في تفسير التفاهم المصري الكبير مع قطر

الدوحة تريد من تجاوبها مع القاهرة تأكيدَ أنّها خرجت من المقاطعة العربية قوية.
الجمعة 2021/06/25
لا أحد يرغب في العودة إلى الوراء

تشهد العلاقات المصرية – القطرية تقدما ملحوظا عكسه قرار الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي الأربعاء تعيين سفير فوق العادة لدى الدوحة لأول مرة منذ اندلاع الأزمة الخليجية، في خطوة تهيئ الأجواء لانطلاقة جديدة تتجاوز بشكل خاص عقدة جماعة الإخوان. وفيما تريد الدوحة تثبيت نتائج المصالحة الخليجية وإظهار أنها خرجت من المقاطعة العربية قوية ترى القاهرة أن نجاحها في القيام بدور إقليمي مؤثر ومواجهتها جملة من القضايا الاستراتيجية يتطلب انتهاج سياسة خارجية براغماتية توازن بين جميع اللاعبين في المنطقة.

قطعت العلاقات بين مصر وقطر شوطا كبيرا خلال فترة وجيزة، على عكس الحال مع تركيا، مع أن مؤشرات التقارب بين القاهرة وكل من الدوحة وأنقرة بدأت في توقيت واحد تقريبا. وما يؤكد هذا التباين تعيين سفير فوق العادة مفوضا لمصر لدى قطر الأربعاء، هو السفير عمرو الشربيني، وهي أعلى مرتبة دبلوماسية وترمز عادة للقيام بمهام خاصة، بينما لا تزال العلاقات مع تركيا غير مستقرة وتراوح مكانها.

أوحى تعيين سفير فوق العادة بأن القاهرة باتت مقتنعة بحُسن نوايا الدوحة وأن الملفات الخلافية سواء تمت تسويتها أو نسيانها وتجاهلها لم تعد تؤثر على مسار العلاقات بينهما؛ فقد شرع البلدان في المضي قدما لتعزيز التعاون بينهما وعدم النظر إلى الوراء، وهي رسالة تعزز الطابع البراغماتي في إدارة السياسة الخارجية.

حوت تحركات وإشارات عديدة من قبل الجانبين ما يكفي للجزم بوجود تحسن ملموس وتصويب للكثير من المسارات بينهما، أبرزها زيارة وزير الخارجية المصري سامح شكري للدوحة في 13 يونيو الجاري، وانعقاد اجتماع طارئ لوزراء الخارجية العرب في قطر لمناقشة أزمة سد النهضة الإثيوبي لدعم موقفي مصر والسودان.

ومن المتوقع أن يقوم أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني بزيارة مصر وتلبية دعوة وجهها إليه السيسي مع وزير خارجيته سامح شكري قبل أن يلبي دعوة تميم التي تلقاها منه أولا في زيارة وزير خارجية قطر محمد بن عبدالرحمن آل ثاني للقاهرة في مايو الماضي، والتي كانت بداية للنقلة النوعية الحالية.

من مهام السفير المصري تهيئة الأجواء لانطلاقة جديدة بين القاهرة والدوحة تتجاوز عقدة جماعة الإخوان ورواسبها السياسية

تسير العلاقات بين البلدين بشكل محسوب بدقة، وبناء على حزمة من المصالح على مستويات ثنائية وإقليمية ودولية، وتجد من القواسم المشتركة ما يعزز أطرها، وثمة تطورات متعددة تصب في صالحها وحرصٌ على عدم تعكير ملامح الود الظاهر حاليا، حيث تجري عملية معالجة الملفات الخلافية تدريجيا، ويحرص كل طرف على أن يتم تخفيض حدة التصعيد إلى أدنى مستوى واستبداله بالتفاهم إلى أبعد مدى.

لم تتخل شبكة الجزيرة القطرية عن انتقاداتها تماما للنظام المصري حتى الآن، ولم يتبدل خطابها كما هو متوقع، ولا تزال تمارس هوايتها في استضافة عناصر إخوانية أو محسوبة على الجماعة وتتعاون معها، ربما تكون حدة نبرة البرامج أقل نسبيا مما كانت عليه في السابق، لكنها لم تخل من اتهامات مباشرة أو مبطنة للنظام المصري، بينما تكاد تكون وسائل الإعلام المصرية خالية من ذكر الدوحة بالسلب أو بالإيجاب.

لا تريد القاهرة التوقف عند ألاعيب الجزيرة وما تبثه من قضايا تتنافى مع ما قطعته العلاقات السياسية مع الدوحة من أشواط على طريق التطور، لأن الأخيرة تعهدت بالوقف تدريجيا للحفاظ على مصداقيتها، وإلى حين اتخاذ خطوات عملية كبيرة، مثل تبادل الزيارات بين قائدي البلدين، وهنا تبدو الفرملة طبيعية وواجبة.

يشير تعيين سفير فوق العادة إلى أن الفترة المقبلة ستشهد المزيد من التقدم السياسي، فمن مهامه العمل على تصفية ما تبقى من خلافات وتهيئة الأجواء لانطلاقة جديدة بين القاهرة والدوحة تتجاوز عقدة جماعة الإخوان ورواسبها السياسية والأمنية، والتي فقدت جزءا كبيرا من تأثيرها داخل مصر وخارجها.

لن تكون قطر أشد خطرا على مصر من حركة حماس التي ترقد على مرمى بصر من حدودها في قطاع غزة، ومع ذلك أعادت القاهرة صياغة العلاقات مع الأخيرة بما جنبها منغصات أمنية دقيقة ومنحها حضورا قويا في القضية الفلسطينية.

Thumbnail

يعمل النظام المصري بطريقة وضع خصومه تحت مجرة أفضل من تركهم يمرحون ويشتتون انتباهه، فمن القضايا الإقليمية ما هو أهم على الصعيد الإستراتيجي من التفرغ لتصفية الحسابات مع حماس أو قطر، وطالما هناك وسيلة للمصالحة فلا مانع، لأن مصر تتعامل من منطلق أنها الدولة العربية الشقيقة التي يجب أن تغفر وتسامح وتحتضن الجميع، وهذا إحدى سمات القوى التي تريد القيام بدور إقليمي مؤثر.

تريد قطر من تجاوبها مع مصر تأكيدَ أنها خرجت من المقاطعة العربية قوية، حيث استردت العلاقات مع كل من مصر والسعودية عافيتها ودون تقديم تنازلات أو التسليم بتنفيذ الشروط الـ13 المعلنة، وهي رسالة تفيد بأن الدوحة تستعيد عافيتها بينما من يصممون على مخاصمتها تتراجع رهاناتهم في المنطقة.

من التفسيرات المتداولة للتقارب أن القاهرة تيقنت من أن الدوحة نجحت في نسج شبكة علاقات جعلتها منفتحة على الكثير من الجهات المتعارضة، وبدلا من استمرار الصدام معها يمكن توظيف الطاقة القطرية لصالح تقويض الأزمات الإقليمية التي تحيط بها، وقد ظهر تعاون الدوحة مع القاهرة في حرب غزة وعدم مناكفتها في القطاع أو مناطحتها في صفقة الأسرى بين إسرائيل وحماس، واستعدادها لبذل جهد للمشاركة في حل أزمة سد النهضة.

تعلم مصر أن طموحات قطر في المنطقة قد تمثل منغصا لكنها لا تقف ندا إقليميا لها على غرار تركيا، وتعلم أيضا أن التحسن الحاصل مع الإدارة الأميركية لعب دورا في استدارة الدوحة نحو القاهرة، والعكس بالعكس، وتريد أن تحافظ على نفوذها في منطقة الخليج عبر قطر وسط الالتباس الراهن في العلاقات مع بعض دوله.

النظام المصري يعمل بطريقة وضع خصومه تحت مجهره أفضل من تركهم يمرحون ويشتتون انتباهه، فمن القضايا الإقليمية ما هو أهم على الصعيد الاستراتيجي من التفرغ لتصفية الحسابات مع حماس أو قطر

قطعت العلاقات شوطا إيجابيا عندما تيقن كل طرف من أن المعادلة بينهما ليست صفرية، بمعنى أن هناك إمكانية للتفاهم، ومكاسب أحد الطرفين أو خسائره لا تنعكس على الطرف الآخر، بمعنى أن المناطحة الممتدة غير واردة، وورقة الإخوان -أو ما يمكن وصفه بـ”الإسلاموية القطرية”- فقدت بريقها وبدأت أهميتها تتقلص في المعادلة بين البلدين.

في المقابل يتم النظر إلى العلاقات بين القاهرة وأنقرة من بابي المناطحة الإقليمية و”الإسلاموية التركية”، وهما في مقدمة العوامل التي تعرقل التحسن بين البلدين، وحتى حدوثه لن يلغي دورهما في منظومة الخطاب الرسمي التركي الذي يحمل طموحات في المنطقة لن يستقيم تحقيقها في ظل تنامي الدور المصري، ويحمل أفكارا أيديولوجية لن تتلاشى مع إرضاء أنقرة للقاهرة بوقف برامج إعلامية إخوانية.

يمكن تفسير جوانب مهمة من التعثر الراهن بين الدولتين في إطار هذين المحددين، فتركيا تريد الحصول من مصر على صك براءة للتعاون معها في بعض القضايا الإقليمية والانفتاح على غيرها بما يسمح لها بممارسة تصرفاتها بليونة، بدلا من الخشونة التي تبنتها ولم تحقق لها كل أهدافها، وصرف النظر عن الإخوان لأن تقاطعاتهم تضرب في عصب حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا.

ما أدى أيضا إلى تسهيل عملية التقارب مع قطر أكثر من تركيا أن الأولى تمتلك حضورا أشد تغلغلا في بعض القضايا، بنت أركانه طوال السنوات الماضية التي بلغت فيها القطيعة العربية للدوحة حدا كبيرا دفعها إلى التفكير في امتلاك بدائل إقليمية والحصول على أدوات ناجزة ساعدتها على تطوير تأثيرها الناعم، الأمر الذي تحاول القاهرة الاستفادة منه في تسوية بعض أزماتها الإقليمية.

إن التوازن الذي تقيمه قطر بين كل من إيران وتركيا ثم مصر والسعودية يمنحها فرصة جيدة للقيام بأدوار إقليمية أكبر من قدراتها كدولة صغيرة، وأفضل مما كانت تقوم به في السابق مع التنظيمات الإسلامية في الخفاء، فالمساحة الجديدة التي تتطلع إليها يمكن أن تحولها إلى رقم أكثر أهمية في المنطقة.

Thumbnail
7