في ذكرى تأسيسه الـ78: دعوات لاستعادة الاتحاد العام التونسي للشغل لاستقلاليته

بعد عقود من المواجهات الشرسة مع الأنظمة الحاكمة، يتهم الاتحاد العام التونسي للشغل اليوم بفقدان مصداقيته واستقلاليته كمنظمة وجدت من أجل الدفاع عن حقوق العمال، حيث يتهمه البعض بالتسييس والانشغال بحرب الامتيازات الداخلية بين قياداته، على حساب الأزمات التي تواجهها تونس.
تونس - تحل الذكرى 78 لتأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل، هذا العام، لتثير العديد من التساؤلات حول تراجع نفوذ أكبر منظمة نقابية بتونس، حيث يتهمها البعض بالتسييس والتخلي عن مبدأ الحياد في العمل النقابي بالإضافة إلى سقوطها في فخ “البيروقراطية النقابية” و”المنافع والامتيازات”.
والاتحاد تأسس في 20 يناير 1946، على يد الزعيم النقابي فرحات حشاد، الذي اغتالته فرنسا البلد المستعمر بمدينة رادس جنوب تونس العاصمة في 5 ديسمبر 1952.
وهو يعد أقوى منظمة مدنية تونسية، ويضم ما لا يقل عن 80 في المئة من موظفي الدولة، وتأسس قبل 10 سنوات من استقلال تونس عن الاستعمار الفرنسي.
ويتهم منتقدون الاتحاد بمحاولة إمساك العصا من المنتصف، في ظل توقيفات لشخصيات، بينهم نقابيون، وأزمات سياسية واقتصادية واجتماعية، فيما طرح الاتحاد مع مكونات أخرى من المجتمع المدني أواخر عام 2022 مبادرة لحوار وطني، وحشد احتجاجات ضد بعض سياسات رئيس البلاد قيس سعيد.
لكن سعيد رفض هذه المبادرة قائلا إن “الحوار يتم في البرلمان، وهي مهمة المشرّع المتمّثلة في المصادقة على مشاريع القوانين”.
ويرى مراقبون أن نفوذ الاتحاد برز بعد ثورة 2011، التي أطاحت بالرئيس زين العابدين بن علي (1987 – 2011)، ولكنه يشهد تقلصا منذ أن شرع سعيد في إجراءاته الاستثنائية في يوليو 2021.
وقال مسؤول في المنظمة النقابية إن الاتحاد “يتجنب التصادم” لأن البلاد “لا تحتمل”، لكنه لن يقبل بتواصل “تدمير وتفكيك الدولة”، وإن اضطر إلى خيار التصادم “فلن يتردد”، نفيا لوجود حالة خوف أو ملفات بيد السلطة تدين الاتحاد.
وفي حين أكد سياسي معارض وجود تراجع في دور الاتحاد منذ عام 2021، متهما السلطة بأنها لا تؤمن بالأجسام الوسيطة، أكد نقابي سابق ضرورة أن يتمسك الاتحاد بالاستقلالية حتى لا تجد السلطة ثغرة وتتهمه بالتسييس.
وبالتزامن مع ذكرى تأسيس الاتحاد أكد خبراء في التاريخ النقابي والعمل الجمعياتي خلال ندوة نظمتها “جمعية ابن الهيثم للثقافة والعلوم” حول “تاريخ الاتحاد العام التونسي للشغل واستقلالية العمل النقابي” أن المنظمة النقابية العمالية التي كافحت منذ تأسيسها من أجل استقلاليتها عن جميع السلطات، مدعوة في هذه المرحلة إلى مراجعة نقدية لمسارها في العشرية الأخيرة أمام ما وجه لها من تهم بالتسييس.
وأثار المشاركون في الندوة موضوع استقلالية الاتحاد العام التونسي للشغل من وجهة نظر داخلية ونفوذ “البيروقراطية النقابية” في قيادة الاتحاد و”المنافع والامتيازات” التي تتمتع بها ومن زاوية النظر للمسار الذي دشنه الاتحاد بالمشاركة مع الرباعي الراعي للحوار الوطني حول الدستور سنة 2014 والذي أصبح ينتقد فيه الاتحاد بـ”ممارسة السياسة” و”الإضرار بالمصلحة الوطنية”.
وقال الأستاذ بكلية الآداب بسوسة والمتخصص في تحليل العمل الجمعياتي والنخبة التونسية عادل بن يوسف “إن الاتحاد مدعو إلى مناقشة نهجه خلال العشرية الموالية لسنة 2011 والقيام بالمراجعة والقراءات النقدية اللازمة” للحفاظ على استقلاليته وحياد العمل النقابي عن العمل السياسي.
دور متراجع
قال عضو المكتب التنفيذي للاتحاد سامي الطاهري إن التأسيس “ذكرى عزيزة علينا، و78 سنة تاريخ عريق من النضال والتحرك الاجتماعي والتأثير على المستوى الوطني ومن الأدوار المختلفة التي لعبها الاتحاد”.
وأضاف الطاهري أن “الذكرى تتميز هذا العام بمؤشرين كبيرين، الأول حرب الإبادة الواقعة ضد الشعب الفلسطيني من قِبل إسرائيل والقوى الأميركية والبريطانية والأوروبية. وأما الثاني فهو الوضع الداخلي في تونس الذي تأثر بأزمة امتدت منذ 2021 إلى الآن وكانت لها تبعات على مستوى شلل الحياة السياسية وتدهور الوضعين الاقتصادي والاجتماعي”.
وفي يوليو 2021، شرع سعيد في إجراءات استثنائية، بينها حل مجلسي القضاء والنواب وإصدار تشريعات بأوامر رئاسية وإقرار دستور جديد عبر استفتاء وإجراء انتخابات برلمانية مبكرة، ومن المقرر إجراء انتخابات رئاسية في وقت لاحق من العام الجاري.
وتعتبر قوى تونسية في مقدمتها الأحزاب الإسلامية هذه الإجراءات “انقلابا على دستور 2014 وتكريسا لحكم فردي”، بينما تراها قوى أخرى “تصحيحا لمسار ثورة 2011”.
وقال الطاهري إن “الحرب على غزة والوضع الداخلي يجعلان من دور الاتحاد ذي أهمية ونحن نحتفل بالذكرى تحت شعار ‘الاتحاد في خدمة المقاومة في فلسطين’ كما كان منذ 1948 وسيواصل على هذا، باعتبار أن هذه القضية هي القضية الأم والرئيسة للتونسيين وأغلب العرب، ما عدا النظام الرسمي العربي”.
وأضاف أن “الاتحاد سيلعب دوره في توضيح الأزمة التي تعيشها البلاد وطرق حلها ومن أهم السبل هو الحوار الوطني والتشاركية بين كل مكونات المجتمع؛ فهذه أزمة داخلية وإقليمية وعالمية لا يمكن الخروج منها برأي واحد وفكر واحد”.
ومشددا على أهمية الاتحاد، أردف الطاهري “جاء الوقت ليعي الجميع أن هذه الأزمة لا بد أن نخرج منها مشتركين، وهنا يأتي دور الاتحاد في أن يقنع ويؤثر كي تحاول السلطة والمعارضة ومكونات المجتمع المدني أن تجد حلولا للأزمة”.
وبشأن ما يعتبره مراقبون تراجعا لدور الاتحاد ونفوذه بعد إجراءات سعيد الاستثنائية، قال الطاهري إن “الحديث عن صمت الاتحاد فيه ما يمكن أن يكون صحيحا”.
وأوضح أن “الاتحاد اتخذ إستراتيجية تجنب التصادم، ليس خوفا أو كما يُقال إن هناك ملفات بيد السلطة تدينه؛ لأنه لو كان للسلطة أيّ ملف لما ترددت في استخدامه ورقة ضد الاتحاد.. نحن نتجنب التصادم؛ لأن البلاد غير قادرة على تحمل أيّ تصادم”.
ولكن هذا الموقف ليس نهائيا من جانب الاتحاد، إذ قال الطاهري “الوضع لا يحتاج إلى مثل هذا الخيار (التصادم)، وإن اضطررنا إلى ذلك لن نتردد، دفاعا عن النفس وعن تونس”.
وتابع “لا نقبل أن تتواصل هذه الشعبوية وتدمير وتفكيك الدولة، بدعوى البناء القاعدي والشركات الأهلية، وبدعوى رؤى حتى أصحابها لا يفهمون منها شيئا. ونأمل أن تكون أزمة وتمر وقوسا ويغلق في هذا البلد دون أضرار كثيرة ودون تبعات وارتدادات قد تؤدي إلى احتراب أردنا تجنبه”.
“أكدت لي قيادات في الاتحاد أنه لا توجد ملفات تدينه، وإن وجدت فهي ضد أشخاص وليس المنظمة”.. هكذا قلل رئيس حزب العمل والإنجاز وعضو جبهة الخلاص الوطني المعارضة عبداللطيف المكي من إمكانية وجود مثل هذه الملفات.
وتابع “بالتالي لا يمكن أن تؤخذ هذه الآراء بعين الاعتبار، وهي موجودة في قيادة مَن يريد جر الاتحاد إلى المساندة التامة الشاملة لما يجري الآن باسم مساندة 25 يوليو (الإجراءات الاستثنائية)، وهذا سيضر بالاتحاد”.
وأردف “مثلما حصل، حين تم جر الاتحاد إلى مساندة الحزب الاشتراكي الدستوري، واضطر النقيب الحبيب عاشور رحمه الله إلى أن ينفصل عن المكتب السياسي للحزب الدستوري (ديسمبر 1977 قبيل التصادم مع النظام في 26 يناير 1978 أو ما يُسمى بـ”الخميس الأسود” لكثرة الضحايا)، وكان لذلك ثمن محاكمات وسجون”.
نفوذ الاتحاد برز بعد ثورة 2011، التي أطاحت بالرئيس زين العابدين بن علي (1987 – 2011)، ولكنه يشهد تقلصا منذ أن شرع سعيد في إجراءاته الاستثنائية في يوليو 2021
المكي استدرك بالقول “لكن الاتحاد وضع على سكة الاستقلالية، ويجب أن يوجد نفس تفكير التيار الديمقراطي المستقل، أو ما يُسمى ‘العاشوريين’؛ لأننا جميعا في حاجة إلى منظمة تمثل الطرف الاجتماعي للحديث معها وللتشاور في إنجاز المنوال التنموي والاجتماعي والاقتصادي”.
وبالنسبة إلى موقف السلطة من الاتحاد وغيره من منظمات المجتمع الدني، قال المكي إن “السلطة لا تؤمن بالأجسام الوسيطة، وبالتالي تهاجمها جميعا، رغم أن التنسيقيات التابعة لسعيد هي أجسام وسيطة”.
واعتبر أن “النظام الذي يريده قيس سعيد هو غطاء ورقة توت لحكم الفرد، مثل المجالس (المحلية) التي تُنتخب بترشحات فردية (..) السلطة لديها فلسفة كاملة تؤدي إلى استهداف الأجسام الوسيطة الأكبر فالذي يليه”.
ومقرا بـ”تراجع دور الاتحاد بعد يوليو 2021″، أضاف المكي أن “المنظومة السياسية متكونة من “الأحزاب السياسية الحاكمة والمعارضة والمنظمات الوطنية الكبرى والمجتمع المدني والإعلام والنخب”
وأضاف أن “الاتحاد كان يلعب دورا في هذا الإطار، والأكيد صارت تجاوزات من الجميع من الأحزاب والمنظمات والإعلام والنخب.. ونحن في حاجة إلى منظمات ونخب وإعلام حر وأحزاب، ولا بد أن نراجع وأن نطور لتكون المنظومة الديمقراطية ناجحة”.
استعادة الاستقلالية
أما رشيد النجار، وهو عضو سابق في الاتحاد الجهوي وجامعة الفلاحة التابعة لاتحاد الشغل، فقال إنه “لا بد للاتحاد أن يتحلى بالحكمة تجاه الوضع الحالي، ولنا في تاريخ الاتحاد حكماء مثل الحبيب عاشور”.
وأضاف النجار أن “القيادة الحالية للاتحاد برئاسة نورالدين الطبوبي شابة وفيها خليط سياسي وهناك أطراف دخلت المنظمة لها ارتباطات وسياسات وتعليمات ونود أن يفكروا في الاتحاد واستقلاليته.. على الاتحاد التمسك بالاستقلالية على عهد الزعيم الحبيب عاشور”.
وأردف “في عهد إسماعيل السحباني الذي تولى الأمانة العامة للاتحاد بين 1989 و2000، تم بالاتفاق مع السلطة على إزاحة كل النقابيين المستقلين، وهذا خلق فراغا، وسمح لليسار وبعض القوميين بأن يتحصلوا على مناصب في الاتحاد، كما هو الحال اليوم”.
ومضى قائلا “نتمسك بالاستقلالية حتى لا تجد السلطة ثغرة تتهم بها الاتحاد بالتسييس”، مضيفا أن تراجع دور الاتحاد “أمر خلقته السلطة باتهاماتها للاتحاد، وهو لا يتعلق بتراجع، بل بركود”.
وتابع ”دائما يعود الاتحاد في كل الأزمات منتصرا وأقوى.. الاتحاد له تاريخ وجذور شعبية وتأييد من كافة مكونات المجتمع في تونس”.
اصطدام مع التيار الديني
أشار الباحث عادل بن يوسف، في مداخلته بالندوة التي نظمتها “جمعية ابن الهيثم للثقافة والعلوم”، بعنوان “التداخل بين النقابي والديني من خلال تجربة الاتحاد العام التونسي للشغل”، أن الحركة النقابية والمنظمة النقابية الشغيلة في تونس كانت هدفا منذ نشأتها لتهجمات شيوخ الإسلام والأئمة وعلماء جامع الزيتونة والحركة السياسية للاتجاه الإسلامي ومن ثمة حركة النهضة ما بعد ثورة 2011.
وقال إن رموز التيار الديني اعتبروا الحركة النقابية “موالية للاستعمار” و”مخالفة للدين” و”صاحبة هيجان مفتعل” وصمتوا تجاه ما تعرض إليه العمل النقابي في البلاد من قمع وضرب لاستقلاليته، كما حمّلوا الاتحاد مسؤولية كل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية وطرحوا فكرة تكوين اتحاد إسلامي للشغل وهي مواقف تجد جذورها في أفكار حركة الإخوان المسلمين المصرية منذ ظهورها في نهاية العشرينات من القرن الماضي مستحضرا إحدى توصياتهم لأنصارهم بالانخراط في الحزب الحاكم والمنظمة الشغيلة للتهيئة للحكم”.
وأضاف بن يوسف أن الحركة النقابية وحركة تحرير المرأة والمجتمع ومنذ بداياتها مع محمد علي الحامي والطاهر الحداد اصطدمتا مع التيار الديني وبقيتا في صراع متواصل معه إلى الوقت الحاضر.
من ناحيته، بين أستاذ التعليم العالي ورئيس جمعية ابن الهيثم خميس العرفاوي في محاضرة بعنوان “الحركة النقابية بين الاستقلالية والتبعية” أن المنظمتين النقابيتين التونسيتين الرئيسيتين (جامعة عموم العملة التونسيين التي أسسها الزعيم محمد علي الحامي في نوفمبر 1924 والاتحاد العام التونسي للشغل) تأسستا على قاعدة الاستقلالية عن النقابات الفرنسية والأحزاب السياسية وتحديدا عن الحزب الدستوري المعروف بعمله المستمر على توظيف المنظمة النقابية لتحقيق أهدافه السياسية وجعلها أداة من أدواته.
وقال إن الاتحاد العام التونسي للشغل حافظ على علاقات طيبة مع الحزبين الدستوري القديم والجديد منذ تأسيسه وانخرط في الكفاح الوطني من أجل الاستقلال وانحاز للرئيس الحبيب وبورقيبة في صراعه مع القيادي المنشق عن الحزب صالح بن يوسف وخاض صراعا مع الحزب الحاكم والسلطة إثر الاستقلال لأنهما عملا على احتواء كل المنظمات ولاسيما المنظمة النقابية.
وأشار إلى أن أوج الصراع بين السلطة والحزب الحاكم تجسد في أزمة 26 جانفي (يناير) 1978 التي هزت البلاد باضطرابات كبرى وأدت إلى ضرب الحركة النقابية وتطويعها في عهد بورقيبة وحكم زين العابدين بن علي فظهرت قيادات نقابية مسيطرة موالية للحكم لكن التيار الاستقلالي ظل موجودا مدافعا عن العودة إلى خط الاستقلالية.