كردستان العراق.. الوطن حين يتبدّى مرتعا للاستبداد

الكوارث الطبيعية تكشف هشاشة النخب الحاكمة.
الاثنين 2022/01/03
هذا ما جناه السياسيون على البلد

تأتي الكوارث البيئية لتكشف مدى هشاشة البنية التحتية لبعض الدول، لكنها في حال كردستان العراق كشفت أيضا فساد الطبقة الحاكمة التي وإن تغيرت من عربية إلى كردية لم تستطع النهوض بالبلاد، لا بل سلّط ذلك الضوء على الفساد في الكثير من القطاعات الأخرى التي تبدو عاجزة حتى الآن عن تمثيل الوطن الذي حلم به أجيال من الأكراد وضحوا بحياتهم من أجل إقامته.

كشفت الفيضانات الأخيرة التي اجتاحت عدة مناطق في إقليم كردستان العراق، ومنها العاصمة أربيل، عن هشاشة البنى التحتية في الإقليم الفيدرالي شبه المستقل. هذه الهشاشة بدورها سلّطت الضوء مرة أخرى على طبيعة وأداء وماهية الطبقة الحاكمة.

وقد جرفت السيول جثث الضحايا ومنازلهم ومقتنياتهم التي امتلكوها خلال سنوات وعقود من الضنك والحرمان والتوفير على حساب الأساسيات. لكنها في الوقت عينه أماطت اللثام عن طبيعة وأداء وماهية النخب الحاكمة في الإقليم، بالإضافة إلى أنها أزاحت القناع للمرة الألف، ودون جدوى، عن سوء الإدارة وملفات الفساد المالي والإداري القديمة – الجديدة المرتبطة ارتباطا وثيقاً بالحكام من الحزبين الحاكمين في أربيل والسليمانية، أو بالأحرى بالعائلتين الحاكمتين وحواشيهما.

وغالبا ما تعكس طبيعة وأداء البنى التحتية في أيّ دولة طبيعة وأداء وماهية النخب الحاكمة في تلك الدولة والعكس صحيح. فإذا كانت البنى التحتية نموذجية ومشيدة وفق متطلبات ومقتضيات العصر فإن ذلك يعكس صلاح وصلاحية وعصرنة النخب الحاكمة. في المقابل إذا كانت البنى التحتية هشة وقديمة ومتهالكة فإن ذلك أيضاً يوضح فساد وعدم صلاحية وتهالك النخب الحاكمة.

القوة العسكرية للحزبين أصبحت المدماك الأول في بناء النظام السياسي الهش في كردستان

عندما كنت في مقتبل العمر، وعلى غرار الكثيرين من الواهمين، كان يساورني اعتقاد دائم مفاده أنه إذا تسنت للأكراد في يوم من الأيام الفرصة لحكم أنفسهم بأنفسهم فإنهم سيقدمون، دون ريب، نموذجاً ساطعاً للحكم، ليس فقط أفضل من الجوار وإنما نموذج يستحق الإشادة والاحتذاء به. وما إن سنحت تلك الفرصة وباتت أمراً واقعاً منذ 1991 و2003 في كردستان العراق ومنذ 2014 في كردستان سوريا، حتى تبين العكس. تبخر اعتقادي وتبدد إحساسي وانهار حلمي وبدا لي كم كنت واهماً وعاطفياً وساذجا.

لم يقدم الأكراد نموذجاً للحكم أفضل بكثير من الجوار أو من المركز بغداد كما يطيب للمستفيدين والمريدين ترديد ذلك. معظم ما تغير هو الهوية القومية للحاكم المستبد والفاسد. الحاكم السابق كان عربياً والراهن هو كردي. لكن الجوهر لم يختلف كثيرا. الظلم والقمع والترهيب والفساد والنهب والسلب وتهريب الأموال وتكديسها في بنوك الخارج واقتناء العقارات الفاخرة في الغرب وفق عديد التقارير والدراسات على حساب إفقار الشعب أصبح جل ما يصبو إليه الحكام في أربيل والسليمانية.

وكأن أبناء وأحفاد المؤسسين والمناضلين القدامى الذين أشعلوا جذوة النضال والثورات في كردستان يقومون الآن عملياً بصرف فواتير نضال آبائهم وأجدادهم ويتقاضون لقاء تلك الأتعاب والجهود مليارات الدولارات والقصور في الداخل والخارج، بينما لا يجد أغلب الشعب ما يحقق به النزر اليسير من أحلامه ما قبل البدائية. مع العلم أن الأغلبية الساحقة من الذين ضحوا بحياتهم في الماضي والحاضر في سبيل كردستان لم تكن من العائلتين الحاكمتين، وإنما من مختلف فئات وطبقات الشعب، ولاسيما الفقراء والمسحوقين.

هوية الحاكم التي تبدلت من عربية إلى كردية والعلم الكردستاني الذي رفرف بحرية فوق سماء كردستان الغنية – الفقيرة منذ 1991 و2003، أرضيَا النوازع المادية للحكام والمتنفذين والمستفيدين من الحزبين والعائلتين، وكذلك النوازع العاطفية للأتباع والمريدين، وهم يشكلون الأقلية في كردستان.

لكن ذلك لم يحقق الجزء اليسير من الأحلام والطموحات البسيطة التي لطالما راودت مخيلة الشباب المحبطين في كردستان، وهم يشكلون الأغلبية الساحقة، حتى ضاق بهم وطنهم الذي استشهد في سبيله آباؤهم وأجدادهم، وزُجَّ بهم في قوارب الموت علّ وعسى أن تطأ أقدامهم أوطاناً جديدة تُحترم فيها آدميتهم ويعثروا على ما لم يستطيعوا العثور عليه في وطنهم الأم ومن قبل حكامهم الأكراد. لكن القدر خانهم وغرقوا في مياه البحار والمحيطات التي ركبوها أملاً في الوصول إلى وجهتهم، ومن ثم عادوا إلى وطنهم المنهك، لكن هذه المرة جثثاً هامدة.

◄ حلم كردستان تحول إلى بؤرة يرتع فيها المستبدون من الأكراد أنفسهم، وكان خيارهم الوحيد محصورا في المستبد الفاسد

ومنذ 1991 و2003 تقاسم الحزبان -أو بالأحرى الأسرتان والعشيرتان- الكعكة ولم يقدما عمليا شيئا يمكن الافتخار به سوى تشييد بعض الأبراج ومراكز التسوق والمجمعات السكنية الحديثة التي تعود ملكيتها إلى حيتان الحكم والفساد في الداخل وشركائهم في الخارج. كل شركة نفط وغاز وعقار أجنبية لم تفلح في إبرام أي عقد استثمار في كردستان إلا بعد أن منحت حصة للحكام المُلاك.

وأصبحت المحاصصة الحزبية والمناطقية على أساس القوة العسكرية للحزبين المدماك الأول في بناء النظام السياسي الهش. فلا يوجد نظام صحي أو تعليمي أو قضائي بالمعنى العصري للكلمة يمكن الإشادة به والاتكال عليه في الشدائد. ولا يوجد شيء اسمه مؤسسات “الدولة”، وكل ما هو موجود هو “دولة” الحزبين والعشيرتين والعائلتين. حتى هذه اللحظة لا يوجد جيش واحد موحد للإقليم. هناك بيشمركة الحزب الديمقراطي الكردستاني (حدك) أو بيشمركة برزاني مقابل بيشمركة الاتحاد الوطني الكردستاني (أوك) أو بيشمركة طالباني. بيشمركة أو أسايش حدك ليس لهم وجود ونفوذ ودور في مناطق أوك والعكس صحيح.

أصبحت أربيل تابعة اقتصاديا لتركيا، والسليمانية لإيران. والتبعية الاقتصادية تؤدي تدريجيا إلى التبعية السياسية. كل شيء أصبح يستورد من تركيا وإيران؛ المياه المعبأة والألبان وحليب الأطفال والأجبان والألبسة ومواد البناء والحديد… إلخ. إذا أغلقت أنقرة وطهران المعابر الحدودية مع الإقليم سيتضور الناس جوعا وسيختنق الإقليم ولن يجد متنفسا آخر. كل حزب من الحزبين الحاكمين وضع جميع بيضه إما في سلة أنقرة أو في سلة طهران. كل حزب فعل ويفعل ذلك نكاية بالآخر ولتكريس حكمه.

أصبح كل معارض وممتعض ومحتج ضد سياسات حكام الإقليم حدك خائنا وعميلا. كل من ينتقد ويهاجم ويفضح فساد وظلم القادة من الحزبين أو العائلتين يعتبر مخرباً ومندساً بمن فيهم كاتب هذه الكلمات. تم اختزال الوطنية وتعريفها وتأطيرها حسب الولاء الأعمى للأسرتين الحاكمتين. على هذا الأساس يصنف الكردي في كردستان العراق إما أنه برزاني أو طالباني. الأول بالنسبة إلى الثاني رجعي وعميل، والثاني بالنسبة إلى الأول خائن وعميل. ليست هناك مرجعية كردستانية. صكوك منح الوطنية، على غرار صكوك الغفران الباباوية القروسطية في أوروبا، أصبحت حكرا عليهما.

احتكر الحزبان وسائل الإعلام والثقافة والفكر وخصصا مبالغ طائلة للأبواق في سبيل الترويج وإقناع الرعية بأن الحزبين -أو الأسرتين- يجسدان الوطن والشعب والقضية والأمل. وكل مستاء وناقد ومعارض ما هو إلا خائن وعميل ومأجور ومخرب، تماما على غرار دعاية البعث في بغداد ودمشق وعلى غرار بروباغندا كافة المستبدين والفاسدين في أصقاع المعمورة.

بنى تحتية هشة وقديمة ومتهالكة

ودفع الأكراد في إقليم كردستان العراق، منذ العهد الملكي إلى الآن، أثماناً باهظة خلال مسيرة نضالهم من أجل البقاء وإحقاق الحقوق. لذلك كانوا يعتقدون أنهم يستحقون الأفضل، خاصة منذ 1991 و2003 عندما بدأوا يحكمون أنفسهم بأنفسهم. لكن طموحات وتوقعات وآمال أغلبهم خابت وارتطمت بمعطيات الواقع المريرة المتمثلة في سوء الإدارة ومافيات الفساد والنهب المنظم المالكة لأبناء جلدتهم من الحزبين الحاكمين أو من الأسرتين الحاكمتين.

وحتى أكراد سوريا لم يسلموا من عين العقلية التسلطية والإدارة الفاسدة التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي المرتبط بحزب العمال الكردستاني. وتعرض المعارضون للإقصاء والتهميش والعقاب. كما يوجد أكثر من مليون كردي نازح خارجيا وداخليا، وأغلبهم من المناطق الواقعة تحت سيطرة الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا التي يقودها الأكراد.

فالفساد المالي والإداري مستشر في مفاصل ومؤسسات الإدارة الذاتية. ووفق العديد من الروايات والتقارير فإنه قد تمت سرقة وتهريب ملايين الدولارات من مناطق الإدارة إلى خارجها من قبل ما يسمون بـ”الكادرو” القادمين من جبال قنديل. والخدمات الأساسية والعامة التي تقدمها الإدارة لمواطنيها تكاد تكون بدائية ومحدودة للغاية بالمقارنة مع مداخيل الإدارة.

كل حزب من الحزبين الحاكمين وضع جميع بيضه إما في سلة أنقرة أو في سلة طهران، نكاية بالآخر ولتكريس حكمه

ومع الأسف، لم يكن الأكراد في كردستان العراق وسوريا في مستوى الفرص التاريخية التي سنحت لهم في 1991 و2003 و2014. يبدو أن ما قاله الشاعر الفلسطيني محمود درويش ذات مرة بأنه “ليس للكردي إلا الريح تسكنه ويسكنها” مازال ساري المفعول.

وتحولت كردستان، حلم الحرية والاستقلال، إلى بؤرة يرتع ويمرح فيها الفاسدون والمستبدون، وهذه المرة من الأكراد أنفسهم. حتى المستبد العادل والمستبد الحكيم لم يقدر الأكراد على الإتيان به بعد عقود من العذابات والويلات، وكان خيارهم الوحيد محصورا فقط في المستبد الفاسد وغير العادل وغير الحكيم. وكما يُقال “كل إناء بما فيه ينضح”، ويبدو أن هذا هو مستوى الأكراد في السياسة والإدارة على الأقل في المرحلة الراهنة وعلى المدى المستقبلي المنظور. ومع ذلك تبقى الآمال معقودة على الأجيال اللاحقة بعد التخلص شيئا فشيئا من الإرث الماضوي المرضي المتوارث والمتراكم والمتكدس. إلى ذلك الحين تصبحون على وطن أيها الشعب الكردي المسكين.

7