قبل أن يضيع استثمارنا بعلي شمخاني

لا يمكن المقارنة بين دولة مؤسسات مثل الولايات المتحدة بدولة ثورية لا تزال تحكم بعقلية دينية وإن بمسيرات وصواريخ ومشروع نووي. لكن إيران مقبلة على تغييرات قد لا تكون بأقل أهمية.
الاثنين 2023/08/21
كل ما نتمناه هو أن لا يكون استثمارنا بعلي شمخاني قد ضاع

تتحرك إيران بسرعة للإيحاء بأنها تعيد النظر في علاقاتها مع دول الخليج. تركز، وهي محقة، على الإمارات والسعودية. علاقتها بالبحرين تنتظر قرارات أكبر من المتوفرة حاليا بأيدي المسؤولين الإيرانيين، ومع الكويت مد وجزر بحدود معروفة مقدما. أما مع قطر وعمان فتقارب إلى مستوى التنسيق. سنرى كيف ستؤول علاقتها مع السعودية.

التغير في الموقف قادته جهود فريق الأمن القومي الإماراتي بالتنسيق مع شريك إيراني بدا لوهلة شخصية يمكن الاعتماد عليها. قاد فريق الأمن القومي الإماراتي الشيخ طحنون بن زايد آل نهيان وأثمر التنسيق المشترك مع مستشار الأمن القومي الإيراني علي شمخاني ترتيبات نرى نتائجها بشكل ملموس. النتائج كانت ملحوظة إلى درجة أن آخرين بنوا عليها وشهدنا لحظة اللقاء بين السعودية وإيران في بكين.

لكن حدث شيء ما. في ذروة الإنجاز، اختفى علي شمخاني. وهذا النوع من المسؤولين، كما يشخص الدكتور عبدالخالق عبدالله أستاذ العلوم السياسية في دولة الإمارات في مقابلة دقيقة على موقع أمواج ميديا عن العلاقات الإماراتية – الإيرانية، شيء محوري. من المبكر الحكم إلى أي مدى سيؤثر استبدال شمخاني على مسارات العلاقة الإيرانية مع دول الخليج. لكن إذا كانت هناك دولة تدرك الأثر الشخصي للأفراد في صنع وتوجيه السياسات، وخصوصا في مجال حيوي مثل الأمن القومي، فهي إيران.

للشخصيات أثر محوري في تاريخ إيران المعاصر. علي شمخاني من هذه الشخصيات. العربي ابن الأحواز والقائد السابق ابن جبهات الحرب العراقية – الإيرانية، وصل إلى مرتبة وزير الحرس الثوري ثم وزير الدفاع. وخلال عقد من الزمان (2013 – 2023) كان في واحد من أهم مناصب الدولة الإيرانية المستقرة (ما بعد الثورية الخمينية إذا جاز التعبير). مستشار الأمن القومي منصب رفيع جدا ولعله الأقرب إلى المرشد الأعلى. وخلال سنوات عمله الأولى، صار واضحا أن شمخاني نزع عن نفسه ثياب الجنرال وأصبح رجل أمن قومي من الطراز الأول. لا نريد المبالغة بالطبع، فهذه إيران. ولكن تأسيس مدرسة في التفكير في إيران ليس بالمهمة السهلة. انتظر كثيرون، وخصوصا مع تقدم محادثات النووي الإيراني، أن تنشأ مدرسة براغماتية من داخل مؤسسة الحكم الإيرانية. ومرة أخرى من دون مبالغات، علي شمخاني كان يريد أن يترك بصمته على الأمن القومي الإيراني على طريقة براغماتية البصمة التي تركها هنري كيسنجر على الأمن القومي الأميركي.

علي شمخاني كان يريد أن يترك بصمته على الأمن القومي الإيراني على طريقة برغماتية البصمة التي تركها كيسنجر على الأمن القومي الأميركي لنفهم لاحقا أن لا كيسنجرية شمخانية في إيران

فهمنا لاحقا أن لا كيسنجرية شمخانية في إيران. وكما أشار الدكتور عبدالخالق عبدالله، فإن على المنطقة أن تبدأ من جديد بعد إقالة شمخاني.

تغيير علي شمخاني ليس اعتباطيا. إيران تدرك محورية الشخصيات. وجود واختفاء هذه الشخصيات يصلان إلى قلب المواقف أو عرقلتها أو تغيير أولوياتها. نضرب أمثلة من التاريخ الإيراني القريب.

عندما أدرك الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب محورية قائد فيلق القدس قاسم سليماني في السيطرة على الشرق الأوسط، اتخذ قرار تصفيته. كان سليماني في ذروة مجده عندما تحقق له تقريبا حلمه الشخصي وحلم إيران التاريخي بالسيطرة التامة على العراق. على يده، اكتمل طريق طهران – البحر المتوسط. العراق ما بعد داعش محطة ربط نحو سوريا ولبنان. والحشد تحت سيطرة قاسم سليماني قوة ضاربة ذكية تستطيع أن تستخدم القوة الجوية الأميركية لضرب أهداف داعش في الموصل وتدميرها.

بمقتل سليماني واستلام إسماعيل قاآني قيادة فيلق القدس، تشتت الأمر وتنافست القوى المكونة للحشد ودبت الروح في قوى سياسية عراقية كانت قد وصلت إلى حالة الاحتضار. فيلق القدس تحت قيادة قاآني هو شبح الفيلق الذي كان تحت قيادة سليماني. دونالد ترامب كان يعرف ماذا يفعل. هذه المرة التغيير لم يكن بقرار من المرشد الأعلى.

لكن قرارا آخر كان من المرشد علي خامنئي. فعندما صار واضحا أن لا فائدة ترتجى من بقاء محمد جواد ظريف في منصب وزير الخارجية، وأن الأميركيين قد طووا الملف النووي حتى إشعار آخر، تم استبدال ظريف، مهندس الاتفاق النووي الإيراني والشخصية المحورية في كل مفاوضات العالم مع إيران بهذا الشأن. إيران كانت قد دخلت في طور آخر، وتم تعيين أمير حسين عبداللهيان، حواري قاسم سليماني، بمنصب وزير الخارجية. لا حمائم في وزارة الخارجية الإيرانية، بل صقور فقط.

تغيير الشخصيات الأهم في إيران حدث عام 1989. عندما أحس قائد الثورة الإيرانية آية الله الخميني بدنو الأجل، اتخذ قرارين جدليين غيرا مسار إيران. الأول، عزل وريثه المسمى آية الله حسين علي منتظري. والثاني، وكان قرارا مركبا وصعبا، تعيين علي خامنئي وريثا جديدا له. لم يكن خامنئي بالمرتبة الفقهية التي تسمح له بذلك وتسببت ترقيته واختياره بمشاكل كثيرة استطاع احتواءها مجلس الخبراء وتحت إشراف عراب التغيير ورئيس البرلمان والرئيس الإيراني اللاحق علي أكبر رفسنجاني. عندما توفي الخميني، أصبح علي خامنئي هو المرشد الأعلى.

شخصية المرشد علي خامنئي محورية في تشكيل إيران، الدولة الحالية التي نراها. لا مقارنة بين فوضى عصر الخميني ومستوى التنظيم الذي صنعه خامنئي. المشروع الخميني كان سينتهي لو جاء منتظري، ولكن يكون بحالة أخرى لو تولت شخصية غير علي خامنئي مرتبة المرشد الأعلى.

حوّل علي خامنئي أفكار الخميني إلى مشروع إستراتيجي واستفاد من كل أزمة في المنطقة. في لحظات فارقة، قلب نكسة الحرب العراقية – الإيرانية إلى نصر إيراني على المنطقة بعد انهيار العراق نتيجة غزوه للكويت وحرب تحريرها. إيران الحالية التي تستعرض سيطرتها على عواصم عربية، هي مشروع خامنئي الذي اشتغل عليه بدأب. للإيرانيين الذين يعانون ويثورون وضاعت عليهم سنوات حياتهم في الحروب والعقوبات، خامنئي هو النكبة الإيرانية مجسدة. لكن من الصعب تخيّل نجاح المشروع الإيراني الإقليمي ووصوله إلى ما وصل إليه من دون علي خامنئي.

تغيير علي شمخاني ليس اعتباطيا. إيران تدرك محورية الشخصيات. وجود واختفاء هذه الشخصيات يصلان إلى قلب المواقف أو عرقلتها أو تغيير أولوياتها. نضرب أمثلة من التاريخ الإيراني القريب

في لحظة فارقة من التاريخ الأميركي الحديث، لحظة تصفية حرب فيتنام وفتح صفحات جديدة مع الصين، غطى مستشار الأمن القومي هنري كيسنجر على وزير الخارجية وليام روجرز. انتهى الأمر لصالح كيسنجر ومشروعاته، وحتى يومنا هذا. جمع كيسنجر الأمن القومي والخارجية في مرحلة انتقالية مهمة وكان بصلاحيات سياسية كبيرة في مرحلة ضعف استثنائية في الإدارة الأميركية صاحبت فضيحة ووترغيت واستقالة ريتشارد نيكسون وتولي جيرالد فورد الرئاسة. يمكن القول باطمئنان، إن فورد الجمهوري الضعيف مهد الطريق مبكرا لوصول رونالد ريغان مطلع الثمانينات إلى البيت الأبيض ليغير كل شيء في الولايات المتحدة. الفترة الانتقالية التي مثلتها رئاسة الديمقراطي جيمي كارتر، وضعف أدائه على مختلف المستويات، ومنها التعامل مع إيران، كانت محطة عابرة استبقت التغيير الريغاني الكبير.

لا يمكن المقارنة بين دولة مؤسسات مثل الولايات المتحدة، ودولة ثورية لا تزال تحكم بعقلية دينية وإن بمسيرات وصواريخ ومشروع نووي. لكن إيران مقبلة على تغييرات قد لا تكون أقل أهمية وأثرا من قرار الخميني عام 1989 بتوريث علي خامنئي. المرشد الأعلى شخصية كاريزمية قوية ورجل دولة يتابع أصغر التفاصيل. لكن نظرة بسيطة للدائرة المحيطة به تكشف بيتا سياسيا واهيا لم يحسم أمر الخلافة بعد، ولا توجد شخصية سياسية دينية حاضرة يمكن القول إن منصب المرشد العام ينتظرها.

لكن في المقابل، ترسخت مؤسسة حكم الحرس الثوري في إيران. لحظة الدولة الإيرانية – الحرس الثوري قد تكون هي نفسها لحظة تحويل منصب المرشد الأعلى إلى مقام ديني يعيد الأمور إلى نصابها كمرجعية تحاكي أو تنافس مرجعية النجف. نموذج آية الله علي السيستاني موجود ومؤثر ومفيد للسياسيين في العراق وتعايش مع ظروف ومشاكل العراق من قبل الغزو الأميركي عام 2003 وبعده. رجال الحرس الثوري الإيراني لن يفوتوا على أنفسهم الفرصة: دولة الحرس ما بعد المرشد. محورية دور المرشد الأعلى في الدستور يمكن معالجتها. سبق وأن عدل مجلس الخبراء الدستور لصالح خامنئي عام 1989.

أين علي شمخاني في كل هذا. قد يكون في أي مفصل منه. صانع ألعاب أو قوة من قوى التأثير أو مرشح من مرشحي الحرس في هيكلية قادمة لدولة ما بعد المرشد؟ من الصعب الحكم خصوصا بالنظر إلى أن من خلفه في المنصب هو نائبه المخضرم والعنيد علي أكبر أحمديان. لا يتوفر الكثير من المعلومات عن أحمديان وأسباب اختياره، لكن ثمة إجماعا على أن لا علاقة له ببراغماتية شمخاني رغم رفقة السلاح في الثمانينات والعمل سوية في الحرس والأمن القومي. شخصية، لو صدق ما يتم تداوله من معلومات، تعود إلى كلية طب الأسنان بعد عقود من ترك استكمال الشهادة بسبب الالتحاق بجبهات الحرب العراقية – الإيرانية مطلع الثمانينات، ثم الرجوع إلى العمل العسكري والاستخباري. هذه مؤشرات لشخصية تصفي حسابها مع كل شيء ولا تقبل جرحا نرجسيا مثل عدم استكمال الشهادة.

كل ما نتمناه هو أن لا يكون استثمارنا بعلي شمخاني قد ضاع. الحرس قادمون.

9