قصص دونالد بارثيلمي العابثة بعناصر الواقع لأول مرة بالعربية

أونتاريو (كندا) - كتاب "اشتريتُ مدينة صغيرة، وقصص أخرى" هو مختارات لأبرز وأشهر قصص الكاتب الأميركي دونالد بارثيلمي، وقد صدر مؤخرا عن "محترف أوكسجين للنشر" في أونتاريو بترجمةٍ إلى اللغة العربية هي الأولى من نوعها، للمترجم الأردني أحمد الزعتري. في هذا الكتاب نحنُ حيال كاتب عصي على التصنيف، يقارن بكافكا تارة وتارة أخرى ببيكت، فيما يعتبره الكثيرون رمزا من رموز ما بعد الحداثة.
تتميز قصص بارثيلمي بعجائبيتها وخيالها اللامحدود، وفي الوقت نفسه بواقعيتها المكثفة التي تراهن على تلاشي المسافة بين الجوانب النفسية والاتقاد العقلي لكاتب يمتلك خيالا ماكرا وقدرة عجيبة على تفتيت الواقع وإعادة صياغته بالكولاج والمحاكاة الساخرة والتراكيب الغامضة أحيانا، وبنظرة نقدية وواعية لتعقيدات الحياة المعاصرة أحيانا أخرى.
ولا نجاة من عوالم بارثيلمي، كما جاء في كلمة الغلاف “إلا بالاستسلام لها، وتركها تأخذكم حيثما شاءت، والإيمان بأنكم أمام خيال يتخذ من الواقع منطلقاً له، فإذا بهما يمتزجان، ولا نعود نميّز الخيالي من الواقعي، وقد انفتح كل شيء على اللعب، فها هي الرأسماليّة تنزع بيجامتها، وثمة قرية ستبيع الزوجات إلى الزومبي، بينما يجبر جندي على العودة إلى الصف السادس فيقع في غرام معلمته. إنها قصص تغرينا بتسلق جبل زجاجي لنشاهد عالما لم نره من قبل".
يضيء المترجم أحمد الزعتري في مقدّمة الكتاب على الكيفية التي تعامل بها دونالد بارثيلمي، مع ثلة من الكتّاب مثل ويليام غاس وتوماس بينشون وكيرت فونيغات، مع العالم بشكل "طبيعي تماما"، حيث تمتعت هذه المجموعة، التي نشطت ما بين ستينات وثمانينات القرن الماضي، بأفضلية لم يحظ بها غيرُها من الكتاب في حقب أخرى؛ إذ اتسم أدبُها بالخراقة اللغوية، والركاكة الجمالية، والخواء الممنهج، واستلهمت أساليبها من كتب المراهقين عن شخصيات خارقة مثل سوبرمان وباتمان.
وقد نشر هؤلاء أعمالَهم في مجلات تنشر أيَّ شيء يثور على ما قبله. ومع الوقت، وبينما لم يلتفتْ إليهم إلا القليل، نضجت أساليبُ بعض هؤلاء الكتّاب من دون أن ينتبهَ إليهم أحد. كان هذا العالم الذي خلقوه عالما مشوها وطبيعيا، آليا ومشحونا بالعاطفة، وينهار تحت وطأة أي تلميحات قد تُؤخذ على محمل الجدّ.
على هذا النحو نقرأ لدي جي أوهارا في مقدّمة حواره المطوّل مع بارثيلمي (تجدون ترجمته في العدد 282 من مجلة أوكسجين) ما يختصر مكانة هذا الكاتب إذ “يبقى دونالد بارثيلمي، الذي أسلم الروح قبل أوانه عن عمر 58 عاما، عثرة من رخام، وهيكلا ضخما موضوعا بثبات وإمعان في دربنا، هيكلا لا يمكن تجاوزه أو المرور عليه مرور الكرام".
خلال حياته القصيرة نسبيا (1931 - 1989) نشر بارثيلمي أربع روايات، وعددا من المجموعات القصصية أهمُها مجموعتان تضمنتا أغلب قصصه وهما: "ستون قصّة" (1981)، و"أربعون قصة" (1987)، إضافة إلى مقالات تتناول تقنيّات الكتابة. جاء كتاب "اشتريتُ مدينةً صغيرة، وقصص أخرى” في 208 صفحات، وضمّ 18 قصة مختارة تسودها الكوميديا السوداء والسخرية الواقعية والاستعارات الذكية من الفن والثقافة الشعبية، حيث يؤكد العبث نفسه على أنه الحقيقة الوحيدة.
هذا ما نقرأه مثلا في مفتتح قصة "ابتلاع": "ابتلع الشعبُ الأميركيّ الكثير في السنوات الأربع الماضية. تمّ القيام بكثيرٍ من البلع. فقد ابتلعنا حشراتٍ كهربائيّة، وأموالاً مغسولة، وكميّةً كبيرة من الحبوب التي تتحرّك بطرقٍ غريبة، وحرباً أكثر خزياً ممّا يمكن تخيّله، وغيرَها الكثير. حتّى أنّه ثمّة أشخاصٌ يعتقدون أنّ الرئيس لا يخبرُنا دائماً بالحقيقة عن أنفسنا، بل يخبرنا بشيءٍ آخر ونحن نبتلع ذلك".
ولفهم أسلوب بارثيلمي نقرأ إجابته عن كتاباته وما يراه أعظم نقاط ضعفه ككاتب، إذ يقول "إنني لا أعبّر عن قدر كافٍ من العاطفة، وتلك واحدة من الأشياء التي يلجأ الناس إلى الأدب من أجلها، وهم ليسوا مخطئين في ذلك. أعني أنه من الصعب الإتيان بعاطفة أسمى. كما أنني لا أستطيع أن أقاوم التندر وإطلاق النكات، بالرغم من أنني أستطيع التحكم بنفسي الآن في هذا السياق أكثر بكثير مما كنت عليه من قبل".