كردستان العراق بوابة الوساطة نحو سلام إقليمي شامل

تشكل عملية السلام الجارية بين تركيا وحزب العمال الكردستاني تحولا مفصليا قد يُحدث تأثيرا مباشرا في إقليم كردستان العراق. ومع إعلان الحزب حل نفسه، تبرز فرصة حقيقية أمام الأحزاب الكردية العراقية، لتعزيز الاستقرار، وإنهاء الوجود المسلح داخل الإقليم، والمساهمة في إعادة تشكيل المشهد الأمني والاقتصادي على أسس أكثر استدامة.
أربيل (كردستان العراق) - تشكل التطورات الأخيرة في عملية السلام بين حزب العمال الكردستاني وتركيا فرصة مهمة أمام الأحزاب الكردية العراقية لتعزيز الاستقرار في إقليم كردستان العراق الذي أنهكته الصراعات، وتمهد الطريق لإرساء سلام دائم.
وفي تطور لافت أعلنت قيادة حزب العمال الكردستاني في 12 مايو أن الجماعة ستقوم بحل نفسها، ما قد يمثل نهاية لصراعها المستمر منذ أربعة عقود مع تركيا، وذلك بعد انطلاق عملية سلام بين زعيمها المسجون عبدالله أوجلان والدولة التركية في أكتوبر.
ومع ذلك، فإن الكثير من هذا الصراع لم يحدث داخل تركيا، بل في العراق أيضا -وتحديدا في إقليم كردستان العراق- حيث تخوض تركيا مواجهات مع حزب العمال الكردستاني منذ ثمانينات القرن الماضي، في صراع هدد حياة المدنيين وأدى إلى نزوح داخلي وألحق أضرارا بالاقتصاد المحلي.
ونظرا للدور المزعزع للاستقرار الذي يلعبه هذا الصراع في المنطقة، أبدى الحزب الديمقراطي الكردستاني حرصه على نجاح عملية السلام في تركيا، لأنها قد تُزيل ما يعتبره تجاوزا من قبل حزب العمال الكردستاني على أراضي كردستان العراق.
الدعم الشعبي
أعرب الحزب الديمقراطي الكردستاني مرة أخرى عن دعمه لعملية السلام علنا ورحب بدعوة أوجلان في 27 فبراير حزب العمال الكردستاني إلى نزع سلاحه، وأعرب عن استعداد حكومة إقليم كردستان للمساهمة ولعب دور في دفع عملية السلام في تركيا، بما في ذلك عقد اجتماعات مع مسؤولين أتراك ودعوة رئيس الوزراء التركي السابق أحمد داود أوغلو، أحد مهندسي عملية السلام السابقة، إلى منتدى أعضاء البرلمان الأوروبي في نوفمبر.
وقد زارت وفود حزب المساواة والديمقراطية الموالي للأكراد إقليم كردستان ثلاث مرات حتى الآن لنقل رسائل من أوجلان.
من شأن إنهاء الصراع بين تركيا وحزب العمال الكردستاني في تركيا سلميا أن يكون له أثر إيجابي عبر الحدود في كردستان العراق وما وراءها
وأشار رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود بارزاني ضمن تصريحاته في 15 مايو إلى الفرص الاستثنائية التي تتيحها الجولة الحالية، قائلاً “ندعم هذه العملية بكل إمكانياتنا، ونحن مستعدون للقيام بكل ما يُطلب منا. ما يحدث الآن يختلف بالفعل عن كل ما شهدناه في السنوات الماضية.” وهذه المرة تُجمع مختلف الأطراف في تركيا، من السلطة والمعارضة، على ضرورة تسوية هذه القضية.
وشملت جهود الحزب الديمقراطي الكردستاني لإشراك جميع الأطراف المعنية في العملية، لاسيما من الجانب الكردي، عقد اجتماعات مع ممثلين عن الأكراد السوريين؛ ففي 16 يناير التقى رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود بارزاني بقائد قوات سوريا الديمقراطية (قسد) الجنرال مظلوم عبدي في أربيل، وهو لقاء ما كان ليتم لولا محادثات السلام الجارية في تركيا، وأثار فيه بارزاني مطالبة تركيا بطرد حزب العمال الكردستاني من سوريا. كما أرسل رئيس إقليم كردستان نيجيرفان بارزاني ورئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود بارزاني ممثلين عنهما إلى احتفالات نوروز الكردية في مدينة ديار بكر ذات الأغلبية الكردية بجنوب شرق تركيا في 21 مارس، في بادرة دعم للعملية.
ويقول الباحث فلاديمير فان ويلجنبرغ، في تقرير نشره معهد واشنطن، إن من المحتمل أن يكون الرئيس نيجيرفان بارزاني قد لعب دورا في تسهيل عقد الاجتماع الذي جرى في 10 أبريل بين حزب المساواة وديمقراطية الشعوب والرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
ومن شأن إنهاء الصراع بين تركيا وحزب العمال الكردستاني في تركيا سلميا أن يكون له أثر إيجابي عبر الحدود في كردستان العراق وما وراءها، فإنهاء الصراع المسلح سيسهم في إرساء الاستقرار الإقليمي، ويعزز الاقتصادات الإقليمية، ويدعم أهداف سياسة إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الرامية إلى إحلال السلام وإنهاء الحروب الأبدية المحلية.
وفود حزب المساواة والديمقراطية الموالي للأكراد زارت إقليم كردستان ثلاث مرات حتى الآن لنقل رسائل من أوجلان
ومن ثم يأمل مسؤولو الحزب الديمقراطي الكردستاني في أن يؤدي انسحاب كل من حزب العمال الكردستاني والجيش التركي من إقليم كردستان إلى المزيد من الاستقرار في هذه المناطق الحدودية وإزالة نقطة التوتر بين تركيا والعراق.
وإذا تم طرد حزب العمال الكردستاني من مناطق في دهوك، فقد يساعد ذلك في نهاية المطاف على إنعاش الاقتصاد المحلي والسياحة الداخلية في هذه المناطق الحدودية، التي تزخر بالأنهار الجبلية الباردة.
وقد تم إجلاء أكثر من 400 قرية في محافظة دهوك بسبب الصراع. وجذبت مناطق في محافظة دهوك السياح من أجزاء أخرى من العراق خلال أشهر الصيف الحارة، مثل جيلي شيران بالقرب من أميدي، على الرغم من الصراع النشط بين حزب العمال الكردستاني وتركيا في المنطقة.
ومنذ عام 2019 وسعت تركيا أيضا قواعدها ومواقعها العسكرية التي يزيد عددها على 200 موقع (تقع في الغالب قرب مناطق نفوذ الحزب الديمقراطي الكردستاني في إقليم كردستان) وزادت غاراتها الجوية باستخدام الطائرات دون طيار.
وعندما ينسحب حزب العمال الكردستاني من هذه المناطق، فإن التنسيق بين الحزب الديمقراطي الكردستاني وتركيا، وكذلك بين بغداد وتركيا، لتسليم هذه القواعد إلى قوات البيشمركة أو قوات حرس الحدود العراقية، سيسهم في إزالة نقطة خلاف في العلاقات التركية – العراقية.
وفي السابق دعت بغداد إلى إخراج كل من الجيش التركي وحزب العمال الكردستاني من الأراضي العراقية، ووعدت تركيا بتسليم قاعدة بعشيقة في نينوى إلى العراق العام الماضي. وقد يساعد انتفاء الحاجة العملياتية من جانب تركيا على تسريع هذه العملية.
إعادة الإدماج
مع ذلك، فإن السؤال الأهم هو كيف سيتم تسريح حوالي 5000 مقاتل مسلح من حزب العمال الكردستاني في كردستان العراق، حيث لا يزال من غير الواضح إلى أين سيتجه قادة ومقاتلو الحزب في المستقبل إذا تم نزع سلاحهم.
وقال أحد مسؤولي الحزب الديمقراطي الكردستاني “إذا بقي جميع هؤلاء المقاتلين في كردستان، أو سلموا أنفسهم، أو ذهبوا إلى أوروبا، فهذا أمر لا أعرفه.”
وفي هذه الحالة يمكن لكل من الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني، الحزب الآخر المهيمن في إقليم كردستان العراق، أن يلعبا دورا في استضافة كوادر حزب العمال الكردستاني السابقة التي تم تسريحها في المناطق التي يسيطران عليها، لاسيما أن هذه الكوادر غالبا ما لا تملك وثائق قانونية تتيح لها السفر إلى الخارج.
كما يمكن أن يلعب الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني دورا في عملية نزع السلاح، من خلال نقل الأسلحة الثقيلة التي بحوزة حزب العمال الكردستاني إلى قوات البيشمركة التابعة لهما. وقد أشارت وسائل الإعلام التركية بالفعل إلى أن نزع سلاح حزب العمال الكردستاني يمكن أن يتم تحت إشراف مشترك من حكومة إقليم كردستان وتركيا.
إذا تم طرد حزب العمال الكردستاني من مناطق في دهوك، فقد يساعد ذلك في نهاية المطاف على إنعاش الاقتصاد المحلي والسياحة الداخلية في المناطق الحدودية
وتتمتع هذه الأحزاب ببعض الخبرة في إدارة عمليات نزع سلاح الجهات الفاعلة غير الحكومية في أراضيها، كما هو الحال مع الأحزاب الكردية الإيرانية التي فرت من إيران بعد الثورة الإسلامية في عام 1979 إلى إقليم كردستان العراق، وسلمت أسلحتها إلى البيشمركة بموجب اتفاقية الأمن الإيرانية – العراقية الموقعة في مارس 2023.
ويمكن اتباع نموذج مماثل مع حزب العمال الكردستاني من خلال إخراج عناصره من المناطق الحدودية والجبال وتوطينهم كمدنيين في مخيمات مؤقتة، مع استبدالهم بأفراد من قوات البيشمركة الكردية التابعة لحرس الحدود العراقي.
وفي ما يتعلق بالمكان النهائي لإقامة هؤلاء المقاتلين السابقين، يمكن للاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني منحهم بطاقات إقامة تتيح لهم الاندماج في المجتمع المحلي والعثور على فرص عمل في الاقتصاد المحلي.
وقد يتمكن مقاتلو حزب العمال الكردستاني السابقون أيضا من لعب دور في معالجة بعض التحديات التي سيخلفها هذا الصراع في المنطقة. فقد أدت الحرب بين تركيا وحزب العمال الكردستاني إلى تشكيل حقول ألغام تقدر مساحتها بـ96 ميلا مربعا في كردستان العراق، غالبا على بعد بضع مئات من الأمتار من القرى. ويمكن أيضا توظيف مقاتلي حزب العمال الكردستاني السابقين للمساهمة في جهود إزالة الألغام.
ويأمل الحزب الديمقراطي الكردستاني أيضا في أن تسهل عملية السلام تنفيذ اتفاق سنجار لعام 2020، المدعوم من الأمم المتحدة والذي تدعمه أيضاً الولايات المتحدة، لتطبيع الوضع في سنجار وإبعاد الجماعات المرتبطة بـحزب العمال الكردستاني، أو دمج المقاتلين الأفراد في الشرطة المحلية.
السؤال الأهم هو كيف سيتم تسريح حوالي 5000 مقاتل مسلح من حزب العمال الكردستاني في كردستان العراق
وقد وفّر وجود حزب العمال الكردستاني وتحالفه مع جماعات مرتبطة بـقوات الحشد الشعبي المدعومة من إيران في سنجار مدخلا إضافيا لإيران إلى العراق، وأسهم في توتر العلاقات بين العراق وتركيا. كما اتهمت تركيا إيران في السابق بدعم حزب العمال الكردستاني.
وقد نشطت “وحدات مقاومة سنجار”، التي يعتقد أنها تابعة لـحزب العمال الكردستاني، في سنجار منذ عام 2014 خلال القتال ضد تنظيم داعش ودافعت عن الطائفة اليزيدية هناك. وقامت تركيا بشكل منتظم باستهداف وقتل عدد من قادتها البارزين. ويمكن أن تسهم عملية سلام ناجحة في تهيئة الظروف لتنفيذ اتفاق سنجار، الذي يسعى إلى وضع إطار إداري واضح لهذه المنطقة المتنازع عليها بين أربيل وبغداد.
وتوفر عملية السلام الجارية في تركيا فرصة لترسيخ قدر أكبر من الاستقرار، ليس في تركيا فحسب، بل أيضا في إقليم كردستان العراق، الذي تحمّل العبء الأكبر من القتال بين حزب العمال الكردستاني وتركيا منذ عام 2019.
ويمكن أن تفتح هذه العملية الباب أمام حلول لسلسلة من القضايا هناك، بما في ذلك ملف اللاجئين الأكراد الفارين من تركيا والعالقين في مخيم مخمور، الذي يشكّل نقطة توتر مزمنة بين العراق وتركيا، إضافة إلى تنفيذ اتفاق سنجار. كما يمكن للأحزاب الكردية في العراق أن تضطلع بدور رئيسي في تسهيل عملية نزع سلاح مقاتلي حزب العمال الكردستاني، والمساعدة في إعادة دمجهم من خلال منحهم بطاقات هوية وإتاحة فرص الوصول إلى سوق العمل المحلي.
وتدعم الأحزاب الكردية العراقية هذه المحادثات لأنها ترى في عملية السلام فرصة لإنعاش الاقتصاد المحلي وتنشيط السياحة، وإنهاء سيطرة حزب العمال الكردستاني على أراضٍ في كردستان العراق. ويمكن تعزيز هذا الزخم من خلال دعم وتشجيع الجهات المعنية الأخرى، بمن في ذلك الفاعلون الدوليون مثل بعثة الأمم المتحدة في العراق، لضمان توفير البنية التحتية اللازمة في كردستان العراق، ووضع نهاية دائمة لهذا الصراع الذي امتد لعقود.