه في مقام رجل مبجل ومقدس، لكنهم لا ينظرون إليه أبدا كإله كما يعتقد البعض، ولكنه يستمد مكانته الكبيرة والرفيعة من كونه رجلا حكيما وفيلسوفا له إسهامات عميقة غائرة في عمق الثقافة الصينية وله العديد من الكتب التي قدم فيها أفكارا ملهمة ساهمت في إثراء الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية في الصين القديمة وقدمت حلولا ومقترحات لإرشاد الناس في الصين وألهمتهم في الكثير من مناحي الحياة.

ويؤكد مينغ في حديثه لـ”العرب”، أن أفكار كونفوشيوس لا تزال تسيطر في الوقت الحالي على حياة الصينيين، وتنظم العلاقات الاجتماعية بينهم من قبيل طريقة التعامل بين الناس والتعامل مع كبار السن مثل الأجداد وحتى طريقة التعامل مع الأباطرة وأيضا الكبار في القرية مثل “العمدة”.

أفعال وأقوال كونفوشيوس تشكل جزءا أصيلا من طريقة تفكير وتعامل الصينيين اليوم
أفعال وأقوال كونفوشيوس تشكل جزءا أصيلا من طريقة تفكير وتعامل الصينيين اليوم

ويضيف، “كتب كونفوشيوس وحواراته وكتبه جزء أساسي في الثقافة الصينية وفي التعليم الأساسي، حيث نشجع الشباب والأطفال على قراءة هذه الكتب والتعاطي معها كالكتب المدرسية في الابتدائية والإعدادية والثانوية وحتى الآن في الكثير من الجامعات هناك تخصص علم الثقافة الصينية العريقة وهذا تخصص يتضمن دراسة لكتب كونفوشيوس وزملائه وتلاميذه، إضافة إلى أن الكثير من الصينيين يقومون بتتبع آثاره في كل مكان، ومن ذلك زيارة مسقط رأس كونفوشيوس، حيث يذهب معظم الصينيين لرؤية مقابر أفراد أسرة كونفوشيوس والاطلاع على الأماكن التي زارها ومعرفة الكثير من تفاصيل حياته، إضافة إلى اقتناء بعض الهدايا التذكارية”.

وفي حديثه لـ”العرب” عن تأثير كونفوشيوس في الثقافة الصينية اليوم، يشير نائب عميد كلية اللغات الأجنبية بجامعة بكين، إلى أن الصينيين، حتى وإن لم يتحدث الكثير منهم بشكل مباشر عن كونفوشيوس وتأثيره، إلا أن أفكار هذا الحكيم باتت جزءا أصيلا من التكوين النفسي والثقافي والاجتماعي للصينيين بمختلف أعراقهم وانتماءاتهم، حيث تسربت أفكاره إلى داخل منظومة الحياة اليومية للصينيين. مضيفا، “دائما إذا أراد الصينيون التحدث مع الأصدقاء سينقلون بعض الكلام والاقتباسات عن كونفوشيوس، فمثلا إذا كان هناك صديق قادم من بعيد مثلا، سيقول الصينيون: ألن تكون مسرورا إذا جاء صديقك من مكان بعيد؟ على سبيل المثال، كما أن الأثر الكونفشيوسي امتد إلى سياسة السلطة في الصين والتي تأثرت بشكل لافت بأفكار المعلم الحكيم العظيم”.

واعترافا بدور هذا الحكيم الصيني، فقد اختارته الحكومة كواجهة لأهم مؤسساتها الثقافية التي تهدف إلى نشر الثقافة الصينية وردم الهوة بين الصين والعالم والمتمثلة في معاهد كونفوشيوس الذي افتتحت الصين العشرات منها حول العالم لتعليم اللغة الصينية ونشر الثقافة الصينية والتبادل الثقافي.

ويعد المعهد امتدادا لجامعة تحتمل ذات اسم الحكيم الصيني، ولديها فروع في عدد من دول العالم.

20