كرة القدم تتقاطع مع الفلسفة والأدب

من خلال سلسلة من الحوارات التي أنجزها الكاتب والصحافي السوري بسام جميدة مع عدد من الكتاب أراد تحديد موقع اللعبة وبالتحديد كرة القدم في عالم الأدب وتمثلات شخصيات رياضية في المدونة الثقافية. وكان الكاتب العراقي كه يلان محمد واحدا ممن حاورهم.
لا يزال مفهوم اللعبة مثيرا للجدل، فإنّ الجماهيرية التي تحظى بها الألعاب لاسيما لعبة كرة القدم لا تبدو مقنعة بالنسبة إلى العديد من الأدباء والأسماء البارزة في المسرح الإبداعي والفكري، علما أنّ اللعبة تحفل بالمتعة والفنيات وهنا تتاقطع مع النصوص الأدبية لأنّ ما يتطلع إليه الأديب هو التشكيل الفني النابض بالحيوية والتشويق.
لا شك أنّ الآراء المنسوبة إلى بعض القامات الأدبية عن الساحرة المستديرة بأنها أفيون الشعوب أو الإلهاء الكبير صرفت الأنظار عن النصف الآخر من الصورة، وبالتالي قد غاب عن الأغلبية بأن الشغف الكروي جزء من شخصية كبار الأدباء والفلاسفة فاعترف ألبير كامو بأنّه يدين لكرة القدم بتعلمه لدرس الأخلاق وعندما سئل صاحب “العادلون” أيهما يفضل المسرح أو كرة القدم؟ وقع اختياره على ما يكون المستطيل الأخضر ميدانه بدون تردد.
ومن جانبه وظف سارتر كرة القدم مثالا لتوضيح مبادئ الفلسفة الظاهراتية وقدم الفيلسوف الهولندي يوهان يوزنجا مفهوم “الإنسان اللاعب” إلى جانب “الإنسان العاقل” ويعلن حكيم القرن إدغار موران أنّه يحب كل الاحتفالات الجماعية التي ترافق كرة القدم وكانت كرة القدم ضمن برنامج نجيب محفوظ وأجندة أيامه وهو طالب في الثانوية. وما كتبه محمود درويش احتفاء بظاهرة مارادونا يوازي قصائده قيمة وإبداعا. إذن هذه المعطيات كلها تؤكد أنّ الحس الفني يرحب ويثمن الإبداع أيا كانت تمظهراته سواء في الموسيقى أو النص أو الرقص أو مراوغات وتمريرات اللاعب. ويشارك الكاتب العراقي كه يلان محمد في حلقات الحوار غير التقليدي حول عالمي الأدب وكرة القدم.
حول مفهومه للرياضة وكرة القدم بالخصوص كعامل مؤثر في المجتمع، يقول كه يلان محمد “الحالة الأمثل للتوازن في شخصية الإنسان تتحقق عندما يكون هناك تناغم بين الحركة الداخلية والخارجية في الجسد، لذلك يقول نيتشه إن الأفكار التي لا تأتيك أثناء المشي ليست جديرة بالاهتمام، مشيرا إلى أن إعمال الجسد وحركته من شروط التفكير الحر”.
ويضيف أن “من المعلوم أنّ سقراط كان يجوب في شوارع أثينا متفلسفا لأنّ التريض هو قابلة للأفكار. لا تقتصر فوائد الرياضة على الصحة الجسدية بل تكسبك مناعة نفسية وتقيك من الشعور بالملل والضجر. لذلك فإنّ الشعوب التي تسطر الملاحم الرياضية وتضيف مآثر في هذا المضمار إلى سجلها الحضاري، تنخرط في الحياة صانعة الفرح ومتذوقة فرصتها الوجودية حتى النخاع فيما ترسف المجتمعات الخاملة في الخيبات وليس لها الاختيار، ومع ذلك تنساق وراء وهم الانتصار مقايضة ما تجود به الإرادة الحيوية من لحظات السعادة بالوهم”.
كرة القدم والفلسفة
نسأله هل يعتقد أن كرة القدم يمكن أن تكون واجهة لترويج الثقافة ليجيب محمد “الرياضة لم تعد فرعا ثانويا في لائحة اهتمامات المجتمع بل هي تؤشر إلى مستوى التقدم الحضاري كما تعبر عن هوية وتركيبة التجمعات البشرية. ومن الملاحظ أن الحديث لا ينحصر عن مجريات اللعبة وما يقدمه هذا اللاعب وذاك الفريق إنما هناك ما يمكن تسميته بعلم اجتماع اللعبة، إذ إن تشكيلة الفريق المكونة من اللاعبين ذوي خلفيات قومية وعرقية مختلفة تثير الانتباه كأنّ النشاط الرياضي يصح التعويل عليه لبناء كيان تتوفر فيه فرصة التجاور بين الهويات بدلا من الاحتراب والاقتتال”.
ويتابع “أكثر من ذلك فالرياضة مجال للارتحال بين الثقافات، صحيح أن الفرق المشاركة في أي لعبة سواء أكانت جماعية أو فردية لا تخالف القواعد العامة للعبة لكن لكل طرف خصوصيته في طريقة اللعب تمثل شيئا من ثقافته وتاريخه. كلما زادت حظوة الرياضة وانتشرت الثقافة الرياضية أكثر فإنّ حدة الاحتقانات الهوياتية تخف على اللاوعي الجمعي، ومن هنا نفهم مغزى ما صرح به شيلر ‘إنّ الشعب الذي لا يلعب شعب مريض””.
نسأل محمد كيف يقرأ الرياضة وكرة القدم تحديدا كعمل إبداعي يتلامس مع شغف الحكمة والفلسفة، ليجيبنا “تتقاطع الرياضة مع الفلسفة في انتشال الإنسان من حالة الهمود فإذا كانت الفلسفة تهدف إلى البحث عن مسارات جديدة للتفكير وبذلك ينسلخ العقل من هيمنة المسلمات إلى أن يكتسب الخفة فإنّ الرياضة لاسيما كرة القدم تفتح مجالا للتأمل في مساحة اللامتوقع لأنّ ما يكسب اللعبة تفردا في التشويق وبعدا دراميا ليس محاولات من أجل الفوز المفجر لطاقات الفرح بل هو الاستماتة في الصراع مع احتمالات الخسارة التي تلوح على خط متواز مع الفوز في أفق الملعب. الأمر الذي حدا بالفيلسوف الفرنسي ألبير كامو إلى أن يرى في اللعبة مثالا توضيحيا لصورة الحياة الواقعية لأنها تماما مثل الكرة لا تأتي أحداثها إلى أحدنا من الجهة التي ينتظرها”.
وفي اعتقاده الحكمة البليغة في اللعبة هي أنّ الخسارة لا تقطع عليك الطريق للتفكير في البدايات الجديدة. ولولا هذه المرونة لغادر الخاسر أرض الملعب بدون رجعة. إذن يشترك الفيلسوف واللاعب في التواضع أمام اللامتوقع الذي يحدث دائما على حد تعبير أندريه مالرو. وإذا سلمنا بتعريف نيتشه للفلسفة بأنها علم مبهج نكتشف منطقة أخرى بين النشاطين العقلي والجسدي وهي صناعة الفرح. وقديما أسدى أبيقور نصيحة لكل متفلسِفٍ بأن لا ينقطع عن الضحك. إذن يصح أن نتفلسف ونحن نضحك ونلعب.
نسأل محمد هل يصلح نجوم الكرة ليكونوا قدوة للأجيال الصاعدة؟ ليجيبنا “يقول آلان دوبوتون إنّ ثمة أهمية حقيقية لمن نجعلهم موضوع إعجابنا، والمشاهير لهم أثر على نظرة وتفكير متابعيهم للعالم. ولا تستمر الحضارة دون وجود من يمثل أنموذجا وقيما على الصعيد الإنساني، لكن في العالم اليوم قد حولت ماكينة السوق القيم كلها إلى سلع معروضة في تجمعات تجارية. وما نعاني منه هو النقص في القيم ومصادرة الرأسمال المادي للحياة مقابل ضمور أو نهاية الرأسمال الرمزي، وفي هذا الواقع من الأفضل أن يكون اللاعب قدوة للجيل الواعد بدلا من اقتدائهم بالسياسي الفاسد والمضارب الجشع أو من يقايض الدين بالمنصب والنقود. أو الوجوه المتشابهة للنجمات والنجوم”.
يحجم الأدباء عن كتابة رواية أو قصص أو شعر عن حياة لاعبي كرة القدم مثلا رغم أن حياتهم حافلة بالسرد الممتع والإثارة، ويعلق محمد حول ذلك قائلا “مفردة اللعبة حاضرة في متون النصوص الفلسفية والإبداعية وكان الفيلسوف اليوناني هيراقلطس قد رأى في لعبة النرد معادلا موضوعيا للحياة، وإلى الآن تتوارد استعارته الرشيقة في سياقات فكرية وأدبية. أما عن سردنة أساطير كرة القدم وتحويل حياتهم حبكة للأعمال الروائية فهذا يتطلب وعيا عميقا بمفهوم اللعبة وتذوقا لوقائعية معطياتها”.
ويضيف “من نافلة القول إنّ المراد من الكتابة عن اللعبة ليس تقديم وجبة متفلسفة للاعب لأنّ الأخير يعيش الحالة بكل تفاصيلها دون أن يستدعي ذلك التقيد بأفكار مسبقة، كل ما يتوخى من هذا الإبدال هو تحويل ما هو مشهود إلى مادة مقروءة، لكن ثمة سؤالا هل ما يقرأ يضاهي ما هو مرئي في المعلب من حيث المتعة والتشويق؟ أعتقد بأنّ اختبار هذا التحدي لا يخوضه سوى أقلية من الكتاب والمبدعين. لأنّهم لا يواجهون مكر ساحرة مستديرة ولا بلاغة الجمهور المتفاعل فحسب، بل يقابلون النص بالصورة وهنا يكمن البعد الأصعب من تراسل بين المقروء والمشهود”.
نسأله إن كان يتخيل أن يأتي يوم يستغني فيه البشر عن كرة القدم وحول مستقبل اللعبة ككل، ليقول “اللعبة هي الوجه الأبرز للترفيه ناهيك أنها الاستعارة الأبلغ لصيرورة الحياة، لا يمكن للإنسان مواجهة الواقع مباشرة لذلك عندما تتعرى الحياة من هذه الاستعارة نخسر تعويذة تحمينا من قسوة الطبيعة السيزيفية لأيامنا الطافحة بالقلق”.
ويقول محمد “سيرة معظم اللاعبين ملهمة خصوصا الأسماء التي تحدت الظروف القاهرة وصنعت مجدا كرويا في الملاعب، ولكنني لا أختار لاعبا لكرة القدم موضوعا لروايتي أو قصيدتي المفترضة، بل أشتغل على اللعبة التي نتيجتها إلى الآن معلقة وكان مسرحها رقعة الشطرنج، أقصد بذلك ما بدأه الفيلسوف الرواقي يوليوس كانوس الذي طالته حملة الإمبراطور الروماني نيرون. بينما كان منكبا في زنزانته على اللعبة مع صديقه حين أخبره السجان بأنّه سيقتاده إلى حبل المشنقة قبل أن تكتمل المبارزة بين البيادق، والغريب أنهّ قال لصديقه قبل مغادرة المكان أنا متفوق عليك بنقلة إياك أن تغشني بعد موتي. كأنّ بهذا الفيلسوف أراد من خلال موقفه البطولي أن يبلغنا رسالة مفادها أن نحيا لاعبا”.
اللعبة والأدب
الفائز يفرح وينتشي، والخاسر يخرج حزينا، نسأله كيف يصف هذه اللحظات بكرة القدم؟ وهل هذه اللحظات منصفة برأيه؟ ليقول “من يكسب المباراة يحتفل مطلقا العنان للشعور بالفرح متوسما منه الخلود، بالمقابل فإنّ الخاسر قد يبكي بقلبه فوزا كان قاب قوسين أو أدنى منه، لكن هذا الموقف لا يمنعه من العودة إلى الملعب وفي ذلك درس بليغ إذ ما تستأنف جولة جديدة حتى يعود مدججا بالإرادة التائقة للفوز، قبل ذلك فإنّ المشهد الأخير في أي مباراة يحمل رسالة أخلاقية إذ لا تغيب نشوة الفرح لدى الفريق الفائز واجب التضامن مع من كسب اللعبة على حسابه. هنا يستعيد الذهن ما قاله ألبير كامو: لقد أحببت فريقي حبا جما من أجل فرحة الانتصارات بالغة الروعة حين ترتبط بالتعب الذي يتبع الجهد ولكنني أحببته أيضا بسبب الرغبة البلهاء للبكاء في أمسيات الهزيمة”.
نطلب من محمد أن يختار فريقا لكرة القدم من الأدباء في التشكيلة الأساسية والاحتياطية، لكنه يرى أنه من الصعب بمكان اختيار فريق من الأدباء لأنه لا يعرف هل كل من يمتهن الأدب والكتابة يكون لديه اهتمام بالرياضة وكرة القدم؟ مضيفا “لكن لو طلب مني ترشيح أسماء لفريق نموذجي أكيد يقع اختياري على هؤلاء: نجيب محفوظ، محمود درويش، ألبير كامو، شكري المبخوت، ولا أخيب أمل توفيق الحكيم لأنه قد صرح بأنه ينخرط في اللعبة إذا كتب له شوط جديد من الحياة. وأفترض بأن شوبنهاور ونيتشه يحبان الانضمام إلى هذه التشكيلة فالأول يكتفي بالتفرج من المدرجات دون كثير من الاهتمام أما الثاني فيختار أحد ظهيرين حاملا شارة الكابتن. كما أن ديكارت بما أنّه هادئ يمكنه التحكم بإيقاع اللعبة يتموقع في خط الوسط، وأتوقع تغيرا لموقع كامو فهو يختار الخط الأمامي ويمرر الكرة ببساطته المعهودة”.
ويتابع أن بكافكا ومحمود درويش يتطلع إلى أن يكون رابحا في الكتيبة الهجومية “مستمتعا بالتكامل الإبداعي مع توفيق الحكيم في دوره الجديد أما ماركيز فيفضل أن يكون مساندا لحارس المرمى، كارل ماركس في خط الدفاع يشاركه في هذه المهمة نجيب محفوظ من جانب وإدوارد سعيد من جانب آخر وأرى تناغما بين سبينوزا وديكارت فإنّ صاحب ‘رسالة في إصلاح العقل’ يشاطر نيتشه اللعبة في ظهير آخر ضمن الفريق. أتخيل بأنّ من يحضر على دكة الاحتياط هم سعيد ناشيد، كمال الرياحي، بوكوفسكي، بول أوستر، إيتالو كاليفنو، جورج آمادو، الساندرو باريكو، باتريك موديانو، وأعتقد بأن أرسطو خير من يقوم بإدارة هذه التشكيلة من موقع المدير الفني ويساعده في ذلك فرويد قارئا أحلام الجميع. وما يحتاج إلى التوضيح أن سارتر لم يكن لديه متسع من الوقت للمشاركة لأنّه منخرط في التظاهرات مع الحركات الاحتجاجية كذلك عبدالرحمن منيف اعتذر عن الانضمام إلى هذا الفريق لأنّه بصدد كتابة رواية جديدة بعنوان الزحف الإسمنتي. وأخذ جبران خليل جبران موقعه في الأستديو التحليلي كما أنّه حضر وراء المايكرفون معلقا على المباراة”.
◙ اللعبة هي الوجه الأبرز للترفيه ناهيك أنها الاستعارة الأبلغ لصيرورة الحياة لا يمكن للإنسان مواجهة الواقع مباشرة
نسأله لو كان لاعب كرة قدم أي المراكز ستختار اللعب، ليقول “أفضل أن ألعب بالوسط لأن صناعة اللعبة هي قمة الإبداع طبعا أنضم إلى برشلونة أما بشأن العقد والمبلغ الذي أطلبه فهذا سر المهنة لا أريد كشف تفاصيله”. أما عن خططه لو كان مدربا لفريق ما فيقر بأنها “أن نلعب على نسق ‘أربعة ثلاثة ثلاثة’ وتعجبني جدا اللعبة أيضا على طريقة الفريق الهولندي ‘الكرة الشاملة’ كذلك ندع مساحات محدودة كما يفعل البرازيل والأرجنتين لأننى لا أتحمل متابعة مباريات مغلقة حتى ولو كنت مدربا”. إن تمنى أن يكون يوما لاعب كرة قدم يتمتع بالجماهيرية والشهرة والمال، يقول “تمنيت فعلا أكون صانع الفرح لأن أكثر ما نحتاج إليه هو الفرح فالشهرة والمال والنجومية قد تكون وسائط نتوسل بها لاقتناص لحظة الفرح”.
بسؤاله هل قرأ كتابا أو شاهد فيلما أو عملا إبداعيا بقي بذاكرته يدور حول كرة القدم، يقول محمد “قرأت رواية ‘باغندا’ للأديب التونسي شكري المبخوت، فالعمل بأكمله يدور حول حياة لاعب يخطف الأضواء في المستطيل الأخضر كما يتسلل الراوي إلى كواليس مطبخ الصحافة الرياضية. كذلك تابعت بكل تشوق ما سرده ألبير كامو في رواية الإنسان الأول حول ذكرياته مع لعبة كرة القدم إذ يسترد على لسان جاك حيثيات غرامه بمشاركة اللعبة مع الأصدقاء في المدرسة على الرغم مما يترتب على ذلك من العقاب لأنّ جدته كانت تشتري بنفسها الحذاء للأحفاد وهي تستشيط غضبا عندما تكتشف بأن الحذاء استهلكته اللعبة. وسأبدأ بقراءة ما كتبه إدوارد غاليانو أقصد ‘كرة القدم في الشمس والظل’ كما أدرج كتاب ‘ديغو مارادونا من داخل’ في لائحة قراءاتي”.
ويتابع متحدثا عن ذكرياته مع كرة القدم قائلا “أتذكر كنت أشاهد المباراة الأخيرة لمونديال 1990 مع عمي وأنا بالغ من العمر تسع سنوات، شعرنا بأن الأرجنتين لم تنصفها الكرة ولا الحكم لذلك تعاطفنا جدا مع الفريق، صحيح أن الأرجنتين قد خسرت المباراة وكان من المتوقع وأنا بهذه السن أن أصير مشجعا للألمان الفائزين لكن منذ ذاك الوقت أصحبت مشجعا للأرجنتين”.