فواتير مصرية متشابكة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا

تحرير سعر صرف الجنيه خطوة مهمة إذا أُحسن استغلالها.
الأحد 2024/03/10
الرواية السلبية لقرار التعويم تربك الحكومة

التفاؤل الذي حملته الاستثمارات الإماراتية على الجهات الحكومية في مصر لم يتسلل بشكل كامل إلى المواطنين، الذين يتخوفون من أن تذهب الأموال إلى مشاريع استعراضية كما حصل في السابق.

تتكبد كل الدول ضرائب مختلفة، كبيرة أم صغيرة، للقرارات الصعبة التي تتخذها، المهم أن تكون مستعدة لدفع الفواتير المتشابكة لعبور المرحلة التي أدت بها إلى تبني القرارات، فالخطوة التي اتخذتها الحكومة المصرية بشأن تحرير سعر الصرف على أساس مرن أخيرا، أثارت ردود فعل حول قدرتها في الدفاع عنها وتجنب آثارها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتحويلها إلى فرصة إيجابية في مدى زمني قريب.

تردد قبل أيام، حديث معاد حول تقديم القاهرة تنازلات سياسية مقابل أموال استثمارية تدفقت وسوف تتدفق عليها لاحقا، وقيل إن هذه الأموال هي التي شجعت الحكومة على قرار التعويم الجديد للجنيه المصري، وبدت العلاقة ضمنية بين ما يجري من تطورات سياسية وأمنية في المنطقة وعلى رأسها الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وبين بعض الخطوات الاقتصادية التي دشنتها الحكومة المصرية.

زادت التكهنات حول عملية الربط من الضغوط الواقعة على القاهرة التي لم تقدم إجابات مقنعة حول الأسئلة التي اصطحبتها التفسيرات المتباينة، وصمتت أحيانا في التفاعل معها، بحجة أن أصحابها لهم أغراض سياسية معينة، وحصرها في حيز التشكيك في جدوى الخطوات الإيجابية التي تتبناها القاهرة.

انتشرت الرواية السلبية لقرار التعويم، وبدأت تأخذ منحى تصاعديا، وهي ضريبة حتما تدفعها الحكومة وإن لم تكن هناك حرب في غزة أو تحديات إقليمية حرجة، فهذه التطورات من المفترض أن تؤدي إلى العكس، أي تلتزم الحكومة الهدوء ولا تقدم على خطوات جريئة في خضم أمواج متلاطمة، وتحاول تهدئة المواطنين عبر إجراءات حمائية متعددة، وليس قرارات تكبّدهم خسائر اقتصادية.

◙ خطوة تحرير سعر صرف العملة المحلية تؤكد ثقة النظام المصري في خطواته واقتناعه بأهميتها كوسيلة لإنقاذ البلاد

وتؤكد خطوة تحرير سعر صرف العملة المحلية في هذه الأجواء ثقة النظام المصري في خطواته، واقتناعه بأهميتها كوسيلة لإنقاذ البلاد من أزمة اقتصادية طاحنة، فالسرديات التي صاحبتها انصبت على استنتاجات وقراءات سلبية للأوضاع الإقليمية، كان يمكن للحكومة الرد عليها بسهولة ووضوح وشفافية، غير أن الغموض الذي اكتنف ردودها منح اتهامات راجت حول وجود أثمان سياسية فرصة للانتشار.

تستطيع الحكومة الرد على الاتهامات والانتقادات السياسية بشرح المعاني الاقتصادية التي ينطوي عليها تعويم الجنيه هذه المرة، فقد وصلت البلاد إلى مرحلة خطيرة من الانسداد في مجال الاستثمار، وأوقف الكثير من العاملين فيه نشاطهم بمصر أو لوحوا بذلك بسبب ازدواج سعر صرف العملة، فالبنوك الرسمية تعلن عن سعر منخفض، ويتم التداول في السوق الموازية أو السوداء بسعر وصل إلى الضعف بالنسبة إلى الدولار.

يعرقل هذا الازدواج كل عمل اقتصادي مؤسسي، ويحول دون قدرة المستثمرين على وضع تصورات محددة للسوق المصري، وما إلى ذلك من تشوهات تنجم عن هذه الحالة المرتبكة، ناهيك عن تأجيل صندوق النقد الدولي دفعات من قرض تم الاتفاق عليه بسبب تحفظات، أبرزها عدم وجود سعر مرن للصرف، ما يعزّز أهمية الخطوة من الناحية الاقتصادية، ويفتح أبوابا عديدة نحو جذب المزيد من الاستثمارات.

يتوقف النجاح على محدّدين مهمّين، أحدهما قدرة الحكومة في القضاء على منع وجود سعرين للصرف، وتبنّي سياسات اقتصادية رشيدة تقضي على خلل حدث في السنوات الماضية، والثاني توجيه جزء كبير من القروض الجديدة وعوائد الاستثمارات لعمليات منتجة، تظهر فوائدها على المواطنين بصورة سريعة، وتحاشي الإسراف في المزيد من المشروعات العملاقة التي لا تشعر بها مباشرة شريحة من المواطنين.

تبدو الحكومة منتبهة هذه المرة إلى هذين المحددين وتداعياتهما، لأن تكرار سياستها السابقة وعدم وجود مردود ملموس سينعكسان على أحوال الناس ويؤديان إلى نتائج سلبية، ويؤكدان الاتهامات السياسية التي وجهت للحكومة من جانب قوى معارضة، وأنها لا تستفيد من أخطائها، وليس من السهل أن تتأقلم الأنشطة الاقتصادية مع هزات جديدة في سعر العملة، والثقة التي عادت يجب عدم التفريط فيها، حيث ظهرت مؤشرات إيجابية في بعض التقارير الدولية تشجع على الاستثمار في مصر الفترة المقبلة.

ومن الضروري شعور فئة كبيرة من المواطنين بأن الإصلاحات الاقتصادية تصبّ في صالحهم وأنهم سوف يجنون من ورائها ثمارا على المدى البعيد، وما يدفعونه من ضرائب مادية ومعنوية الآن لن يكون عديم الفائدة في المستقبل، وذلك بالتوازي مع توسيع نطاق الحماية الاجتماعية المقدمة لقطاع كبير فقير في البلاد، ما يمثل تحديا جارفا في توفير الحد الأدنى له من الاستقرار المجتمعي، وعودة الأمل إليه وتطمينه أن ما جرى ويجري تطبيقه من تصورات يصب في صالحه.

◙ القاهرة تدرك أنها أمام فرصة يمكن استثمارها بشكل جيد عبر تبنّي رؤية شاملة لأن الاقتصاد لن ينتعش في غياب الإصلاحات التي تستوعب الآخر

تأتي المشكلة المركزية من الانحراف عن فضيلتي الاستقرار والأمل، لأنهما العاصم الذي يوفر الحماية الداخلية للخطوات الاقتصادية، والوسيلة التي تمنع تحقيق أهداف من يسعون للاصطياد في أخطاء الحكومة وما تفضي إليه من تراكمات قاتمة، وتحمل معها تأثيرات سياسية معقدة إذا لم تُحسن الحكومة استغلال الفرص الجديدة بعد تفويت النظام المصري فرصا عدة سابقة عندما تدفقت عليه مساعدات ومنح خليجية سخية، وتم توجيه جزء منها إلى قطاعات كان يمكن تأجيلها.

تقول الحكومة إن الأموال التي تدفقت سابقا تم صرفها في مجالات تنموية حيوية، وهي جدلية لا فائدة من تكرار الحديث عنها، لأنها تتعلّق برؤيتها لترتيب الأولويات، بينما رؤية الشارع وفئة من الخبراء والمتخصصين بعيدة عنها، فالمهم تحقيق التوازن بين المنهج الذي تتمسك به القاهرة في فهمها للإصلاحات الاقتصادية وبين سد الحاجات الأساسية للمواطنين، فوجود هوة بينهما لن يمكّن النظام الحاكم من الوصول إلى أهدافه على المدى الطويل، ولن يمكّن الناس من الصبر وتحمل التقشف والروافد الناجمة عن استكمال الإصلاحات الهيكلية في الاقتصاد.

من المؤكد أن المرحلة القادمة ليست سهلة على النظام المصري أو المواطنين، لكن يجب اجتيازها لعدم توافر بدائل أخرى، فالدفعة التي حصل عليها الاقتصاد بخطوة العمل بالسعر المرن للصرف، تحتاج إلى توظيفها في استكمال ما تبقى من خطوات، تتمثل في توسيع مجال الحركة أمام القطاع الخاص، والخروج الآمن للدولة من بعض الأنشطة ويصبح السوق حرا أمام الجميع، والاستثمارات الواعدة التي يجري الحديث عنها تنتعش في بيئة صحية متكاملة، وتحتاج أن تتوافر فيها عوامل المنافسة.

تدرك القاهرة أنها أمام فرصة يمكن استثمارها بشكل جيد عبر تبنّي رؤية شاملة، لأن الاقتصاد لن ينتعش في غياب البيئة السياسية والإصلاحات التي تستوعب الآخر، فأول شيء يتطلع إليه المستثمر شكل النظام الحاكم في أيّ دولة وقناعته بالحريات وحال وسائل الإعلام فيه واحترام حقوق الإنسان، ولن تكتمل ثمار النجاح الاقتصادي وسط انتشار الفقر والمعاناة الاجتماعية الممتدة، ما يجعل الفواتير المصرية إما باهظة أو محدودة.

غراف

4