كارلوس غصن المنكسر في عالم السيارات يصمد في كؤوس النبيذ

رجل الأعمال اللبناني يستثمر في صناعة أجادها الفينيقيون، ونبيذ مميز ومختلف نابع من جبال لبنانويؤمّن للمستهلك اللبناني والأجنبي خيارا أوسع في التذوق.
الجمعة 2019/02/01
نبيذ بجودة عالمية

للبنان تاريخ عريق في صناعة النبيذ يعود إلى آلاف السنين، انقطع ازدهاره عبر مراحل تاريخية كان آخرها عصر الدولة العثمانية، وبعد انتهاء الحرب الأهلية عاد مغتربون للاستثمار في زراعة الكروم وعصر النبيذ معتمدين في ترويج منتجهم على الجودة لا الكم لمنافسة الماركات العالمية، من هؤلاء رجل الأعمال كارلوس غصن الذي يتعرض لاتهامات بالفساد، ما جعل البعض يعتقد أن نبيذه “إكسير” سيشهد انتكاسة بعد أن بدأ ينتشر في أنحاء العالم.

البترون (لبنان) – في منطقة جبلية في البترون التي تطل على البحر المتوسط من شمال لبنان، يواصل مصنع إكسير للنبيذ، الذي ساهم رجل الأعمال اللبناني الأصل كارلوس غصن في تأسيسه، العمل بكامل طاقته وفتح أبوابه أمام زائريه، ليساهم مع مصانع أخرى ظهرت بعد الحرب الأهلية (1975-1990)، في عودة لبنان إلى قائمة البلدان المنتجة للنبيذ بعد أن كان هذا القطاع يعاني الصعوبات.

وقد استخدم الرئيس والمدير العام لمجموعة رينو – نيسان كارلوس غصن، مركزه وشهرته العالمية الواسعة ليرفع اسم لبنان عاليا مرة أخرى من خلال صناعة النبيذ.

وقد أفسحت شراكته في صناعة النبيذ اللبناني، المجال أمام تعريف الأسواق الخارجية على جودة المنتج اللبناني، ومجرد اقتران اسمه بصناعة النبيذ حفّز الأسواق على اكتشاف هذا المنتج اللبناني واستيراده.

وقال ناقد النبيذ الشهير جان مارك كاران، عن نبيذ إكسير، “النبيذ الذي تذوقته لديه إمكانية لتصنيف لبنان على لائحة الدول المنتجة لأرقى النبيذ في العالم”.

حانة إكسير تفوز بالجوائز

 ازدادت شهرة النبيذ اللبناني منذ سنة 2011 عندما أدرجت محطة “سي.أن .أن” الأميركية خمّارة (وتعني المصنع وليس الحانة) إكسير في بسبينا بقضاء البترون ضمن لائحتها لأهم “المباني الخضراء” في العالم، وتصنيفها كأحد أهم المباني الإثني عشر حول العالم التي تتسم بمعايير بيئية نموذجية، كما حصدت الخمّارة اللبنانية الميدالية الذهبية الكبرى في مباراة النبيذ الدولية التي جرت في كندا.

حانة إكسير هي بيت حجري يعود إلى القرن السابع عشر، أعيد تأهيله لصناعة النبيذ التقليدية، وتعتمد على النور الطبيعي لإنارة منشآتها، وعلى قوة الجاذبية لإنتاج نبيذها، كما أنها تستخدم مياه الأمطار لريّ المحاصيل، وتقوم بتدوير كل مخرجاتها من مياه مبتذلة وبقايا الفاكهة بتحويلها إلى سماد زراعي.

حانة إكسير تصنف كأحد أهم المباني الإثني عشر حول العالم التي تتسم بمعايير بيئية

وقال غصن بمناسبة إطلاقه نبيذ إكسير، لقد اخترت الاستثمار في صناعة النبيذ، لما يتمتّع به هذا المنتج من سمات، منها أنه يستخدم الأراضي اللبنانية واليد العاملة اللبنانية، حيث أنه وفر فرص عمل إلى غاية الآن لحوالي 200 عائلة لبنانية، مؤكدا أنه استثمار مبنيّ على صناعة لبنانية خالصة لا يستلزم إنتاجها استخدام مكونات أو تكنولوجيات أجنبية، بل إن كل المكونات نابعة من الأرض اللبنانية ذاتها.

وأضاف أن الهدف من هذا الاستثمار رفع اسم لبنان عاليا وتمكينه من ولوج الأسواق العالمية عبر صناعة نبيذ يتمتع بجودة عالية، “لا نريد منافسة الشركات اللبنانية، بل نريد أن نكمل بعضنا البعض.. نحاول إنتاج نبيذ مميز ومختلف نابع من جبال لبنان، له مفهوم آخر، ويؤمّن للمستهلك اللبناني والأجنبي خيارا أوسع في التذوق”.

وشدد على أهمية نوعية النبيذ، لأن هدفه لم يكن إنتاج أي نوع من النبيذ للاستهلاك فقط، بل إنتاج نبيذ لبناني من أرقى المستويات، يمكن تصديره إلى الخارج، والتعريف -من خلال ذلك- بتاريخ لبنان الذي بدأ بصناعة النبيذ منذ خمسة آلاف عام، كما قال “كان الفينيقيون في لبنان يسطرون أبيات الشعر في النبيذ”. يذكر أن البترون كانت تعرف بـ”بوتريس”  أي عنقود العنب وقد سماها اليونانيون هكذا تشبها بعنقود العنب المعصور خمرة من كرومها، كما تعرف بتكريمها إله الخمر باخوس، وأقامت للعنقود رسما نقش على حجر، لكنها انكمشت في العصر العثماني والحرب اللبنانية التي أتت على الأخضر واليابس، لتعود مجددا
مع عودة المزارعين إلى سالف نشاطهم الزراعي.

حانة إكسير صاحبة جوائز
حانة إكسير صاحبة جوائز

وفي منتصف تسعينات القرن الماضي، انضمّ لبنان إلى المنظمة العالميّة للكرمة التي تضمّ 45 بلدا، الأمر الذي كان له أثر كبير على تنظيم قطاع الكروم والنبيذ في لبنان من ناحية تحديث القوانين لتلائم المتطلبات العالمية وشروط التصدير، كما شجعت وزارة الزراعة على زراعة العنب بدل زراعة الحشيش.

ومثّلت عودة اللبنانيّين من المهجر بعد أحداث الحرب الذين أتوا للاستثمار في صناعة النبيذ، حافزا على التنافس وتقديم أفضل ما لديهم، فنما الاهتمام بالنبيذ وانتشرت مصانع الخمور أو ما يسمى بالخمارات في البلاد، والتوجه نحو تطوير الإنتاج للتصدير نظرا إلى محدودية السوق المحلية.

ويجمع المنتجون الشبان على عدم وجود تنافسية حادّة بينهم وبين الصناعيين القدامى، معتبرين أنفسهم زملاء في مهنة واحدة، وأدخلوا التقنيات الحديثة، وبنوا الأقبية والخمّارات العصرية المجهّزة بأفضل الآلات والمعدّات، واشتروا الأراضي الزراعية أو تعاقدوا مع المزارعين على شراء محاصيلهم وحدّثوا زراعة العنب.

وأطلقوا بالتعاون مع وزارة الزراعة ووزارة الخارجية، أياما وطنية للنبيذ اللبناني في برلين وباريس ونيويورك بهدف التعريف بمزايا هذا المشروب والتسويق له.

إكسير على الطاولات في العالم

 لم يؤثر توقيف رئيس مجموعة رينو – نيسان – ميتسوبيشي في 19 نوفمبر في طوكيو، للاشتباه بضلوعه في قضايا فساد، على سير عمل هذه الشركة التي تأسست منذ عقد من الزمن.

في المصنع، يمارس العمال مهامهم المعتادة، سواء أكانت في المكان المخصص للتخزين أم في المكان المخصص للتخمير حيث يتم حفظ أكثر من 300 برميل مصنوع من خشب السنديان أو في غرفة التعبئة.

إلا أنه من السهل ملاحظة حالة الحذر التي تلازم العمال لدى تعاطيهم مع الصحافيين. ورفضت إدارة المصنع إجراء أي مقابلة صحافية، فيما تحدث عمال باقتضاب طالبين عدم الكشف عن هوياتهم.

وأكد أحد العمال أن “كل شيء يجري كالمعتاد، لم يتغير شيء” داخل المنشأة، التي تمثل الواجهة الأكثر وضوحا لاستثمارات غصن في أرض أجداده.

المصنع ينتج ما يقارب 500 ألف زجاجة نبيذ سنوياً
المصنع ينتج ما يقارب 500 ألف زجاجة نبيذ سنوياً

ويستمر هواة النبيذ والباحثون عن الهدوء في التوافد إلى هذا المكان الجبلي حيث يقومون بجولات في مزارع الكروم والمصنع برفقة مرشدين تليها جلسات مجانية لتذوق النبيذ، وفق ما تقول شابة تعمل في قسم التذوق.

ويسري الأمر كذلك على التوزيع، حيث يقول زياد كرم الذي يعمل في شركة “دياغو”، الموزع الحصري لمنتجات إكسير في السوق اللبنانية منذ أواخر العام 2016 إن “الأمور تسير كما كانت عليه من قبل”.

ويتم توزيع نبيذ إكسير في الولايات المتحدة وفرنسا وسويسرا وبريطانيا، كما يتم تصدير مختلف أصنافه إلى المكسيك واليابان حيث حظي غصن، رجل الأعمال اللبناني الفرنسي البرازيلي، بالتقدير لمدة طويلة قبل توقيفه.

وفي حين يرجح أن تلقي الأحداث الأخيرة بثقلها على نسبة المبيعات في السوق اليابانية، ما زالت الطلبات نحو أوروبا والقارة الأميركية كالمعتاد، وفق ما يؤكد أحد الموظفين.

ويحمل المصنع العصري، الذي ينتج ما يقارب 500 ألف زجاجة نبيذ سنوياً، بصمة غصن الذي ما زال الكثير من اللبنانيين ينظرون إليه على أنه أحد وجوه النجاح اللبناني في دول الاغتراب.

وتمتلئ كل عام البراميل بنحو 600 طن من العنب بعد أن يتم قطاف العنب من الكروم الممتدة على مساحة 120 هكتارا في مختلف أنحاء البلاد.

وخلال سنوات قليلة، تمكنت علامة إكسير من احتلال مرتبة عالية في هذا المجال الذي يشهد تنافساً كبيراً في لبنان وتتصدره علامات لمنتجين يعود بعضها إلى أكثر من قرن من الزمن.

واستفادت الشركة من نهج غصن المتمثل في الإدارة الفعالة، ونمط الإنتاج المعاصر والمبتكر والصديق للبيئة، بالإضافة إلى لائحة غنية بأسماء الزبائن.

وتتميز الشركة بحرصها على اتباع نهج تجاري يعزز حقوق المزارعين.

ويروي أحد الموظفين قائلا “في كل زيارة له إلى لبنان، كان السيد غصن يصر على تفضيل إبرام عقود شراء العنب من المزارعين المحليين لتشجيعهم على البقاء في أراضيهم”.

 استثمارات غصن متنوعة

 بصمة غصن
بصمة غصن 

من خلال إكسير واستثمارات أخرى في لبنان، وبعيدا عن تحقيق موارد مالية، يروي مقربون من غصن أنه كان بصدد التفكير في العودة إلى لبنان في مرحلة لاحقة.

وتضم استثماراته عدداً من الأراضي وأسهما في القطاعين المصرفي والعقاري، خصوصا في بنك سارادار، بالإضافة إلى منزل فخم في بيروت، تطال ملكيته شبهات فساد ويرجّح أنه يشكل موضع تحقيق.

ويقول القاضي اللبناني المتقاعد شكري صادر، الذي كان من شركاء غصن في لعبة البريدج في حلقات مغلقة خلال زياراته القصيرة إلى لبنان، “كان كارلوس يتطلع من خلال استثماراته في السنوات الأخيرة إلى بناء علاقة تتخطى الاستثمار الربحي”.

وأحدث نبأ توقيف غصن صدمة لدى اللبنانيين، ونددت الطبقة السياسية اللبنانية مرات عدة بظروف احتجازه، فيما ارتفعت في شوارع بيروت في ديسمبر لوحات إعلانية حملت صورته مرفقة بتعليق “كلنا كارلوس غصن”.

وتكررت خلال السنوات الماضية زيارات غصن إلى لبنان، حيث أمضى جزءاً من طفولته (من سن السادسة حتى السابعة عشرة).

 ويوضح صادر، أن غصن كان “يستعد لقضاء جزء من تقاعده هنا، ربما بحثا عن الدفء الإنساني الذي لم يجده في باريس أو في طوكيو”، وهو ما ستؤكده الأيام القادمة بعد خروجه من المحنة التي يمر بها والتي ستجعله ربما يختار الهدوء بعيدا عن صخب المدن الكبيرة.

اقرأ أيضا:

استثمارات كارلوس غصن في لبنان.. نحو الاستقرار بأرض الأجداد

20