فيلم "الرجال" ينقل رحلة امرأة محاصرة بالخيال والوهم

يتحول المكان في بعض الأعمال السينمائية إلى مساحة فلسفية تمنح المخرج حرية إسقاطها على الهواجس والمشكلات النفسية التي يعاني منها البطل، وهو ما يحدث في فيلم “الرجال” الذي يتحكم فيه المجتمع الذكوري في حياة المرأة فيجعلها محاصرة داخل أمكنة مختلفة يسكنها الخوف من أشخاص بعضهم حقيقة وبعضهم الآخر مجرد وهم مرعب يسكن خيالها.
يفرّ الكائن من أزمته باحثا عن حياة أخرى مختلفة أو يبحث عن أماكن أخرى ربما تحتويه وتخفف من التراجيديا التي يعيشها، هو تكرار لنمطية سائدة، ومنها الهجرة والنزوح. وفي كل الأحوال سوف يتحوّل المكان إلى عنصر رمزي وجمالي استثنائي.
ويحمل فيلم “الرجال” للمخرج أليكس غارلاند الكثير من هذه التفاصيل التي يتحول فيها المكان إلى نوع من الرمزية الفانتازية المغايرة التي تحتاج إلى استقراء عميق لفهمها.
تخرج المرأة الشابة هاربر (الممثلة جيسي باكلي) من قوقعة الأزمة، من دائرة المكان المغلق بما يحمله من صدمة وذكريات قاسية، تخرج من حياة زوجية غير مستقرة تجعلها تطالب بالطلاق في مقابل زوج مضطرب يرفض الفراق وينتهي به الأمر إلى الانتحار.

فيلم "الرجال" يتحول فيه المكان إلى نوع من الرمزية الفانتازية المغايرة التي تحتاج إلى استقراء عميق لفهمها
بالطبع تتداخل هذه الصور الموجعة في ذاكرة هاربر ولا وعيها ولا نكاد نلتحم معها في ما نشاهد، لأن الخيال والتهيؤات والهلوسة ومشاعر الصدمة تتداخل مع ما هو واقعي وحقيقي، لكن في كل الأحوال ثمّة شعور بالاضطهاد يقدّم بشكل فاقع من خلال الصفعة القاسية التي سوف تتلقاها هاربر من زوجها فتطيح بها أرضا.
يضيق المكان والذات بهاربر وتلمس في مكان آخر ناء فرصة لكي تلملم تشظّي ذاتها وحزنها وصدمتها وكذلك فجيعة الزوج ولهذا تلجأ إلى استئجار منزل بعيد في الريف الإنجليزي، منزل واسع وفي منطقة خضراء.
هنا سوف ننتقل دراميا مع هذه الشخصية الرئيسية إلى مرحلة أخرى وتحوّل آخر يتعلّق بحياتها الجديدة، لكن ها هي تفاجأ منذ البداية بشخص شبه مخبول ومختل يحوم حول المنزل، ثم وهي تروي للقس جانبا من الترويع الذي تعرضت له فإذ به يلامسها جسديا بشكل عفوي لكنّه في المقابل يلومها لأنها لم تمنح زوجها الفرصة والوقت الكافي لغرض أن يعبر عن نفسه أو أن يصحّح مساره.
هنا سوف تصدم هاربر وتجد نفسها في وسط واقع إشكالي وتعقيد عجيب، والحاصل أن المخرج في هذه الدائرة لم يقدّم ولا امرأة واحدة سوى صديقة هاربر التي تكلمها عن بعد عن طريق مكالمات بالفيديو بواسطة الهاتف المحمول.
هنالك من النقاد من رأى أن الفيلم أراد أن يرسم دائرة ذكورية من حول هاربر، وهنا تجد تلك المرأة في المنزل الذي استأجرته تلك البؤرة المكانية الإشكالية التي يحوم حولها رجال عدوانيون ما بين عار ومشرّد وبين القس وآخرين.
ولنعد إلى مشروع تلك الفانتازيا، فالمخرج يتعمّد زجّنا في دائرة من الغموض فضلا عن بث بعض المعطيات الرمزية ومثال ذلك العلاقة المشهدية المتكررة ثلاثية الحركة للتفاحة، الاقتراب ثم الملامسة ثم تذوٌق التفاحة على الشجرة التي هي في مقدمة المنزل المستأجر، أتراها إحالة ميثولوجية ودينية ترسخ فكرة المجتمع البطريركي الحاكم والمتحكم ابتداء من فكرة الثمرة التي جعلت آدم وحواء مبعدين إلى الأرض بفعل الغواية التي وقعت بسبب تلك الثمرة - التفاحة.
هذه الجدلية ما تلبث أن تتعمق بتعمّق أزمة هاربر فهي التي خرجت من المكان الكابوسي الذي كانت تتكرر فيه ذكرياتها الأكثر إيلاما مع زوجها، باتجاه المكان البديل بكل ما تعنيه فكرة التخلص من ذلك الثقل والمعاناة التي كانت سائدة في ما مضى والتي تتطلع إلى إزاحتها في هذا المكان البديل.
لا تسير هذه الدراما الفيلمية كما نتوقع ومساحة التشويق والترقب تضيق مع سلسلة اللامتوقع مثل أن ينخرط “الرجال” المحيطون بالمنزل في مسار واحد وهدف مشترك هو الإيقاع بها ومثل التحول في الدراما الفيلمية إلى أجواء الرعب والقتل الفوضوي والعبثي وحتى الترويع من خلال التركيز على صورة الكف والذراع وهي تنشقّ إلى شقّين وتكرار ذلك بطريقة مسرفة ومبالغ فيها.
ولنمضي مع هاربر حتى وهي في حالة الهرب وبدل أن توقع بمن يضيّق عليها فإنها توقع بصاحب المسكن الذي استأجرته منه، العبثية واللاجدوى تضيف إلى أعباء هذه الدراما وإشكالياتها ما يصعب تفسيره إلا من خلال الإحالة إلى فكرة الصراع الأنثوي – الذكوري التي تحوّلت إلى حرب بين الطرفين ولا مناصر لهاربر سوى شقيقتها.
هنالك الكثير من الإحالات التي سبق وشاهدناها في أفلام السبعينيات مثلا والتشبث بالرموز والإحالات النفسية والميثولوجية وفي ذلك ابتعد السرد الفيلمي عن مساره المتدرج إلى دراما وشخصيات يكتنفها كثير من الغموض وتطرح من حولها العديد من الأسئلة التي من الصعب العثور على إجابات مباشرة عنها.
وأما لجهة الفانتازيا ورمزية المكان الجديد وإحالاته فقد شهدنا تحوّلات مباشرة في زج هاربر في منزل منزو ومعزول وسوف يكون من البديهي وتحصيل حاصل أن تشعر امرأة وحيدة في وسط حقول وما يشبه الغابة بالوحشة وهي تعيش معزولة لوحدها، هذا التمهيد لوحده كان كافيا لنتقبل العديد من الاحتمالات أقلها محاولة السطو أو السرقة أو ما شابه ذلك.
في المقابل قدمت الممثلة جيسي باكلي الكثير في إطار الشخصية الواحدة والوحيدة في مأزقها الذاتي والأذى الذي يحيط بها من كل جانب وبذلك استخدمت كل طاقتها لكي تنتصر لنفسها لكنها كانت تجد نفسها في كل مرة أسيرة قوة صراع أشد شراسة منها.