في مديح سوء التقدير

سوء التقدير شيء ممتع. “دروس التاريخ” كلها هي نتيجة من نتائج سوء التقدير. تخوض حربا فتخسرها، فتتعلم وتكتشف أين أسأت التقدير، على أمل ألا تكرره مرة أخرى.
الغطرسة هي أحد أهم مصادر سوء التقدير. إنها عمى للبصيرة. وأحيانا للبصر نفسه.العراقيون، خاضوا حرب اجتياح الكويت، بالغطرسة. لا أكثر. فخسروها وخسروا معها كل شيء. عميت أبصارهم عن رؤية الحقائق التي تحيط ليس بهذا البلد وحده، وإنما بتحالفاته الإقليمية والدولية أيضا.
الكويتيون الذين كانوا أخوة أقرب من الأخوة للعراقيين خلال حرب الثماني سنوات مع إيران، أصبحوا أعداء، أكثر ضراوة من الأعداء الآخرين.
ولئن لم يحن الوقت لكي يقول العراقيون ما الذي تعلموه من سوء التقدير، لأنهم وقعوا في حفرة ولم يخرجوا منها، إلا أن كثيرا منهم صار قادرا على أن يتحدث عن دروس.
◙ سوء التقدير نشأ ليقدم لروسيا درسا عظيما في الهزيمة المنكرة. إنه شيء ممتع. لم تكن هذه البلاد الضخمة محصنة من الهزائم، برغم كل ما امتلكته من قوة
الثمن باهظ. ولكن الدروس الثمينة لا تأتي إلا من خسائر باهظة. ليس القادة والنخب هم أول من يتعلم بالضرورة. ولكنّ وعيا جمعيا عادة ما ينشأ بعد كل كارثة، فيصحح مسارات الفهم.
الألمان واليابانيون أصبحوا أكثر شعوب العالم تحسبا من سوء التقدير، لأنهم اكتووا أكثر من غيرهم. قياداتهم اليوم شديدة النضج والتأني وتحرص على اقتفاء معالم الدروس، أملا بأن يعملوا كل ما هو صحيح.
أخطاء صغيرة ما يزال من الممكن أن تقع. ولكن لا شيء جسيما. وبالتأكيد، لا شيء يشكل تهديدا شموليا. سوء التقدير الشمولي السابق، هو الذي دلّهم على السبيل الصحيح.
سوء التقدير مفيد. روسيا اليوم في حاجة ماسة إليه. سوف تتعلم، مثلا، أن الأسلحة النووية ليست هي ما يصنع “القوى العظمى”. “أشباه الموصّلات”، التي يعتبرها الرئيس جو بايدن “مسألة أمن قومي”، أهم في الواقع من كل صواريخ الرئيس فلاديمير بوتين وقنابله.
الأسلحة مهمة، ولكنها ليست كل شيء. فما يقف خلفها من تقدم علمي وتكنولوجي ويتحول إلى صناعة قائمة بذاتها، أهم من تلك الأسلحة، لأن هذا التقدم هو مصنع القدرات والأفكار والإمكانيات.
شيء مخز، لمكانة “القوة العظمى”، أن تجد روسيا نفسها في حاجة إلى طائرات مسيّرة إيرانية، وإمدادات صواريخ من كوريا الشمالية. لو دخلت الولايات المتحدة حربا، فإنها لن تطلب أسلحة من فنزويلا. بالنسبة إلى الأميركيين، فإن خسارة الحرب أرحم من ذلك.

◙ روسيا ما بعد الهزيمة في أوكرانيا قد يمكنها أن تكون دولة عظمى بالمعنى الذي يستبعد الغطرسة ويستفيد من "دروس التاريخ"
قد تكون هناك أسباب جديرة بالاعتبار لنزاع دبلوماسي مع أوكرانيا، تشبه الأسباب الجديرة بالاعتبار للنزاع الدبلوماسي بين العراق والكويت عام 1990. ولكن الاجتياح قصة أخرى. وحالما يبدأ من غطرسة القوة، أو عماها، فإنه سرعان ما ينتهي بمأساة.
ليست المسألة أن هناك “هجوما أوكرانيا مضادا” يمكن أن ينقلب في أيّ وقت. إنها مسألة الاستنزاف نفسه. مع كل “هجوم مضاد” وهجوم مضاد له، ستكون هناك خسائر أكبر، ثم أكبر. منذ أن انسحبت القوات الروسية من محيط كييف، اتضحت الإمكانيات والأحجام على حقيقتها.
أوكرانيا ليست كيانا “لا مبرّر جيوسياسيا” له. لقد صنعت هذه الحرب مبرّره، إن لم يكن موجودا أو كان مشكوكا فيه من قبل. صنعت شعبا يقاوم من أجل أن يثبت أن له وجودا مستقلا يستحق أن يُحترم، ليس في ساحات القتال وحدها، وإنما في الجامعات الروسية التي تعلّم طلابها سخافات العودة إلى إمبراطورية “أوراسية” لا علاقة لها بالواقع.
روسيا حاولت أن تكون أوروبية المعنى والأدب والثقافة. لم تنجح. بقيت تترنح بين وجهتين. إحداهما، وطأة شرق آسيوي لا يلحق بالتاريخ إلا متأخرا.
اجتاح المغول روسيا مثلما اجتاحوا شرقنا العربي نفسه. فعادوا مسلمين. لم يأخذوا شيئا من روسيا، ولم يعطوها أيّ شيء. هناك سبب، لم يكتشفه ألكسندر دوغين، أحد أكاديميي الغطرسة في روسيا. السبب هو أن روسيا دولة استبداد بلا روح. ترك المغول قصور الثراء والفخامة، وصاروا يمرّغون جباههم بتراب الأرض عندما يصلّون خمس مرات في اليوم. كانت تنقصهم الروح، فوجدوها في بغداد.
بوتين اعتبر تحديد سقف لسعر الغاز الروسي شيئا “غبيا” لأن الأسعار سوف ترتفع أكثر. في البدء، افترض أن الغاز الروسي يمكن أن يستعبد أوروبا، برخصه، فيتيح له أن يتوسع وأن يغزو بلدانا ليستعيد أمجاد الماضي التليد.
حسابات الواقع تقول الآن إن الغاز الروسي حتى ولو انقطع كليا، فأوروبا لن تركع. البدائل تنمو. ومصادر الإمداد تزداد. الأسعار آخر ما يهمّ. التحالف الغربي الذي طبع 15 تريليون دولار لمواجهة وباء كورونا، يستطيع أن يطبع أكثر منها لمواجهة وباء الغطرسة الذي يهدد وجوده. المال آخر ما يهمّ.
التوجه شرقا يبدو وكأنه هو الحل بالنسبة إلى روسيا. هذا جزء آخر من عمى الغطرسة. ما لا تراه موسكو، أن الغرب هو من يدفعها إليه دفعا، ظنا منه أن نمط الاستبداد الشرقي هو ما يليق بروسيا الآن. يريد عزلها، أو دفنها فيه. هذا هو المغزى من وضع “سقف” غربي لسعر النفط والغاز الروسيين. العبارة تقول “اذهب لتبيع شرقا، وابق هناك”. الموانئ الأوروبية ستبقى مغلقة على السفن الروسية، لتذهب إلى حيث ألقت رحلها شرقا. إنه عمل من أعمال الطرد الجغرافي، وليس مجرد “إعادة تسعير”.
◙ الثمن باهظ ولكن الدروس الثمينة لا تأتي إلا من خسائر باهظة وليس القادة والنخب هم أول من يتعلم بالضرورة ولكنّ وعيا جمعيا عادة ما ينشأ بعد كل كارثة فيصحح مسارات الفهم
تجارة الصين الأكبر ليست مع الشرق، ولا مع أفريقيا. إنها مع الغرب. مع الولايات المتحدة بالدرجة الأهم. هناك سوقها الرئيسي. هذه حقيقة معروفة، ولكن غير منظورة في الكرملين. الصين قوة عظمى، صحيح. لا تنقصها التكنولوجيا، ولا أشباه الموصلات. بل يمكن أن تذهب إلى القول إنها ثاني أو حتى أول اقتصاد في العالم. إلا أنها تتكئ على الغرب.
لقد أثبتت روسيا أنها “قوة عظمى” ولكن بمقاييس حلب، وليس بمقاييس كييف. الحرب في أوروبا، ليست كالحرب في سوريا. طيور القوة لا تطير بمفردها هناك. إنها عالم فيه من أساطير العظمة ما يكفي ليجعل الإمبراطورية النمساوية – المجرية، قصة لا مثيل لها. يوجد في فيينا وحدها من روح الفن والموسيقى والمعمار ما لم تملكه روسيا القيصرية. بقيت الروح وزالت الإمبراطورية. ولكن ماذا تفعل لإمبراطورية ظلت بلا روح. حكمها على مدى قرن كامل، مَنْ يقتلون بالفأس، أو بمادة “نوفيتشوك”، أو بإلقاء الجثة من نافذة طابق المستشفى السادس، أو خنقا إذا عزّت الوسائل. هذه هي روسيا من ستالين إلى بوتين.
سوء التقدير نشأ ليقدم لروسيا درسا عظيما في الهزيمة المنكرة. إنه شيء ممتع. لم تكن هذه البلاد الضخمة محصنة من الهزائم، برغم كل ما امتلكته من قوة. لا تحت سلطة بطرس الأكبر ولا تحت سلطة ستالين. معاني القوة لا تبقى هي نفسها أيضا، ولا يمكن الرجوع إليها والى أساليبها. احتلال المزيد من الأراضي ليس من بينها بكل تأكيد.
ولكن روسيا ما بعد الهزيمة في أوكرانيا قد يمكنها أن تكون دولة عظمى بالمعنى الذي يستبعد الغطرسة ويستفيد من “دروس التاريخ”.
وما لم يكسبها الشرق الآسيوي إلى الأبد، فإنها سوف تدرك ما أدركه الألمان واليابانيون. تخسر الحرب وتكسب سوء التقدير.