كتب أكثر وقراء أقل
يمثل النشر إشكالية كبرى بالنسبة إلى الكاتب العربي الذي يجد نفسه مجبرا إما على خوض متاهة النشر وإما الاكتفاء ببعض المنابر الإعلامية.
بالنسبة إلى الكاتب التونسي ما إن تخلت الدولة عن دورها في عملية نشر الكتب واكتفت بدعم الورق الذي يناله الناشر، حتى بات القطاع رهينا للأهواء والأطماع الخاصة لأغلب الناشرين، حيث بات الكتاب فقط سلعة في سوق، لا أهمية لبعده الفكري أو الفني وتأثيره الثقافي العميق.
من ناحية أخرى قبل خوصصة قطاع النشر وفيما كانت الدولة تتحكم بمقاليد نشر الكتب، كان الحزب الحاكم يتحكم بالقطاع بشكل كلي تقريبا، حيث لا يظهر إلا من والاه أو صمت أو كانت كتاباته ترميزا إلى غاية طمس المعنى.
بات حتميا على الكاتب اليوم بعد جهد الكتابة المضني أن يمارس جهدا ثانيا هو إيجاد ناشر، رغم تضاعف عدد دور النشر، ناشر لا يطلب منه غير احترام المنتج الفني الذي يقدمه إليه، لكنه يصطدم أن هؤلاء يقترحون صيغة النشر التشاركي أي أن يدفع الكاتب نصف كلفة النشر، وهنا كل الحقوق محفوظة للناشر، أو يدفع كلفة الكتاب كاملة ويكدس كتبه في ما بعد نصب عينيه بما أنه ليس موزعا.
هنا يبدأ الجهد الثالث ألا وهو التوزيع، الذي لا دراية للكاتب بمسالكه، ولا يمكنه بأي طريقة كانت أن يوزع هو لنفسه، نظرا إلى العلاقة الحميمة التي تربطه بعمله الفني، ما يجعله غير قادر على التعامل معه بمنطق السوق والتوزيع والبيع وغير ذلك من تلك المطبّات.
من جانب آخر إن الغاية المثلى للكاتب ليست مادية بل معنوية بالأساس حيث لا أسعد من أن يحقق كتابه رواجا لدى القراء، إعجابا أو نقدا، وأن يترك أثرا بين الآخرين الذين كتب لهم العمل. لكن هذا المكسب المعنوي لا يكاد يتحقق لكاتب في دولة مفككة، مؤسساتيا -حيث لا تكامل بين هياكل الدولة، فمثلا لا وجود لتعاون بين وزارات التعليم والسياحة والثقافة والتربية التي من المفروض أن تتوحد جهودها-، علاوة على ذلك يكبّل الكاتب مجتمعه الرازح بدوره تحت وطأة الفقر والتهميش.
هنا يجد الكاتب نفسه بمفرده فردا ضعيفا أمام مكنات: المجتمع والدولة والمال وتجار الأدب… ولا حول لهذا الكائن الذي وضع سهاد سنواته في كتاب لم يطمح من خلاله إلا إلى أن يمس ذائقة القارئ وفكره، ويساهم بأثر مهما كان ضئيلا في خلق ركائز ثقافية مغايرة ومعاصرة.
تنسحب أطوار متاهة النشر التي ذكرناها على كافة الأقطار العربية تقريبا، لكن هناك مفارقة غريبة لا يمكن أن نهمل الوقوف عندها، حيث تستمر أعداد الكتب الصادرة في التضاعف كل مرة، ويستشهد بها على أنها أرقام تعكس تطورا إيجابيا، بينما الحقيقة أنه كلما زادت أعداد الكتب كلما قل عدد القراء، وقد يرجع ذلك إلى عدة أسباب لكن أهمها هو تردي المستوى الفني والقيمي، حيث بات النشر متاحا للجميع حتى المخربشين على الجدران، الشرط وحيد هو أن تكون لديك كلفة طبع كتاب.
هنا نفهم ظاهرة لافتة حيث بات القارئ التونسي يميل بشكل لافت إلى الكتب المترجمة حتى لأسماء غير معروفة، طامعا في أن يجد أدبا مغايرا يلبي طموحاته الفنية ولو بتفاوت، بينما الكتب التونسية بأغلفتها القبيحة والمثقلة بالألوان ملقاة للرطوبة، وما من ضامن أن تكون جيدة.
لا توجد أبدا في ذهنية دور النشر العربية خطة المحررين، وربما بعض الدور المحترمة لها لجان قراءة وهيئة استشارية وغيرهما، لكنها تظل قاصرة، إذ المحررون الحقيقيون ليسوا مكتبيين بل هم من عليهم اكتشاف المواهب ودعمها والعمل معها. ثم إن هذه الدور تشكو من غياب سياسة النشر التي لا تخضع بشكل عبودي للسوق وسيطرة الأهواء الفردية والشللية الضيقة.
ربما سنلوك قضايا النشر التي ذكرنا بعضها هنا، دون أن نشهد حلولا ترقى بالنشر كصناعة وبالأدب كإبداع، بينما الكتب أكوام للف الفول أو البقول أو أوعية للغبار. أما مؤسسات الدولة المفككة فآخر همها الكُتّاب بينما هم طلائع التنوير العزّل إلا من عذاباتهم التقاط ضوء للناس.
شاعر من تونس