في ملجأ هدى حيوانات تستعيد طعم الحياة بعد المعاناة

قسوة الناس والصعوبات المالية لم تثنيا التونسية عن عشقها النابض للقطط والكلاب والتزامها منقطع النظير تجاهها.
الخميس 2024/05/23
قصة عشق لا تنتهي

رسمت الفتاة التونسية هدى ملحمة إنسانية مبطنة برسائل نبيلة جسدتها في علاقتها الوطيدة بحيوانات تخلى عنها أصحابها فأصبحت بلا مأوى ولا سند. ولم تثن قسوة الناس والصعوبات المالية هدى عن عشقها النابض للقطط والكلاب والتزامها منقطع النظير تجاهها؛ فقد خصصت لها منزلا يقيها التشرد، وساعدتها في ذلك رائدة أعمال ومؤثرة متخصصة في السفر.

تونس - حان وقت الطعام في ملجأ هدى بوشهدة، ملجأ الحيوانات الضالة التي تم التخلي عنها، القابع على مرتفعات مدينة الحمامات. وما إن تقرع الأوعية حتى تتسابق الكلاب والقطط من كل صوب وتتسارع لتفتك مكانا بالقرب من حاضنتها التي تحميها من مخاطر لطالما هددتها، كي تظفر بنصيبها من أكلات متواضعة حرصت على توفيرها هدى لـ”أبنائها” الذين لا يطيقون الانتظار.

موعد الطعام يعد اللحظة الأكثر ترقبا من قبل هذه الكائنات اللطيفة الباحثة عن إشباع شهيتها وقضاء وقت ممتع مع هدى، التي ما انفكت تغازل كل واحد منها على طريقتها الخاصة دون أن تنسى إسم أحدها أو تخلط بينها، لتجد هدى قد تفننت في منحها أسماء تتناسب مع شخصياتها الفريدة وتعبر عن حالاتها ووضعياتها المختلفة وماضيها المفعم بالألم.

بينما يستمتع أقرانه بوجباتهم اللذيذة يفضل “هشام”، وهو قط ذو فرو أبيض ناصع وذيل قصير، مواصلة التجول دون مبالاة على طول الجزء العلوي من جدار الحديقة مترامية الأطراف. هشام وفي لطبعه وكله إصرار على التقوقع وحيدا في ركنه المفضل المعزول عن بقية الحديقة، يأبى أن يلبي دعوات صاحبته المتكررة إلى الانضمام إلى رفاقه مفضلا الاستمتاع بموعده اليومي المتفرد وهو مستلق يعانق أشعة الشمس الأخيرة في حركات دلاله المعهود، والتي لا تملك هدى سواء الاستسلام أمامها وهي ترمقه بكل حب مقررة العودة لإطعامه لاحقا.

يبدو أن هذا القط يقضي أياما سعيدة وينعم بالأمان في هذا الملجأ اليوم، في حين لم يكن هذا هو الحال قبل بضع سنوات فقط.

في هذا الملاذ الذي يمتد على مساحة شاسعة، والذي يقع وسط التلال، نجد القطط والكلاب تمثل أسياد المكان

تقول هدى الأربعينية والعبرات تخنقها “ولد هشام في مخبزة حيث أقام هناك، واحتضنه أحد العاملين في المخبزة واهتم به ولم يدخر جهدا في الاعتناء به إلى أن اشتد عوده، ما أثار حفيظة بعض زملائه الذين ما انفكوا يظهرون عداوتهم علنا إزاء القط، ليجد الخباز في أحد الأيام أثناء التحاقه بمكان عمله القط في حالة حرجة إذ قام أحدهم بقطع ذيله”.

وليست قصة هشام الوحيدة في هذا الملجأ فأغلب رفاقه يحملون أنواعا مختلفة من الإعاقات، ويجرّون ماضيا ثقيلا ومؤلما لا يزال مسكونا فيهم.

وتختلف حالات هذه الحيوانات ومعاناتها باختلاف أحجامها وأعمارها، لتجد البعض منها قد تعرض لسوء المعاملة والتخلي عنه من قبل أصحابه، في حين لم يكن لدى البعض الآخر خيار سوى التماهي مع حياة زادها الترحال، والتي غالبا ما تكون مليئة بقصص الجوع والمرض والحوادث والتسمم والقتل.

في هذا الملاذ، الذي تمتد مساحته على أكثر من 600 متر مربع ويقع وسط التلال بعيدا عن صخب المدينة، نجد القطط والكلاب وكأنها أسياد المكان، تمرح في كنف الأريحية والتناغم، لاسيما وأن هدى قد منحتها صكا على بياض والحرية المطلقة لاحتلال كل زاوية وركن من المساحة الداخلية والخارجية للملجأ.

نكران الذات في سبيل أن تنعم كائنات لا حول لها ولا قوة بحقها في الحياة وحمايتها من مخاطر تحدق بها دوما، هما “عقيدة” هدى التي آمنت بها على مر السنين ولا تزال تعيش على وقعها ومجندة ليلا ونهارا رغم ظروفها القاهرة لإسعادهم. وتكرس صاحبة الملجأ نفسها جسدا وروحا لرفاهية “أطفالها الصغار” على أمل أن تضمد جراحهم.

موعد الطعام يعد اللحظة الأكثر ترقبا من قبل هذه الكائنات اللطيفة الباحثة عن إشباع شهيتها وقضاء وقت ممتع مع هدى

“لم يتلق عدد من حيواناتي أبدا لفتة مودة من أي شخص كان، في حين تكفي أحيانا لمسة حنان لتخفيف أوجاعها وتكميد جروحها واسترجاع قواها والعودة إلى سالف نشاطها من جديد”، هذا ما صرحت به هدى في حوارها مع وكالة تونس أفريقيا للأنباء.

وتقول “لدي اليوم أكثر من 400 قط وقرابة 20 كلبا، تبث روح البهجة والسعادة في حياتي وتمثل شريان التفاؤل. هي أيضا بالنسبة إلي مصدر قوتي ومسكنات أوجاعي في لحظات انهياري، لديها طريقتها الخاصة في التعبير عن الجميل وحركاتها الحبلى بالدفء في مواساتي وغمري بالحب”.

بدأ إيثار الحيوانات الضالة على نفسها ينمو لدى هدى منذ عشرات السنين، عندما كانت لا تزال تعيش مع والديها في حمام الأنف، وهي منطقة ساحلية تقع في الضاحية الجنوبية من تونس العاصمة.

كانت هدى تدير في ذلك الوقت متجرا للعطور، ومعتادة على إطعام قطة صاحبة المتجر، ليصبح محل هدى للعطور شيئا فشيئا نقطة لإمداد جميع القطط القاطنة في الحي بالأكل، وسرعان ما نما هذا الشغف بالقطط إلى أن قررت هدى تبني عدد قليل منها.

وعن ذلك تقول “في البداية كنت أعتني بالقطط التي تتمتع بصحة جيدة إلى أن انضممت إلى مجموعات إنقاذ القطط المصابة جراء الحوادث وتلك التي لديها إعاقة على مواقع التواصل الاجتماعي. ومنذ ذلك الحين أقسمت بأن أكرس نفسي بالكامل وأهب حياتي للحيوانات التي تعاني من وضعيات حرجة “.

وأردفت “كلما اتسعت دائرة احتواء القطط ثقلت نفقات غذائها ورعايتها الصحية إلى درجة أنها أثقلت كاهلي ولم أعد قادرة على مجابهتها وطرد فكرة التخلي عن أي كائن منها”.

Thumbnail

عجزت هدى عن الإيفاء بالتزاماتها المالية تجاه مزوديها ودفع إيجار متجرها، لينتهي بها المطاف إلى غلق المتجر والتوقف كليا عن العمل، وبالرغم من إفلاسها رفضت التخلي عن رفاقها المخلصين، ما تسبب لها في مشاكل مع عائلتها التي نفد صبر جميع أفرادها بسبب العدد الكبير من القطط.

لم تجد هدى خيارا آخر سوى ترك منزل العائلة والشروع في رحلة البحث الطويلة عن سكن يؤويها هي وحيواناتها.

الترحال من منزل إلى آخر أصبح جزءا لا يتجزأ من حياة هدى، فإما يتم طردها من طرف أصحاب البيت أو تتعرض للهرسلة من قبل بعض الجيران ممن أعماهم كرههم الشديد لتلك الكائنات الضعيفة ليصل بهم المطاف أحيانا إلى درجة القضاء عليها.

ولحسن الحظ لا يزال هناك أشخاص خيرون مستعدون لمساعدتها، ومن بينهم شهرزاد رمادي، المدافعة الشرسة والمتحمسة عن قضية الحيوانات، والتي لم تتردد ولو للحظة في إنقاذها.

استغلت شهرزاد، رائدة الأعمال والمؤثرة المتخصصة في السفر، خلال أوقات فراغها شعبيتها على وسائل التواصل الاجتماعي لمساعدة هدى في العثور على مكان للإقامة وجمع التبرعات على منصة “شقاقة .تي إن”، وهي منصة تونسية للتمويل التشاركي مخصصة لخدمة القضايا الإنسانية.وتهدف هذه الحملة، التي انطلقت خلال صائفة 2023، إلى جمع مبلغ خمسين ألف دينار لتغطية تكاليف كراء البيت لمدة سنة والنفقات المتعلقة بنقل وتأثيث الملجأ. تقول هدى بكل بهجة “بفضل هذه البادرة التضامنية تمكنا من جمع ثلاثين ألف دينار، إضافة إلى موافقة زوجين متقاعدين على استئجار هذا البيت الجميل المصمم على الطراز الريفي والذي يعد حاليا بمثابة ملاذ لنا، بعد أن تعرضنا للرفض من العديد من المالكين الآخرين”.

Thumbnail

ولا تزال رائدة الأعمال الشابة تواصل دعمها لهدى، لاسيما من خلال جمعية “سايف” التي أنشأتها مؤخرا، والتي تتمثل مهمتها في العمل على حماية الحيوانات في تونس.

وأضافت هدى أنه “إلى جانب شهرزاد، يقدم لي عدد من المتطوعين بانتظام الطعام والأدوية، لاسيما وأنه ليس لدي أي مصدر دخل، كما أنهم يساعدونني على دفع تكاليف الاستشارات البيطرية وتغطية النفقات وصيانة المنزل، ولولا كل هؤلاء الناس لكان مصيري اليوم الشارع”.

وطوال هذه الرحلة، وهي ملحمة إنسانية مبطنة برسائل نبيلة جسدتها صاحبتها في علاقتها الوطيدة بهذه الكائنات، عرفت هدى كيف تحافظ على رأسها مرفوعا رغم كل الصعاب، فلم تثنها قسوة الناس ولا الصعوبات المالية عن عشقها النابض لهذه الحيوانات والتزامها منقطع النظير تجاهها.

ويبدو أيضا أن هدى وجدت في سفينة نوح للعصر الحديث ملجأها أخيرا. وعن ذلك تقول “هنا أعيش حياة هادئة محاطة بحيواناتي وأفضل العيش مع رباعي الأطراف عن العيش مع بني جنسي”. وقالت هدى مستهزئة وأنظار “ريكس” (كلبها الأعرج المخلص) تراقبها وما انفكت تطلب الاهتمام، “صحيح أن الاعتناء بكل هذه الحيوانات ليس مهمة سهلة، لكنني أفعل ذلك بكثير من الحب والشغف، وطالما أنا على قيد الحياة، سأغمرها بكل ما تحتاجه من حب وعطف كما لم تتلقاهما أبدا”.

اليوم لدى هدى حلم واحد فقط، وهو أن ترى أشخاصا آخرين يتبنون قضية الحيوانات وينسجون على منوالها من خلال إنشاء ملاجئ أخرى لتوفير حياة أفضل لكل هذه القطط والكلاب، التي تم التخلي عنها أو الاعتداء عليها.

 

اقرأ أيضاً:

         • تكاثر الكلاب السائبة.. تهديد متنام للتونسيين

16