قصة الصحوة الدينية ومشروع الأسلمة.. تجارة "الدفاع عن الإسلام"

منذ أحداث ما سمي بثورات الربيع العربي التي انطلقت شرارتها في أواخر العام 2010، بات جليا مدى توظيف أنصار الإسلام السياسي وجماعاته في العالم العربي إلى المقدس لتحقيق طموحهم في السلطة. وقام دعاة هذا التيار باستغلال الخطاب الديني وتأوليه وفق خارطتهم السياسية البراغماتية. وبات شعار الدفاع عن الإسلام تجارة مربحة تتيح لهم فرصة الحضور السياسي وآلية ناجعة لحماية مصالحهم.
الاثنين 2017/05/08
الوقوع في فخ داعش

استشرى الفكر الديني الأصولي في المجتمعات العربية تحت لافتة الدفاع عن الإسلام، وتحول هذا الشعار تدريجيا إلى مشروع ضخم طغى على المبادئ الحقيقية للدين الإسلامي، ولم نعد نعرف من هم أعداء الإسلام الذين ينبغي الدفاع عنه ضدهم، أو ما هي الأخطار التي يفترض أن نحمي الإسلام منها.

وباتت سردية الدفاع عن الإسلام هوساً سائداً ومستحوذاً على المخيال المجتمعي حيث يتم اختراع أعداء من العدم، أو وصم كل من يخالف الأصولية الإسلامية المهيمنة بأنه من أعداء الإسلام، وهي عملية اتجار سياسي وديني، محلية وإقليمية، صريحة.

وصارت قصة الدفاع عن الدين مظلة للعديد من الأنشطة والاتجاهات المنتجة للتطرف والكراهية. وانبثق مفهوم الدفاع عن الإسلام عن إيمان أصولي بأفضلية الذات الإسلامية على سواها من جهة، واعتقاد بنظرية المؤامرة وتعرّض المسلمين لاستهداف كوني على أسس دينية من جهة ثانية. وعليه، رأت العقلية الدفاعية الصحوية التي مثّلها الإسلام الأصولي السياسي ضرورة الانطلاق في الدعوة والتبليغ والتبشير بالتعاليم الدينية، بصورة مكثفة وممنهجة ومؤدلجة ومؤطرة سياسياً، لبسط السيطرة الفكرية والشعورية داخل المجتمعات العربية وخارجها.

توظيف أيديولوجي

نستطيع أن نلاحظ اليوم في حياتنا العامة والثقافية حضور عدد هائل من رجال الدين الذين يسمونهم “علماء دين” في افتئات على العلم والمعرفة، والدعاة التلفزيونيين الجدد الذين يسعون لتقديم التدين السلفي في صورة حداثوية تعتمد اللعب على المشاعر فيعرّضون الجمهور لاستلاب عاطفي يتناقض مع العقلانية، والكتّاب الذين يسمونهم “مفكرين إسلاميين” أو “مجددين”، والأكاديميين وحملة ما يسمى “دكتوراه الشريعة”، والحركات والتيارات والتنظيمات والمنظمات، والجامعات والجوامع والجمعيات، والفضائيات والأدبيات والمطبوعات؛ جميعهم يرفعون شعارات “الدفاع عن الإسلام” أو “خدمة الإسلام” أو “الدعوة إلى الإسلام”، ويعملون في ظلالها ويكتسبون منها الشرعية الاجتماعية والصورة الذهنية الطُهرانية وهالة القداسة التي يسيطرون بها على وعي الجمهور، مستعينين بآلية “الغرس الثقافي”؛ أي الإرسال الديني الكثيف المتواتر لإغراق الفضاء العام بالثقافة الأصولية وأسلمة المجتمع وأدلجة الرأي العام، وتكريس صبغة أحادية تلغي وتقصي سواها.

ويعكس الإسلام الأصولي تغوّل الفضاء الخصوصي للأفراد المؤدلجين والجماعات العقائدية على الفضاء العمومي الذي يفترض أن يكون ملكاً لجميع المواطنين والمجاميع السكانية والثقافية المتنوعة، يحصل ذلك في سياق عملية “أثننة” للمعتقدات الدينية أي تحويلها إلى “إثنيات” متمايزة ومنخرطة في اصطفافات عنصرية تكرّس أزمة هوية دينية وطائفية حادة في المجتمع.

لا يمكن كبح جماح الداعشية من دون اعتناق عقلية مغايرة تقوم على الاندماج والمشاركة في المجتمعات الوطنية الجامعة

ويساهم نقل الدين من المجال المعرفي كتراث ثقافي، ومن المجال الروحاني كإيمان وفضائل سلوكية، إلى المجال السياسي كأيديولوجيا وبرنامج تبليغ وتبشير وهيمنة؛ إلى تحويله إلى ماكنة ضخمة وشرسة للسيطرة على عقول الجمهور وأسطرة أفكارهم وهندسة أذهانهم.

ويقوم هذا الخطاب الدفاعي الصحوي الإسلاموي على استعداء الآخر بالعنف اللفظي أو الرمزي، فكل انعزال واستغراق جمعي في الذات الدينية هو إقصاء للآخر وعنف معنوي ضده، كما أن كل تخندق حزبي جماعاتي هو تقوقع وانغلاق فكري وثقافي يعيق الاندماج ويقوّضه، وهذا عنف ضد المجتمع ككل وسلمه الأهلي. فليس التطرف الخروج عن القانون فقط، بل هو الخروج عن التسامح العقلاني والعيش المشترك.

ونعيش اليوم حالة من الفيضان الديني الأصولي الذي أغرق المجتمعات بثقافته وخطابه ومنطقه ومروياته وسيميائيته ورموزه وأزيائه، ويحاصرنا حيثما ذهبنا في بلداننا وفي المهجر باسم الدفاع عن الإسلام أو الدعوة إليه أو تبليغ تعاليمه.

فهل يحتاج الإسلام إلى من يدافع عنه، أم أن البشرية هي التي باتت تحتاج اليوم إلى من يدافع عنها ضد هذا الطوفان الأصولي الإحلالي الذي يجتاحها ويكاد يقضي على التنوع الثقافي والإنساني الذي يفترض أن الإسلام نفسه أقرّه في نصوصه.

وصار الدفاع عن الإسلام دفاعاً لأجل الدفاع، ويبدو أن تجارة الدفاع عن الإسلام تبقى رائجة حتى لو لم يكن هنالك هجوم عليه أو لم يكن هناك إسلام أصلاً، فلم يعد مهماً أن يؤدي الدفاع عن الإسلام إلى حمايته فعلاً؛ المهم أن يكون هنالك دفاع عن الإسلام لإدامة مصالح ومكاسب الأطراف التي ترفع شعارات الذود عن حمى الدين حتى لو تطلب استمرار البزنس الدفاعي أن نضحي بالإسلام نفسه وبالمجتمعات، فهل الإسلام أهم من أتباعه وحياتهم، وهل أمسى الدفاع عن الإسلام أهم من الإسلام؟

تجارة الدفاع عن الإسلام

إن المشكلة الجوهرية في فكرة الدفاع عن الإسلام نفسها؛ أي إن المشكلة في المنطلقات والغايات قبل أن تكون في الوسائل والأدوات.

ليس مطلوباً من أي مسلم أن يدافع عن الإسلام. فكرة الدفاع بحد ذاتها فكرة سلبية تتضمن معاني التخندق والانطوائية والعزلة والارتياب، وهي أيضاً فكرة تقوم على التعصب والاعتقاد بامتلاك الحقيقة المطلقة واحتكارها ومن ثم الأحقية بالدفاع عنها.

شعارات دينية بخلفيات سياسية

ويشمل الخلل في النظرية قبل أن يكون في التطبيق؛ الخلل في الفكرة الأصولية القائلة إن “الإسلام نظام شامل للحياة، وصالح لكل زمان ومكان”؛ هذه الفكرة إكراهية وقسرية لا يمكن قبولها معرفياً أو إنسانياً، كما أنها تسعى لإضفاء القداسة على التراث والتاريخ لتوظيفهما في شرعنة وتعزيز سياسات ومصالح أطراف حزبية وكهنوتية متنفذة.

وبالتأكيد يمكن أن نجد في التراث الإسلامي أشياء مهمة مفيدة، حاله حال أي ثقافة أو إرث إنساني؛ ولكن شريطة أن يتم ذلك في الإطار المعرفي دون تكفير ديني لمن لا يأخذ بما تم اكتشافه من إعجاز مفترض، ودون توظيف سياسي أو أيديولوجي، ودون استثمار ممارسات التأويل والاستنباط في سياق استلاب ديني أصولي (أسلمة المجتمعات)، أو في سياق قراءة مأزومة ومفتعلة لـ”صراع الحضارات” تتمحور حول التصدي المفترض لاستلاب ثقافي قادم من الغرب (مقاومة التغريب والتحديث).

وتكمن مشكلة شعار “الإسلام نظام شامل للحياة” في أنه شمولي سلطوي، إذ لا يمكن اعتبار أي دين أو عقيدة نظاما للحياة، فالحياة هي النظام، ولا يمكن فهم الحياة من خلال الإسلام أو أي دين آخر؛ الإسلام هو الذي يفترض أن نفهمه من خلال الحياة.

المعارف والتجارب والخبرات الحياتية هي التي تطوّر المهارات التأويلية في التعامل مع النص الديني. تنظيم داعش هو نتاج محاولة أصولية لفهم العالم من خلال الإسلام وتاريخه وتراثه ونصوصه.

ولا تمكن مواجهة الداعشية إلا بمشروع جديد معاكس يسعى لفهم الإسلام من خلال العلم والعالم والخبرات والتجارب الإنسانية والتطورات المعرفية المعاصرة، واعتماد الروح النقدية والتفكير الجدلي. فداعش نتاج عقلية الدفاع والانطواء والتخندق، ولا يمكن كبح جماح الداعشية من دون اعتناق عقلية مغايرة تقوم على الاندماج والمشاركة في المجتمعات الوطنية الجامعة وفي الحضارة الإنسانية المشتركة.

وإذا كنا لا نريد التعرّض للاستلاب الثقافي من الآخر الغربي باسم المثاقفة الحضارية؛ فعلينا أيضاً الحذر من الوقوع في فخ الاستلاب العاطفي والأيديولوجي من الأصولية الإسلامية المحلية باسم المحافظة على الهوية الإثنية والخصوصية الثقافية.

أما شعار “الإسلام صالح لكل مكان وزمان” فيراد به الهيمنة على المكان الوطني وإلغاء الانتماء العقلاني إليه لصالح مشروع أممي وشعور عقائدي عابرين للحدود، وتقويض الانتماء للزمان الحاضر والمستقبلي لصالح مشروع تراثي ماضوي، إذ يستدعي الخطاب الصحوي التبشيري التاريخ ويحكّمه قهراً في الواقع الراهن، فيحبس الحاضر في سجن الماضي ويخضعه لإكراهاته ما يفرز تشوّهات عميقة وصراعات مؤذية في الحاضر والمستقبل.

وفي مواجهة هذا الخطاب يفترض بنا أن نطرح اليوم السؤال التالي: لماذا الإصرار على استدعاء الدين أساساً أو أن يكون الحل لأي أزمة مستمداً من أصل ديني أو متحصلاً على شرعية دينية؟ ولماذا هذا النزوع الأصولي الماضوي للبحث عن حلول ومعالجات لأزماتنا المعاصرة في التراث وسيرة السلف والارتهان للحظة التأسيس الديني الأولى وشخوصها ونصوصها؟ ولماذا الإصرار على الربط القسري والمغرِض بين حلول الأزمات الاجتماعية والاقتصادية وبين قضايا الهوية الدينية والخصوصية الثقافية؟

لماذا يوضع التديّن، بمعنييْه الطقوسي والثقافي، شرطاً للخلاص الحضاري الدنيوي الجماعي وليس للخلاص الروحي الأخروي الفردي فقط؟

6