كلام الحيطان

يعتبرونها مظهرا فوضويا غير حضاري، وهي كذلك في واقع الأمر وحقيقته، فالكتابة على الجدران سلوك فيه انفعالات غير مسَيطر عليها، لا تمتّ إلى الوعي والثقافة الاجتماعية إلا بمقدار ما تشير إليها.
فمثل هذه الكتابات لا تنتشر في المجتمعات المتحضرة، فالحياة هناك عملية منتجة وقائمة على قدم وساق لا وقت للمتطفلين عليها لتشويه معالمها اليومية، غير أن الأمر يختلف في عالَم آخر، عربي أو إسلامي أو شرق أوسطي أو ثالث أو متخلف أو هجين، حيث تنشط هذه الظاهرة غير المحبّذة جمالياً بطريقة تكاد تكون مقرفة، حينما يصبح الأمر لافتا ومتكررا ودائميا في تشويه المعالم العمرانية بالطباشير وعلب البخّاخ والزيوت الملوّنة والرماد الرطب والأصباغ.
هذا جانب أخلاقي ينبغي التنويه به مقدما؛ لكن لنفحصه من أكثر من جانب ونقف عند أسبابه ومعطياته في المعالجات النفسية والاجتماعية والسياسية والأدبية والثقافية بشكل عام، فمثل هذه الكتابات ليست عفوية تماما والسلوك الذي يشفُّ عنها سلوك ربما هو غير واعٍ في بعثرة فكرية ونفسية.
لكنه -في كثير من الأحيان- سلوك له هدف يبتغي الوصول إليه بأيسر وأقصر الطرق لا سيما في البلدان التي تفتقد حرية التعبير السياسي، أو تلك التي تعدّ السلوك العاطفي جريمة اجتماعية.
لذلك نشأت هذه الثقافة “الجدارية” من شقيها السياسي والاجتماعي، بطريقة سرية أو علنية حسب الظرف والمعطى المتوخى من الكتابة. ولو أن هذه الثقافة تفرّعت عنها سلوكيات أخرى في الطرافة والنكتة التي دخلت حيّز السياسة مباشرة، واصفة وناقدة ومستهزئة إلى حدّ كبير لا سيما حينما ترافقها رسمات بدائية تشير إلى شخص السياسي بطريقة بسيطة فيها ألغام كبيرة من النقد وسوء الحال الموروثة.
الجدران مرايا وصحف وأرواح وانعكاسات تتحرك تحت وطأة الحروف وانفعالاتها، ويمكن عدُّها مختبرات مباشرة لِما يجول في أروقة المجتمع وزواياه لتكشف الكثير من انفعالاته الاجتماعية والسياسية، وبالتالي هي سرود مختصرة كتبتها نفوس محاصَرة وناقمة على الوصف السياسي أو متذمرة من وضع اجتماعي معيّن.
لذلك نجدها معلّبة ومتقشفة وسريعة وخاطفة وربما مشوشة، لا تحفل بقواعد اللغة ولا بهيأة الخط واستقامته، ومع ذلك المَيْل العفوي وانحناءاته ستجد فيها إشارة صارخة على ظلم سياسي أو ظلم اجتماعي ناقم وناقد يشير إلى المدى الذي وصلته.
هذه الملخصات المبتسرة التي تشوّه معالم المدن في كثير من الأحيان لها فاعلية تحريضية متباينة، مثلما لها إشارات ثقافية حريّة بالانتباه من قبل الأدباء الذين يهمهم التقاط الأقباس الصغيرة من نيران سفلية غير ظاهرة.
فكتابات الجدران سرود متقشفة جدا وجُمَل ضلت طريقها عن الكتاب وانتشرت على الجدران؛ وهي جُمل يشوبها الارتباك والتسريع، لكنها ملخصات قوية مضغوطة إلى الحد الممكن لتكون موجِّهات لمّاحة، وبالتالي هي انفعالات كتابة آنية وشعاراتية وخُطاطات فوضوية غير مبرمجة، لكنها تصلح أن تكوّن معاني سردية حينما يُلتقط الجوهر الذي تنوّه به.
تذكرنا هذه الخُطاطات الحائطية بمقولة كلود سيمون “على الروائي أن يعرف ماذا في صندوق القمامة”. فالمعنى أو المعاني المختفية وراء الأشياء المهملة هي ما على السارد أن يبحث عنها ويلتقطها ويجلو عنها تراكمات كثيرة ليبرّز الجوهر الكامن فيها، وبالتالي يمكن مقارَبة هذه المقولة الثمينة بما نلتقطه من الجدران من إشارات وومضات وجُمل متقطعة بلغة غير قواعدية لنضعها في جوهر السرد القصير أو الطويل واعتمادها كمادة أوليّة في صياغات سردية تنزع عنها قشور الحائط وتتمظهر كحياة لها قابلية البقاء في معانيها خرجت من معانيها الأولية المتقشفة إلى المعاني الأكبر.. والأكثر بقاءً في دورات الحياة.