في مرحلة ما بعد سايكس بيكو.. فدراليات يحركها التعاون الاقتصادي

واشنطن – في أوج الصراعات في منطقة الشرق الأوسط كثر الحديث عن تفسخ خارطة سايكس بيكو وتوقع الكثيرون انهيار الحدود التي رسمتها القوى الدولية المنتصرة في أعقاب الحرب العالمية الأولى. وبالفعل شهدت هذه الخارطة البعض من التغييرات لكن لم تكن على المستوى الجغرافي المادي بل على مستوى تحرك الجماعات التي أهملتها سايكس بيكو وباتت اليوم تبحث عن فرصتها في ظل حالة الفوضى في المنطقة.
وتدفع هذه الجماعات نحو ملمح جديد في الخارطة المرسومة، وهو ذلك المتعلق بما أسماه مارينا وديفيد أوتاواي، الباحثان في مركز وودرو ويلسون، بمناطق التعاون الاقتصادي الجديدة العابرة للحدود، ويعتبرانها “نهاية أنعم لسايكس بيكو”. ويشير الباحثان، في دراسة نشرتها مجلة سياسات دولية الأميركية، إلى أن هذه المناطق تجعل الحدود الشرق أوسطية سهلة الاختراق لكن بطريقة لا تمثل تحديا أمام الدول الحالية.
وقد تؤشر المصالح الاقتصادية المتبادلة وخاصة في صناعتي النفط والغاز لنهاية أنعم لسايكس بيكو. وتبدو هذه الديناميكية أكثر وضوحا على الحدود بين تركيا وكردستان العراق حيث تحدت الصفقات النفطية في السنوات الأخيرة بشكل مباشر مطالبة بغداد بالتحكم الحصري في موارد العراق الطبيعية. ويعتبر الباحثان أن التعاون الاقتصادي يبرز كبديل للعنف السياسي في أماكن أخرى أيضا، إذ تتناقش كل من قبرص واليونان وتركيا حول أنابيب النفط والغاز المشتركة على الرغم من خلافاتها. وكذلك الشأن بالنسبة إلى السودان وجنوب السودان اللتين قبلتا على مضض الحاجة إلى التعاون من أجل تصدير إنتاج البلدين من النفط بعد الانفصال في سنة 2011.
ويقول الباحثان “صحيح أن التعاون الاقتصادي لا يحل جميع المشاكل في هذه الأماكن لكنه يمكّن الدول من التعاون بطرق جديدة بدلا من التطاحن”.
أربيل وأنقرة تواصلان عقد الصفقات وتعميق تحالفهما في مجال الطاقة غير مكترثتين باحتجاجات بغداد
ويفسران التعاون الاقتصادي في حل المشاكل العالقة من خلال مثال العلاقة بين أنقرة وأربيل، حيث لم يمنع الخلاف التركي الكردي وموقف أنقرة الرافض لاستقلال تام لكردستان العراق من التعاون بينهما.
حكومة إقليم كردستان لا يمكنها تدبر أمرها بمفردها بل تحتاج إلى تعاون جارتها الشمالية. وعندما طلبت أربيل المساعدة، وافقت أنقرة، بعد تردد، على السماح للأنبوب الكردي الجديد بالربط مع خط جيهان، لكن الأهم من ذلك هو موافقة أنقرة أيضا على تنزيل الدفوعات النفطية الكردية في حساب البنك الكردي في تركيا، بدلا من تنزيله في الحساب البنكي الوطني للعراق في نيويورك حيث تذهب كل الدفوعات النفطية العراقية الأخرى.
وكان دعم الحكومة التركية لمسعى حكومة إقليم كردستان من أجل الاستقلال المالي تحوّلا مفاجئا. ويقول نواف خليل، مدير مركز الدراسات الكردية، لـ”العرب” إن “الأكراد في الأجزاء الأربعة يطمحون إلى إقامة الدولة الكردية لكن الوقائع والمتغيرات الجيوسياسية تتحكم بالقوى السياسية الكردستانية.
وأكثر الدول التي يمكن أن نقول إنها لم توفر شيئا لم تستخدمه ضد الأكراد هي تركيا التي ظلت تنكر الوجود الكردي حتى بداية السبعينات من القرن الماضي؛ وهي اليوم تحارب الأكراد باسم مكافحة الإرهاب. وتملك تركيا اليوم حوالي 16 قاعدة عسكرية في إقليم كردستان العراق وتهيمن على الإقليم اقتصاديا وسياسيا وحتى ثقافيا ودينيا”. ووفق دراسة مارينا وديفيد أوتاواي تمثل كردستان بفضل أمنها واستقرارها النسبي مناخا مواتيا جدا بالنسبة إلى الأعمال التركية مقارنة بباقي العراق. وبحلول 2012 تركز 70 بالمئة من إجمالي التجارة والاستثمار بين البلدين في كردستان، بالرغم من أن سكانها لا يمثلون سوى سدس مجموع سكان العراق؛ ومع ذلك تعارض تركيا استقلال كردستان العراق.
ويقول نواف خليل إن “تركيا لا يمكن بحال من الأحوال في ظل الظروف الراهنة والحرب التي تخوضها ضد الأكراد في تركيا أن تُقَدم أي عون أو أن تظهر موافقتها على استقلال كردستان العراق”. وستحاول الإبقاء على أدوات الضغط التي تملكها ضد القيادات الكردية في العراق سواء من خلال الورقة الاقتصادية، وخاصة الأموال المودعة في البنوك التركية نتيجة بيع النفط والبوابة الحدودية معها والآلاف من الشركات التركية العاملة وخاصة في مناطق نفوذ الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي يتزعمها مسعود البارزاني.
تدبر أمرك بنفسك
يواصل كل من كردستان العراق وتركيا عقد الصفقات وتعميق تحالفهما في مجال الطاقة غير مكترثين باحتجاجات الحكومة المركزية. ويمثل التعاون بين أنقرة وحكومة إقليم كردستان تحديا مباشرا لآمال بغداد في المحافظة على عراق ذي سلطة مركزية، إذ تعكس الأنابيب والاتفاقات في مجال الطاقة بين كردستان وتركيا رؤية أخرى للعراق تتميز باستقلالية قوية للأقاليم وحدود سهل اختراقها. وبالطبع لا يسعى إقليم كردستان وراء مصالحه الاقتصادية في فراغ، إذ ساهم عجز بغداد في استخدام المداخيل النفطية لبناء العراق- إذ مازالت جل مناطق البلاد تعاني من نقص في الكهرباء- في دفع أربيل إلى شق طريقها بمفردها.
كردستان يمثل بفضل أمنه واستقراره النسبي مناخا مواتيا جدا بالنسبة إلى الأعمال التركية مقارنة بباقي العراق
وكانت محاولة نوري المالكي الإبقاء على السلطة المركزية على المحافظات العراقية أوقدت العنف الإثني والطائفي، وهذا بدوره أثار الشكوك حول قدرة العراق على الحفاظ على وحدته. وبالفعل يمكن لمجهود بغداد في تعطيل التعاون الكردي التركي أن يأتي بنتائج عكسية بسهولة تامة وذلك بتحفيز حكومة إقليم كردستان على إعلان استقلال كردستان.
وفي نهاية المطاف لا يريد أي من الطرفين هذه النتيجة إذ لا تريد بغداد خسارة كردستان ونفطه، وإقليم كردستان غير مستعد لمواجهة تحديات الاستقلال، بما في ذلك خسارة المداخيل النفطية على المدى القصير، والإضرار بالعلاقات الكردية مع تركيا التي تفضل التعامل مع منطقة متمتعة بشبه استقلال ذاتي بدلا من دولة كردية مستقلة، ومسيرة طويلة ومكلفة للتحصل على الاعتراف الدولي.
بيد أن الخلاف لم يمنع بغداد من الترفيع في رهاناتها وذلك بإمساك التمويلات المخصصة لكردستان في الميزانية الوطنية والتهديد برفع قضايا ضد حكومة إقليم كردستان والحكومة التركية وأي شركة تساعد على تصدير النفط الكردي دون موافقتها. ووصل وزير النفط العراقي عبدالكريم اللعيبي إلى حد إخبار الصحافيين في يناير الماضي بأنه إذا قامت تركيا بتسهيل تصدير النفط الكردي فإنها “تتدخل في تقسيم العراق”.
إذا قبلت بغداد في النهاية استقلالية كردستان المالية المتنامية وتعاونها مع تركيا فذلك سيكون بمثابة إضعاف كبير غير عنيف لنظام سايكس بيكو القديم.
وعلى الرغم من أن الحكومة المركزية ستحافظ على تحكمها في الجزء الأكبر من نفط العراق فإنها فعليا ستقر بحقيقة أن وجود دولة مركزية لها حدود صارمة لم تعد تعكس الحقائق الاقتصادية والسياسية الراهنة. وعن طريق جذب المزيد من الاستثمارات وتصدير المزيد من النفط والغاز، ستبتعد كردستان العراق أكثر عن بغداد مع مرور الوقت.
وبالطبع لدى بغداد الأسباب الوجيهة للخشية من تلك النتيجة فهي لا تجازف فقط بخسارة السيطرة على النفط الكردي، لكن وجود كردستان مستقلة ومزدهرة لها علاقات وطيدة مع دول أجنبية يمكن كذلك أن يصبح نموذجا لمحافظات عراقية أخرى غير راضية بحكم الحكومة المركزية العراقية الفاسد والمتسلط وترغب في التحكم في مواردها النفطية الخاصة بها.
ويطرح الباحثان كمثال على ذلك نينوى، المحافظة الشمالية ذات الغالبية العربية السنية الواقعة غرب أربيل. ومثلهم مثل أغلب السنّة عارض زعماء نينوى في البداية الحكم الذاتي الكردي لأنهم رأوه خطوة أولى في اتجاه تقسيم البلاد. لكن احتمال الاكتشافات النفطية في محافظتهم ومثال كردستان يغير نظرتهم. لقد قضى محافظ نينوى أثيل النجيفي عدة سنوات يتصارع مع الحكومة المركزية من أجل الحصول على تمويلات مخصصة لمحافظته بقيت عالقة في المتاهة البيروقراطية لبغداد، ويتوقع أن يرحب النجيفي بمورد مالي مستقل.
وفي أكتوبر 2011 عندما أمضت شركة أكسون موبيل عقود استكشاف مع حكومة إقليم كردستان تخص ستة حقول نفطية في كردستان، اثنان منهما يقعان في منطقة حدودية متنازع حولها مع نينوى، أدان النجيفي الصفقة على الفور، لكن بحلول يونيو 2012 غيّر من لهجته مجادلا بأن على نينوى التحدث مباشرة مع أكسون موبيل وحكومة إقليم كردستان حول الاستغلال المشترك للنفط في المنطقة المتنازع عليها. كما قال النجيفي إن على نينوى اتباع خطى جيرانها الأكراد والتحول إلى منطقة فدرالية شبه ذاتية الحكم. وبالرغم من تصويت مجلس المحافظة في بداية هذا العام لمصلحة هذا التغيير فقد عطلت بغداد هذه العملية.
كذلك تفكر عدة محافظات شيعية وسنية في اتخاذ خطوات في اتجاه الحكم الذاتي. مثلا سعت محافظة البصرة ذات الغالبية الشيعية إلى الانفصال عن بغداد منذ سنة 2008. وكان مجلس المحافظة صوّت عدة مرات من أجل دفع لهذه المسألة إلى واجهة الاهتمام. وتكتسب هذه المحافظة أهميتها خاصة من احتوائها على قرابة 60 بالمئة من احتياطيات النفط المثبتة في البلاد.
الخلاف لم يمنع بغداد من إمساك التمويلات المخصصة لكردستان في الميزانية الوطنية والتهديد برفع قضايا ضد حكومة الإقليم
وصوّتت الأنبار وديالى وصلاح الدين وهي محافظات ذات غالبية سنية، لفائدة الإعلان عن استقلالها الذاتي عن بغداد في أواخر سنة 2011 وبداية سنة 2012. لكن المالكي رفض هذه الدعوات. وفي المجموع قرابة نصف المحافظات العراقية الثمانية عشر بصدد إعداد خطط للحكم شبه الذاتي الخاص بها.
المكافأة
لا يقتصر ظهور مناطق التعاون الاقتصادي العابرة للحدود كبديل لانحلال الدولة على كردستان العراق وتركيا. واعتمدت أنقرة التجارة الحرة بمثابة أداتها الدبلوماسية المفضلة. قبل انتفاضة 2011 في سوريا فتحت تركيا حدودها مع جارتها الجنوبية التي تمتد من الساحل المتوسطي ذي الأغلبية العلوية إلى شمالها الشرقي الكردي. وأصبحت المدن الحدودية التركية مراكز تسوّق للسوريين الذين يعيشون على مسافة قريبة بالسيارة ومراكز عبور للشاحنات التركية التي تحمل البضائع إلى الخليج.
وأطلق المعارضون على هذه السياسة “العثمانية الجديدة”، أي محاولة مقنعة تقوم بها تركيا لاستعادة هيمنتها السابقة في الشرق الأوسط. وبالتأكيد يوجد نوع من التكبر الامبريالي في الخطط التركية، كما أن المصلحة الذاتية والرغبة في الحصول على الطاقة الرخيصة هما الدافعان الأساسيان وراء سياسة أنقرة تجاه كردستان العراق. ومع ذلك فإن تلك السياسة هي أيضا ردة فعل للقوى الإثنية والطائفية العنيفة التي تهدد بزعزعة الدول العربية حيث لم تختف الفوارق من ذلك النوع.
وحتى بوجود هذه العداوات يمكن للجيوب الطائفية والإثنية تقليد حل كردستان العراق وذلك عن طريق السعي إلى تحقيق الاستقلال الذاتي والتعاون في إطار منطقة اقتصادية أوسع مع البقاء اسميا داخل الحدود الوطنية القديمة. ويمكن لسوريا التي تمزقها الحرب أن تتبع هذا النموذج عندما يتوقف القتال ويشرع السوريون في التفكير في كيفية العيش معا من جديد.
ويبدو أن هناك إمكانية ضعيفة لاستعادة الدولة البعثية السابقة والمركزية بدرجة عالية نظرا لجيوب السيطرة التي أقامها المتمردون في كافة أنحاء البلاد. لكن عواقب انقسام سوريا إلى دويلات غير قابلة للحياة ستكون قاتمة. والبديل عن ذلك الوضع هو اعتماد شكل فدرالي واعد استنادا إلى الأجزاء الأفضل من الدستور العراقي. ووفقا لهذا النظام الفدرالي سيكون هناك نوع من الاستقلالية الذاتية للأكراد في الشمال، والسنة في الشرق، والعلويين على طول الساحل، وتندمج كل هذه الأجزاء في اقتصاد تعاوني إقليمي.
ويخلص الباحثان مارينا وديفيد أوتاواي إلى أن هذا النوع من الحل المعتمد على التعاون الاقتصادي يمكن أيضا أن يقدّم مخرجا من الصراعات الأخرى في المنطقة؛ فيما يرى المحلل السياسي السوري في الشؤون الكردية إبراهيم إبراهيم أن التحليل السابق وما جاء فيه من محاولة إسقاط التجربة العراقية على الواقعة السورية لا يتطابق في العديد من النقاط والقضايا.
ويقول إبراهيم لـ”العرب” إن “سوريا لا ينقذها سوى النظام الاتحادي الفدرالي الذي يضمن حقوق وواجبات جميع مكونات سوريا الاجتماعية سيما وأن التقسيم عمليا حاصل وسوريا فعلا مهددة بالتقسيم المذهبي الطائفي”. ويوضح إبراهيم أن ما يطرحه الأكراد ليس تقسيما أو فدرالية قومية أو مذهبية أو دينية بل فدرالية جغرافية سياسية واصطلاحا “نسميه سوريا الفدرالية وليس الفدرالية الكردية كما يروّج لها البعض”.
ويضيف “قد يكون النفط مثلا في سوريا عاملا مهما لتحقيق التنمية ويكون عاملا مهما في التقارب بين جميع مكونات الشعب السوري بحيث يستفيد منه الجميع وليس فئة معينة. وهذا يتم بالحوار والاحترام والاعتراف بالآخر لكن الانفراد بالسيطرة على النفط وموارد معينة سيزيد احتمال صراعات أخرى وهذا ما لا نريده”.
ويعتقد نواف خليل أن الوقائع على الأرض في سوريا وخارطة تواجد القوى الدولية والإقليمية والمحلية تشي إلى حد كبير بالمستقبل السوري. ويقول خليل إن “الدولة المركزية ولت ولن تعود”.
ويضيف أن “القيادة الكردية تعتبر تطوير العلاقات مع العرب والسريان والأشوريين والأرمن والتركمان والشركس هي القضية المحورية التي يسعون إلى تحقيقها وتطويرها لأنها الأساس في المستقبل وخاصة أن تلك المكوّنات هي من ناقشت فدرالية الشمال السوري التي تضم الآن عشرات الآلاف من المقاتلين وجغرافية ممتدة وعدة قواعد أميركية”.