في فضائل العمل عن بعد.. ومساوئه

للوهلة الأولى بدا العمل من غرفة النوم، أو من غرفة الاستقبال، لمن كان مثلي لا يمتلك ترف غرفة إضافية يحولها إلى ورشة، نعمة ومكسبا لا يضاهيه مكسب آخر.
لست مضطرا إلى الخروج من دفء المنزل لتستقبلك ريح باردة شتاء، وحر يخنق الأنفاس صيفا، بينما تهرع إلى اللّحاق بالحافلة أو القطار، محشورا بين جمع غفير الكل فيه يحاول طرد النوم من عينيه.
توجهنا بالشكر إلى فايروس كورونا، رغم الذعر الذي انتابنا منه بداية. وبالطبع، شكرنا أكثر الثورة الرقمية التي من دونها ما كان بالإمكان لنقلة مثل هذه أن تحدث.
ما بدا لنا تحررا من رقابة رؤساء العمل انقلب بعد وقت قصير إلى رقابة، على مدار الساعة.
أصحاب العمل والرؤساء التنفيذيون اكتشفوا أيضا محاسن العمل عن بعد؛ في البداية كان الاقتصاد في النفقات على رأس تلك المحاسن، خاصة مع الارتفاع الحاد في إيجارات المساحات المكتبية في مراكز المدن الكبيرة، وفاتورة التدفئة والتبريد والإضاءة. خشيتهم الوحيدة كانت فقدان السيطرة على المستخدمين.
بمرور الوقت قطفت الشركات ثمار العمل عن بعد، ظهر ذلك في دفاتر الحسابات، وفي إنتاج العاملين. معظم الشركات التي خططت لعودة الموظفين إلى المكاتب بعد زوال خطر الوباء، تراجعت عن مخططها، وما كان حلا مؤقتا فرضه الوباء تحول إلى خيار دائم.
الأهم من هذا كله أن العمل عن بعد لم يُفقد أصحاب العمل والمدراء السيطرة، على العكس تماما وجدوا فيه مبررا أخلاقيا لفرض رقابة على مدار الساعة، والفضل في ذلك يعود إلى تكنولوجيا الاتصالات وما وفرته من تطبيقات مثل سكايب وواتساب ومسنجر وزوم…، وبالطبع لا ننسى الوسيلة التقليدية البريد الإلكتروني (الإيميل).
النشوة التي رافقت العمل من المنزل تبخرت بمرور الوقت. ما ظنوه بداية انعتاقا وحرية، انقلب إلى روتين وعزلة قاتلة، تفاقمت عند البعض لتصبح حالة اكتئاب شديدة.
لم يجد العزاب سوى العمل يغرقون فيه هربا من مشاعر العزلة. ساعات العمل الثماني في اليومي أصبحت عشر ساعات وأحيانا أكثر. الوفرة التي تجمعت لديهم بالاستغناء عن التنقل تبدّدت في شراء الأطعمة الإضافية، وأنفقها آخرون في الشراب، ليجدوا بمرور الوقت أن وزنهم زاد وصحتهم تدهورت.
المتزوجون لم يكن حالهم أفضل، فسرعان ما تسرب الملل بين الطرفين وظهرت المشاكل الزوجية، وطفت الخلافات على السطح.
الأخبار السيئة لم تأت بعد.
بدلا من أن يخفف العمل عن بعد رقابةَ المسؤولين -هكذا اعتقدنا جميعا- سهّل الرقابة. وطور المسؤولون مستعينين بالتكنولوجيا أدوات تساعدهم على اقتفاء تحركاتك وإحصاء أنفاسك.
في راويته "1984" أثار جورج أورويل الفزع من سلطة "الأخ الأكبر"، الذي يرى ويعلم ويراقب كل شيء.
الرواية التي كتبها أورويل قبل 74 عاما تحدثت عن علاقة الحاكم بالمحكوم، تنبأت بمستقبل مخيف يهدد خصوصية البشر، وذلك بإخضاعهم لأنظمة شمولية ترصد كل حركة صادرة عنهم.
اليوم يأتي الأخ الأكبر على أكثر من هيئة وشكل، ويحاصرك بعشرات التطبيقات وفي كل الأوقات.