فيوسا عثماني رئيسة تكافح لبناء دولة قانون في بلد يشبه بلدان الشرق

تواجه المرأة التي عاشت أزمنة الحروب وخرجت منها حيّة، حول أنحاء العالم، العديد من التحديات الذاتية والموضوعية، أبرزها تعزيز دورها في المشاركة الفعالة في الشأن العام، بسبب ما يسود تلك الفترات من انعدام للمساواة بين الجنسين وتصدّر الذكورية السياسية، وتتفاقم المشكلة أكثر بعدم إيلاء قضايا المرأة الاهتمام الذي تستحقه.
وعادة ما يتركز الاهتمام على المسائل التي يعتبرها القادة السياسيون أكثر إلحاحا، مثل إعادة الإعمار وتقاسم النفوذ والسلطة، متجاهلين بذلك حضور المرأة الداعم لاستقرار المجتمع من خلال دورها في التنمية والصحة والتعليم.
أما مشاركة المرأة في الحياة السياسية فتعتبر، بحد ذاتها، حربا جديدة تخوضها المرأة في الحالات التي تلي النزاعات، لأن أولوياتها ترتبط بتنمية المجتمع والاقتصاد على عكس القادة العسكريين أو السياسيين الرجال الذين ينظرون إلى المكاسب الشخصية والحزبية. وهذا ما فعلته فيوسا عثماني الرئيسة الحالية لكوسوفو والتي أثبتت أن الأمر مختلف ولا توجد قاعدة ثابتة في هذا السياق العرفي، فهي قيادية في الحزب الذي تدرّجت فيه فوصلت إلى البرلمان وترأسته، إلى أن حكمت بلادها بالإنابة إثر استقالة هاشم تقي من منصب الرئيس، بعد أن وجهت إليه المحكمة الخاصة ومقرها لاهاي تهمًا بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
صياغة الجمهورية
شهد شهر أبريل الماضي مشهدا غير عادي، حين صوّت البرلمان في كوسوفو على الخبيرة القانونية عثماني ابنة الـ38 عاما رئيسة للبلاد، كثاني زعيمة بعد الانفصال ترأس كوسوفو. وقد نجحت عثماني بالفعل في كسب 71 صوتا من أصل 82 نائبا شاركوا في التصويت في البرلمان المؤلف من 120 مقعدا، لتتربع على كرسي الرئاسة في بلد أنهكته الحرب في السابق ثم تلتها خلافات الأحزاب السياسية.
تعدّ عثماني من رعيل الشباب الذي يحمل أفكارا حداثية بسبب دراستها العليا في الماجستير والدكتوراه في جامعة بيتسبرغ الأميركية بعد أن أنهت البكالوريوس في جامعة بريشتينا في كوسوفو، وكانت قد عملت من قبل في التدريس في الولايات المتحدة لمادة “بناء الدولة والقانون” معتمدة على تجربة كوسوفو. وهي تتمتع بخبرات قانونية وسياسية عديدة، وسبق لها أن ترأست اللجنة البرلمانية للشؤون الخارجية، ولجنة التكامل الأوروبي، وشغلت منصب نائب رئيس لجنة الإصلاح الدستوري.
طموح حزب عثماني القومي في الوحدة مع ألبانيا يزيد من صعوبة مهمتها في الحفاظ على نهج الدولة بالانفتاح والديمقراطية و الحقوق المتساوية والفرص العادلة، وبالمقابل قد يكون لها دور كبير في تأسيس علاقات قوية مع الاتحاد الأوروبي
كما شغلت عثماني منصب رئيس لموظفي رئيس الدولة وعملت مستشارة للشؤون القانونية والعلاقات الدولية له، ومثلته في لجنة صياغة دستور الجمهورية. وكانت عضوا في فريق بلادها في القضية المعروضة على محكمة العدل الدولية بشأن إعلان استقلال كوسوفو. وهي عضو في مجلس إدارة الشبكة البرلمانية للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي وعضو في اللجنة التوجيهية للأعضاء الجدد فيهما أيضا.
ومن أجل ذلك كلّه، أتقنت السياسية الشابة، عدة لغات، فهي تتحدث الإنجليزية والتركية والصربية والكرواتية ويمكنها التواصل بالإسبانية وهذا يعتبر مدخلا مهمّا في عالم السياسة في بلد مثل كوسوفو يقع في جنوب شرق أوروبا لديه مشكلات عديدة منها مسألة الاستقلال والاعتراف الدولي. ولعملها الكثيف من أجل الإنسانية استحقت عثماني التكريم بجائزة “شيث للإنجاز الدولي” من خلال مساهمتها في مجال حقوق الإنسان في جامعة بيتسبرغ الأميركية.
انتظر حلف الناتو عقدا من الزمن قبل أن يتدخّل ويقصف صربيا لمنع وقوع المزيد من المجازر والتطهير العرقي من قبل الصرب بحق الإثنية الألبانية عندما كان إقليم كوسوفو يتمتع بالحكم الذاتي. ومذاك التاريخ اتخذت الأمم المتحدة قرارها رقم 1244 بإدارة كوسوفو ولمدة تسع سنوات أدت في فبراير عام 2008 إلى إعلان استقلال كوسوفو في جلسة برلمانية تاريخية، لتكثف في ما بعد سلطات صربيا حراكها لمنع استقلال كوسوفو وفق نص دستوري يعتبر الإقليم خاضعا لسيادة الدولة الصربية وأي إعلان أحادي من حكومة العاصمة بريشتينا مرفوض ما لم يعد للبرلمان الصربي.
ولكن العناد الصربي جوبه بقرار محكمة العدل الدولية المرسل للأمم المتحدة في يوليو 2010 من قبل رئيسها آنذاك الياباني هيساشي أُوادا الذي أنكر على الصرب حقهم في تقرير مصير الإقليم.
ما وراء التطبيع مع إسرائيل
في عهد ما بعد استقلال الإقليم كثيرا ما تساءلت الأغلبية المسلمة في كوسوفو والتي تشكل 95 في المئة من سكان البلاد عن سبب تأخر اعتراف الدول العربية بدولتهم الناشئة، ودعمها اقتصاديا، لملاصقتها للدول الأوروبية ذات الرفاه الاقتصادي والحريات والتي تتمتع برصيد ديمقراطي سياسيا ومجتمعيا ووفرة من حقوق الإنسان.
كل تلك الأحداث حصلت والطالبة الكوسوفية عثماني لازالت في مرحلة التخصص الأكاديمي في الولايات المتحدة، إلى أن شاء القدر وتفوقت في تخصصها وعادت إلى بلادها حاملة لواء النهضة بعد أن شهدت كوسوفو عقدا داميا من الزمن وعقدا آخر من الدراما السياسية تخللها نضال مستميت من أجل الاستقلال والانفصال عن صربيا.
ومن الواضح أن الطريق الذي سلكته السياسية والقانونية الكوسوفية لن يكون معبدا بالورود، بل سيتخلله بعض المطبات بسبب رفض أحزاب المعارضة لقانون الانتخابات وآلية وصول الرئيسة عثماني، متوجسة من سيطرة حزب “فيتفيندوسيي” والتي تعني “تقرير المصير” على السلطات التشريعية والتنفيذية وكرسي الرئاسة.
سيجعل هذا من مهمتها صعبة للغاية، بسبب طموح حزبها التقدمي القومي في الوحدة مع ألبانيا والحفاظ على نهج الدولة في الانفتاح والديمقراطية والحفاظ على مبدأ الحقوق المتساوية والفرص العادلة.
طريق السياسية والقانونية الكوسوفية لن يكون معبدا بالورود، بل ستتخلله العديد من المطبات بسبب رفض أحزاب المعارضة لقانون الانتخابات، وتوجّسها من سيطرة حزب {تقرير المصير} على السلطات التشريعية والتنفيذية وكرسي الرئاسة
لكن بالمقابل، وفي وجود سيدة لديها خبرات قانونية ومقومات في العمل السياسي قد يكون ذلك بداية لعلاقات قوية وبناءة مع دول الاتحاد الأوروبي ويؤسس لشراكة تنهض بالاقتصاد المحلي لكوسوفو، لاسيما ما بعد جائحة كورونا التي نالت من اقتصادات الدول العظمى وبالتالي لن يسلم اقتصاد الدول الناشئة من تبعاتها.
تخطو جمهورية كوسوفو خطوات محسوبة نحو نسج علاقاتها الدولية، فقد وقعت قبل أشهر قليلة اتفاق تطبيع مع إسرائيل حصلت بموجبه على اعتراف باستقلالها عن صربيا، وحينئذ صرّحت وزيرة خارجيتها ميليزا هاراديناي ستوبلا قائلة “نحتفل بفصل جديد من الروابط التاريخية بين بلدينا اللذين سارا طريقا طويلا ومليئا بالتحديات للتواجد كشعب ودولة”.
لتنضم إسرائيل إلى معظم الدول الغربية الـ117 التي تعترف بجمهورية كوسوفو باستثناء خمسة أعضاء من دول الاتحاد الأوروبي إضافة إلى روسيا والصين.
نضال عثماني ومن خلفها نساء الأرض في عالم الرجال متواصل، فوفقا لتقرير الفجوة العالمية بين الجنسين لعام 2021 الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي، ستحتاج البلدان إلى أكثر من 135 عاما لسد الفجوة بين الجنسين، وهي زيادة 35 عاما عن تقريرهم لعام 2020. وذلك عبر القطاعات الأربعة التي تم قياسها بالتمكين السياسي، والمشاركة الاقتصادية، التعليم، والصحة، إذ تظهر أكبر الفوارق في التمكين السياسي، وهو مقياس للمساواة بين الجنسين في السياسة، يأخذ في الاعتبار التمثيل السياسي من المستوى البرلماني إلى رؤساء الدول، وهي فجوة سوف تستغرق 10 سنوات لإغلاقها.
ورغم تلك العوامل، فقد تفوّقت كوسوفو على الكثير من الدول من خلال مشاركة المرأة في الحياة السياسية بعد أن فرضت التشريعات على كل حزب سياسي ترشيح عدد من السيدات على قوائمه الانتخابية، أي أن الأمر متعلق بالسياسات التشريعية وليس بالثقافة المجتمعية التي تؤكد حق المرأة الكوسوفية من المشاركة في صناعة القرار الوطني.
التعافي المجتمعي
دعت عثماني إلى الحوار وتطبيع العلاقات مع صربيا قائلة “على بلغراد أن تعتذر أولا وتحاكم المسؤولين عن جرائم الحرب التي ارتكبت في كوسوفو” وهذا يندرج ضمن الخطابات التصالحية الشرطية التي تدعم استراتيجية التقارب خطوة بخطوة، وبالتالي فإن الخبيرة القانونية أخذت تستفيد من تخصصها إلى جانب منصبها السياسي لدفع عملية السلام مع صربيا نحو الأمام.
وستركز في بداية ولايتها الرئاسية على محاربة الفساد وتعزيز ثقافة القانون وفصل السلطات وحقوق المرأة إلى جانب الحريات العامة وصولا إلى التعافي المجتمعي والاقتصادي من خلال السياحة ودعوة المستثمرين إلى تنشيط الاقتصاد بالشراكة مع الحكومة.
ويمثل الحزب الحاكم الأغلبية العرقية في كوسوفو والتي تشكل فيه الأعراق النسب التالية؛ 86 في المئة ألبان، 5 في المئة صرب، 2 في المئة بوسنيون، 2 في المئة غجر، 1 في المئة غوران، في دولة لا يتجاوز عدد سكانها 2 مليون نسمة، وهنا يكمن دور الرئيسة عثماني في تقديم الطمأنينة والعدالة وتوزيع الفرص على شعب كوسوفو كافة.