قمصان زيلينسكي.. صناعة الرمز في مواجهة القوة

شوهد الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي آخر مرة بالملابس الرسمية في الرابع والعشرين من فبراير الماضي، تاريخ تدشين الروس عمليتهم العسكرية في أوكرانيا، بعد ذلك تخلى عن بدلات البروتوكول الرئاسي وربطة العنق واتجه لارتداء بنطالونات وقمصان أقرب ما تكون إلى الملابس العسكرية.
والولع بالملابس العسكرية لدى السياسيين لا يرصد لأول مرة عبر التاريخ الحديث، فقد سبق إليه رئيس الوزراء البريطاني الراحل وينستون تشرشل ليتمكن من خلق توازن بين صورته وصورة الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين آنذاك، فضلاً عن عدوهما المشترك أدولف هتلر. حتى في العالم العربي، رأينا رئيساً مدنياً يتحوّل إلى قائد عسكري رغم عدم انخراطه في هذا السلك، وهو الرئيس العراقي الراحل صدام حسين. والأكثر غرابة هو عودة عسكريين متقاعدين إلى ارتداء الزي العسكري بعد سنين من خروجهم من الحياة العسكرية، وأبرز أمثلة ذلك الجنرال الليبي خليفة حفتر.
الممثّل وأفكاره
أما في أوكرانيا، فسرعان ما تحول زيّ زيلينسكي إلى موضة في بلاده وفي أوساط عدة في دول الجوار والعالم الغربي، وباتت لها أسواق تتولى الترويج لها عبر مواقع الإنترنت.
من خصوصيات الملابس التي يرتديها والصرامة التي يبديها على ملامحه يشكّل زيلينسكي لنفسه صورة رمزية نضالية لمقاتل شجاع يقف في وجه قوة عالمية غاشمة.
تلك الصورة تم الإعداد لها باهتمام كبير، أو ربما ظهرت بالصدفة قبل أن يتم تكريسها كواحدة من تعبيرات الحرب التي اتخذت بعدا عالميا، وتم إدخالها في سياق الحرب النفسية والصراع الثقافي الذي يحتل جانبا مهما من المعركة ككل.
قبل بدء العملية العسكرية الروسية كان زيلينسكي يرتدي بدلة زرقاء كلاسيكية عند مخاطبة شعبه. ومنذ ذلك الحين تم وضع البدلة في الخزانة، وقالت تقارير محلية أوكرانية إن زوجته عندما استفاقت صباح 24 فبراير، فوجئت به يرتدي قميصا بلون أخضر زيتي ذي أكمام قصيرة، وعندما سألته عن السبب، أجابها بأن الحرب قد اندلعت وعليه أن ينزع بدلة البروتوكول الرئاسي ويعوضها بملابس المقاتل التي لن ينزعها إلا بنهاية المعركة.
المؤيدون لزيلينسكي يرون أنه نافس على الانتخابات وهو الممثل الذي يحلم بدور مؤثر في حياته، وجد في انتظاره أهم دور قد يتقمّصه، وهو دور المقاتل الذي يخوض المعركة مدعوما بالعواصم الغربية
هناك من فسّر هذا الخيار بأن زيلينسكي الذي جاء إلى الحكم في العام 2019 من خلفية أبعد ما تكون عن الجيش والعسكرتاريا والعمل السياسي الاحترافي، حيث كان ممثلا كوميديا يهتم بإضحاك الناس، لا يمكنه التجرؤ على رمزية الجيش وارتداء بدلة القائد العام للقوات المسلحة في بلاده بما تمثله من هيبة الدولة، لاسيما أن رجل الشارع لا يزال يتذكر مشاهد الممثل في مواقفه الساخرة أو يستعيدها من خلال مواقع الإنترنت.
في 31 ديسمبر عام 2018 وبمناسبة حلول السنة الميلادية الجديدة، بدأت مغامرة زيلينسكي السياسية كشكل من أشكال المزاح في مثل تلك المناسبات مع الإعلان المتلفز عن ترشحه للانتخابات الرئاسية، مستفيدا من النجومية التي اكتسبها من دوره في مسلسل حمل اسم ”خادم الشعب“ عندما جسد شخصية مدرس متواضع بالمدرسة الثانوية سئم من الفساد الذي سيطر على كل القطاعات في بلاده، وقام أحد طلبته بتصويره ونشر بعض المقاطع على الإنترنت مما أعطاه شعبية واسعة جعلته يصل إلى الحكم بطريقة غير متوقعة.
في رئاسيات العام التالي، خاض زيلينسكي غمار المنافسة على كرسي الرئاسة، واستطاع الانتصار على منافسه الرئيس بيترو بوروشنكو بنسبة 73.22 في المئة من الأصوات في الجولة الثانية، ليصبح الرئيس السادس للبلاد التي كانت تعاني مشاكل كثيرة أهمها الفساد المالي والإداري والصراعات الأهلية المستمرة في إقليم الدونباس المتاخم لروسيا والذي تقطنه أغلبية تنتمي إلى القومية الروسية وفي ظل صراع قائم مع موسكو وتجاذبات على النفوذ السياسي والإستراتيجي تعيد إلى الأذهان حرارة الحرب الباردة بين روسيا الاتحادية والولايات المتحدة وحلفائها.
يقول مؤيدوه إنه نافس على الانتخابات وهو الممثل الذي يحلم بدور مؤثر في حياته، ونجح في الوصول إلى الرئاسة ليجد في انتظاره أهم دور قد يتقمّصه، وهو ليس دور الرئيس وإنما دور المقاتل الذي يخوض المعركة مدعوما بالعواصم الغربية في مواجهة المحور الذي يقوده الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ليصبح بالتالي زعيما لجانب مهم من مواطنيه ممن يؤمنون بقدسية المعركة لأسباب عقائدية وثقافية وبدوافع إقليمية ودولية متشابكة الأطراف والأركان، لكن مع ذلك لم يجرؤ على أن يظهر في قيافة المؤسسة العسكرية الأوكرانية التي تبقى لها نواميسها وقوانينها وأعرافها وخصوصياتها.
عالم التسويق
أول قميص ظهر به زيلينسكي مع بداية الحرب كان قميصا صيفيّا بلون أخضر زيتي، رغم أن الشتاء كان لا يزال يتحدى ببرده وثلوجه، وقد اعتمده في أغلب خطاباته أمام كاميرات التلفزيون وفي كلماته التي توجه بها إلى الكونغرس الأميركي والبرلمانات الكندية والأوروبية.
تحول القميص إلى أيقونة سرعان ما تم استغلالها تجاريا بعرض ”تي شورت زيلينسكي“ على المنصات التجارية على الإنترنت مع إشارات بأن نصف المبالغ التي سيتم تحصيلها لتذهب لدعم الشعب الأوكراني. في الصورة ظهرت فتاة مراهقة من سنغافورة تدعى آفا سوه لا يتجاوز عمرها 16 عاما، هي من صممت القميص، وكانت قد أهدته إلى الرئيس الأوكراني الشاب ليرتديه وهو يخاطب المشاركين في قمة قادة آسيا المعروفة باسم منتدى حوار شانغريلا في سنغافورة.
البعض يقول إن القمصان ذات اللون الأخضر الزيتوني والبني التي يرتديها زيلينسكي تذكرّ الشعب بأنه واحد من أبنائه البسطاء، ومع ذلك فإن القمصان تحتوي على صليب يمثل الجيش الأوكراني
قالت سوه لوسائل إعلام سنغافورية إنها أرسلت القميص إلى زيلينسكي عبر السفارة الأوكرانية في سنغافورة على أمل أن يرتديه في صورة أو مقطع فيديو، ولم تتوقع أن تراه يرتدي القميص أمام مندوبي المنتدى البالغ عددهم 500 في يونيو الماضي، عندما شكرها في كلمته أمام الحضور ووصف تصميمها للقميص كمثال على الدعم الذي تلقته أوكرانيا من جميع أنحاء العالم. وقال “هذا الدعم والاهتمام ليس فقط لأوكرانيا، ولكن لك أيضًا، وفي ساحة المعركة في أوكرانيا يتم تحديد القواعد التي سيعيش العالم وفقا لها“.
يقول البعض إن القمصان ذات اللون الأخضر الزيتوني والبني التي يرتديها زيلينسكي تذكرّ الشعب بأنه واحد من أبنائه البسطاء وأنه رجل عادي يقاتل مع القوات الشعبية أو مع المتطوعين من عامة الناس وليس برتبة عسكرية أو لرموز قيادية عليا، ومع ذلك فإن القمصان تحتوي على صليب يمثل الجيش الأوكراني الى جانب رذاذ الطلاء.
وعلى موقعها على الإنترنت قالت المصممة السنغافورية المراهقة إنه سيتم التبرع بعائدات القميص والرموز المميزة غير القابلة للتلف للتصميم، بعنوان “رذاذ الطلاء أوكرانيا”، إلى السفارة الأوكرانية في سنغافورة، حيث طلبت منها إعادة توجيه الأموال إلى المحتاجين.
ردود فعل مثيرة
أثارت قمصان الرئيس الأوكراني ردود فعل عديدة، ومنها ما ورد على لسان خبير الاقتصاد الأميركي بيتر شيف الذي غرد بعد ظهور زيلينسكي وهو يخاطب الكونغرس بقميصه الزيتي “أتفهم أن الأوقات صعبة، لكن ألا يمتلك رئيس أوكرانيا بدلة؟”، مما يشير إلى أن زيلينسكي قد يكون جانب بارتدائه ”تي شيرت“ شروط مخاطبة المشرّعين الأميركيين، لكنّ هناك أطرافا عديدة في الولايات المتحدة وغيرها كانت تعرف الهدف من تحويل الرئيس الأوكراني إلى رمز لحرب يعتبرها الغرب حربه التي لا بد أن يمضي فيها بعيدا.
يحاول البعض أن يجعل من صورة زيلينسكي امتدادا لرموز الحروب التي عرفها العالم خلال عقود مضت كقميص جيفارا وقميص فيديل كاسترو الأخضر وقبعته العسكرية وبدلة ماوتسي تونغ والحزب الشيوعي الصيني، وبدلة جورج دبليو بوش الباهتة بالكامل عندما هبط على حاملة الطائرات أبراهام لنكولن ليعلن النصر في حرب العراق.
كذلك ظهر الرئيس الأوكراني في العيد الوطني لبلاده في أغسطس الماضي مرتديا قميص فيشيفانكا بلون كاكي مع تطريز صممته الفنانة البيلاروسية روفينا بازلوفا.
كانت مفاجأة سارة لروفينا التي قالت “كنت على وشك الذهاب إلى الفراش في وقت متأخر من ذلك اليوم، عندما أرسل لي صديق رسالة: شاهدي زيلينسكي يرتدي قميصك المطرز. كانت صدمة بالنسبة إليّ. إنه شعور جميل“.
لقد استخدمت روفينا اللغة المرئية للتطريز البيلاروسي التقليدي باللونين الأحمر والأبيض لتروي قصة احتجاجات مواطنيها في العام 2020، وقامت بتغيير الشعار بما يتماشى مع الحالة الأوكرانية، وقامت محلات في كييف بترويج القمصان المطرزة بالألوان البيضاء والحمراء وبالكاكي لدعم الجيش الأوكراني.
في مناسبة أخرى، تخلى زيلينسكي عن قميصه الكاكي، وظهر وهو يرتدي كنزة سوداء بغطاء رأس كتب عليه “أنا أوكراني” دون أن يقدّم تفسيرا لهذا التغيير في الملابس. تحول الأمر إلى تجارة رائجة يقال إنها تساعد في دعم الجيش أو المتطوعين من الداخل والخارج، المصمم فولوديمير أولكساندروفيتش قال ”وضعت قميصين، أسود وكاكي، وطلبت تسليمهما إلى الرئيس، إن أمكن. أعدت صياغة البطاقة البريدية الموجهة إلى زيلينسكي عدة مرات. لاحقا لم أصدق ما رأيت، لقد ارتدى الرئيس القميص واتصل بي بعد ذلك“.
تُعرض قمصان زيلينسكي بألوان مختلفة بأشكال رجالية كلاسيكية وبرقبة دائرية مع طباعة مقاومة للأشعة فوق البنفسجية والماء ودرجة الحرارة، وإضافة إلى العناية المناسبة فإنها تحافظ على اللون ووضوح الخطوط وتكاملها لفترة طويلة، ومع شعارات وطنية، بسعر 500 هريفنيا أوكراني أي ما يعادل 13.59 دولار أميركي.
وفي حين يرتفع مستوى الإقبال على قمصان زيلينسكي بين الفئات الموالية له في بلاده وخارجها، يرى مراقبون أن الموضوع أصبح أقرب ما يكون إلى شكل من أشكال المواجهة المفتوحة بين الرموز المختلفة للقوة الناعمة، حيث اختار الرئيس الأوكراني، أو أختير له، أن يظهر في صورة الرمز والمثال والنموذج للمقاتل الصلب في صورة الرجل البسيط المستعد للتضحية بنفسه في سبيل حرية بلاده، وقد أوضح فرانسوا هورمان، وهو محاضر في العلوم السياسية في جامعة أنجيه، لصحيفة ”إكسبريس“ الفرنسية “إنه رئيس الجمهورية، لكنه أيضًا مقاتل”. وأضاف “بطريقة ما، ملابسه ساهمت في عملية الترويج للبطولات بما يؤثر على الآراء الغربية”، وهكذا أصبح اللباس جزءا لا يتجزأ من الخطاب الاتصالي للرئيس الأوكراني.
ورأت ريبيكا أرنولد، وهي مؤرخة الموضة والأستاذة في معهد كورتولد للفنون في لندن، في تصريح لصحيفة ”الإندبندنت“ أن أبعاد قمصان زيلينسكي وألوانها شبيهة بالحرب والمخاطر الإنسانية للصراع في أوكرانيا، وأنها نوع من الزي الرسمي غير الرسمي، حتى أنها تعتبر نسخة غير رسمية رائعة من لباس المعركة.
وتسعى بعض التقارير إلى تعمّد الترويج لمقارنة بين زيلينسكي الذي يبدو مقاتلا شعبيا بلباس بسيط في مكتب متواضع وبين الرئيس بوتين بفخامة البدلة والحضور والقصور التي يرتادها، فالرئيس الروسي معروف بحبه للرفاهية وللحياة بصفة عامة، وهو متمسك بكامل أناقته مهما كانت الظروف المحيطة، حيث لا يتخلى عن نظارته الشمسية من نوع ”كارتييه“ ولا عن ساعاته الفاخرة من صناعة ”باتك فيليب“.